الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{مُّذَبۡذَبِينَ بَيۡنَ ذَٰلِكَ لَآ إِلَىٰ هَـٰٓؤُلَآءِ وَلَآ إِلَىٰ هَـٰٓؤُلَآءِۚ وَمَن يُضۡلِلِ ٱللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُۥ سَبِيلٗا} (143)

قوله تعالى : { مُّذَبْذَبِينَ } : فيه ثلاثةُ أوجهٍ أحدُهما : أنه حال مِنْ فاعل " يُراؤون " الثاني : أنه حالٌ من فاعل " ولا يَذْكَرُون " الثالث : أنه منصوبٌ على الذمّ والجمهور على " مذبذّبين " بميمٍ مضمومة وذالين معجمتين ثانيتهما مفتوحةٌ على أنه اسم مفعول ، من ذبذبته فهو مُذَبْذَب أي : متحيِّر . وقرأ ابن عباس وعمرو بن فائد بكسر الذال الثانيةِ اسمَ فاعل ، وفيه احتمالان ، أحدهما : أنه من " ذَبْذَبَ " متعدِّياً فيكونُ مفعولُه محذوفاً أي : مُذَبْذِبين أنفسهم أو دينَهم أو نحوَ ذلك . والثاني : أنه بمعنى تَفَعْلَل نحو : " صَلْصَلَ " فيكون قاصراً ، ويَدُلُّ على هذا الثاني قراءةُ أُبَيّ وما في مصحف عبد الله : " مُتَذّبْذِبين " فلذلك يُحْتَمَلُ أن تكونَ قراءةُ ابنِ عباس بمعنى متذبذبين . وقرأ الحسن البصري " مَذَبْذَبِين " بفتح الميم . قال ابن عطية :

" وهي مردودة " ولَعَمْري لقد صدق ، ولا ينبغي أن تَصِحَّ عنه . واعتذر الشيخ عنها لأجل فصاحة الحسن واحتجاج الناس بكلامه بانَّ فتح الميم لأجل إتباعها بحركة الذال قال : " وإذا كانوا قد اتبعوا في " مِنْتِن " حركة الميم بحركة التاء مع الحاجز بينهما ، وفي نحو " منحدْر " أتبعوا حركة الدال بحركة الراء حال الرفع مع أنَّ حركةَ الإِعرابِ غيرُ لازمة فَلأَنْ يُتْبعوا في نحو " مَذَبذبين " أولى . وهذا فاسدٌ لأن / الإِتباع في الأمثلة التي أوردها ونظائرها إنما هو إذا كانت الحركةُ قويةً وهي الضمةُ والكسرةُ ، وأمَّا الفتحةُ فخفيفةٌ فلم يُتْبِعُوا لأجلها . وقرأ ابن القعقاع بدالين مهملين من الدُّبَّة وهي الطريقة ، يقال : " خَلَّني ودُبَّتي " أي : طريقتي قال :

طَها هُذْرُبانٌ قَلَّ تغميضُ عيِنِه *** على دُبَّةٍ مثلِ الخَنيفِ المُرَعْبَلِ

وفي حديث ابن عباس : " اتَّبِعوا دُبَّة قريش " أي : طريقها ، فالمعنى على هذه القراءة : أنْ يأخذَ بهم تارةً دُبَّةً وتارة دُبَّةً أخرى ، فَيَتْبَعُون متحيِّرين غيرَ ماضين على طريق واحد .

ومُذّبْذَب وشبهُه نحو : مُكَبْكَب ومُكَفْكَف مِمَّا ضُعِّف أولُه وثانيه وصَحَّ المعنى بإسقاط ثالثِه فيه مذاهبٌ ، أحدُهما : - وهو قولُ جمهورِ البصريين - أنَّ الكلَّ أصولٌ ، لأنَّ أقلَّ البنية ثلاثةُ أصولٍ وليس أحدُ المكررين أَوْلى بالزيادةِ من الآخر . الثاني - ويُعْزَى للزجاج - أنَّ ما صَحَّ إسقاطُه زائدةٌ . الثالث : - وهو قول الكوفيين - أن الثالث بدل من تضعيف الثاني ، ويزعمون أن أصل كفكف : كَفَّفَ بثلاث فاءات ، وذبذب : ذَبَّب بثلاث باءات فاستُثْقِل توالي ثلاثةِ أمثالٍ فَأَبْدَلوا الثالثَ من جنس الأول ، ولهذه المذاهب موضوعٌ غيرُ هذا حَرَّرْتُ مباحثَهم فيه ، أمَّا إذا لم يَصِحَّ المعنى بحذفِ الثالث نحو : سِمْسم ويُؤْيؤ ووعْوَع فإنَّ الكلَّ يزعمون أصالةَ الجميعِ . والذبذبة في الأصل : الاضطرابُ والتردُّد بين حالتين .

قال النابغة :

ألم تَرَ أنَّ اللّهَ أَعْطاك سُورةً *** تَرَى كُلَّ مَلْكٍ دونَها يَتَذَبْذَبُ

وقال آخر .

خيالٌ لأمِّ السَّلْبيل ودونَها *** مسيرةُ شهرٍ للبعيرِ المُذَبْذِبِ

بكسر الذال الثانية . قال ابن جني : " أي القَلِق الذي لا يستقر " قال الزمخشري : " وحقيقةُ المذبذب الذي يُذَبُّ عن كلا الجانبين أي يُذاد ويُدْفع فلا يقرُّ في جانبٍ واحد ، كما يقال : " فلان يُرْمَى به الرَّحَوان " إلا أنَّ الذبذبة فيها تكريرٌ ليس في الذَبِّ ، كأنَّ المعنى : كلما مالَ إلى جانبٍ ذَبَّ عنه " .

و " بين " معمولٌ لقوله : " مُذَبْذَبين " و " ذلك " إشارةٌ إلى الكفر والإِيمان المدلولِ عليهما بذكر الكافرين والمؤمنين ونحو :

إذا نُهِي السفيهُ جَرَى إليه *** . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

أي : إلى السَّفَهِ لدلالةِ لفظ السفيه عليه . وقال ابن عطية : " أشير إليه وإن لم يَجْزِ له ذِكْرٌ لتضمن الكلام له نحو : { حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ } [ ص : 32 ] { كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ } [ الرحمن : 26 ] يعني توارَت الشمسُ وكلُّ مَنْ على الأرض . قال الشيخ : " وليس كذلك ، بل تقدَّم ما يَدُلُّ عليه " وذكر ما قَدَّمْتُه . وأشير ب " ذلك " وهو مفردٌ لاثنين لِما تقدَّم في قوله

{ عَوَانٌ بَيْنَ ذلِكَ } [ البقرة :68 ] قوله : { لاَ إِلَى هَؤُلاءِ وَلاَ إِلَى هَؤُلاءِ } " إلى " في الموضعين متعلقةٌ بمحذوف ، وذلك المحذوفُ هو حالٌ حُذِفَ لدلالةِ المعنى عليه ، والتقدير : مُذَبْذَبين لا منسوبين إلى هؤلاء ولا منسوبين إلى هؤلاء ، فالعاملُ في الحال نفسُ " مُذَبْذَبين " قال أبو البقاء : " وموضعُ " لا إلى هؤلاء " نصبٌ على الحالِ من الضمير في مذبذبين أي : يتذبذبون متلوِّنين " وهذا تفسير معنى لا إعراب .