مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{مُّذَبۡذَبِينَ بَيۡنَ ذَٰلِكَ لَآ إِلَىٰ هَـٰٓؤُلَآءِ وَلَآ إِلَىٰ هَـٰٓؤُلَآءِۚ وَمَن يُضۡلِلِ ٱللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُۥ سَبِيلٗا} (143)

ثم قال تعالى : { مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلا }

وفيه مسائل :

المسألة الأولى : مذبذبين . إما حال من قوله { يراؤن } أو من قوله { لا يذكرون الله إلا قليلا } ويحتمل أن يكون منصوبا على الذم .

المسألة الثانية : مذبذبين : أي متحيرين ، وحقيقة المذبدب الذي يذب عن كلا الجانبين ، أي يرد ويدفع فلا يقر في جانب واحد ، إلا أن الذبذبة فيها تكرير وليس في الذب ، فكان المعنى كلما مال إلى جانب ذب عنه .

واعلم أن السبب في ذلك أن الفعل يتوقف على الداعي ، فإن كان الداعي إلى الفعل هو الأغراض المتعلقة بأحوال هذا العالم كثر التذبذب والاضطراب ، لأن منافع هذا العالم وأسبابه متغيرة سريعة التبدل ، وإذا كان الفعل تبعا للداعي ، والداعي تبعا للمقصود ثم إن المقصود سريع التبدل والتغير لزم وقوع التغير في الميل والرغبة ، وربما تعارضت الدواعي والصوارف فيبقى الإنسان في الحيرة والتردد . أما من كان مطلوبه في فعله إنشاء الخيرات الباقية ، واكتساب السعادات الروحانية ، وعلم أن تلك المطالب أمور باقية بريئة عن التغير والتبدل لا جرم كان هذا الإنسان ثابتا راسخا ، فلهذا المعنى وصف الله تعالى أهل الإيمان بالثبات فقال { يثبت الله الذين ءامنوا } وقال { ألا بذكر الله تطمئن القلوب } وقال : { يأيتها النفس المطمئنة } .

المسألة الثالثة : قرأ ابن عباس { مذبذبين } بكسر الذال الثانية ، والمعنى يذبذبون قلوبهم أو دينهم أو رأيهم ، بمعنى يتذبذبون كما جاء صلصل وتصلصل بمعنى ، وفي مصحف عبد الله بن مسعود : متذبذبين ، وعن أبي جعفر : مدبدبين بالدال المهملة ، وكأن المعنى أنهم تارة يكونون في دبة وتارة في أخرى ، فلا يبقون على دبة واحدة ، والدبة الطريقة وهي التي تدب فيها الدواب .

المسألة الرابعة : قوله { بين ذلك } أي بين الكفر والإيمان ، أو بين الكافرين والمؤمنين ، وكلمة { ذلك } يشار به إلى الجماعة ، وقد تقدم تقريره في تفسير قوله { عوان بين ذلك } وذكر الكافرين والمؤمنين قد جرى في هذه القصة عند قوله { الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين } وإذا جرى ذكر الفريقين فقد جرى ذكر الكفر والإيمان قال قتادة : معنى الآية ليسوا مؤمنين مخلصين ولا مشركين مصرحين بالشرك .

المسألة الخامسة : احتج أصحابنا بهذه الآية على أن الحيرة في الدين إنما تحصل بإيجاد الله تعالى وقالوا : إن قوله { مذبذبين } يقتضي فاعلا قد ذبذبهم وصيرهم متحيرين مترددين ، وذلك ليس باختيار العبد ، فإن الإنسان إذا وقع في قلبه الدواعي المتعارضة الموجبة للتردد والحيرة ، فلو أراد أن يدفع ذلك التردد عن نفسه لم يقدر عليه أصلا ، ومن رجع إلى نفسه وتأمل في أحواله علم أن الأمر كما ذكرنا ، وإذا كانت تلك الذبذبة لابد لها من فاعل ، وثبت أن فاعلها ليس هو العبد ثبت أن فاعلها هو الله تعالى ، فثبت أن الكل من الله تعالى .

فإن قيل : قوله تعالى : { لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء } يقتضي ذمهم على ترك طريقة المؤمنين وطريقة الكافرين ، وذلك يقتضي أنه تعالى ما ذمهم على طريقة الكفار وإنه غير جائز .

قلنا : إن طريقة الكفار وإن كانت خبيثة إلا أن طريقة النفاق أخبث منها ، ولذلك فإنه تعالى ذم الكفار في أول سورة البقرة في آيتين ، وذم المنافقين في بضع عشرة آية ، وما ذاك إلا أن طريقة النفاق أخبث من طريقة الكفار ، فهو تعالى إنما ذمهم لا لأنهم تركوا الكفر ، بل لأنهم عدوا عنه إلى ما هو أخبث منه .

ثم قال تعالى : { ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلا } واحتج أصحابنا بهذه الآية على قولهم من وجهين : الأول : أن ذكر هذا الكلام عقيب قوله { مذبذبين } يدل على أن تلك الذبذبة من الله تعالى ، وإلا لم يتصل هذا الكلام بما قبله . والثاني : أنه تصريح بأن الله تعالى أضله عن الدين . قالت المعتزلة : معنى هذا الإضلال سلب الألطاف ، أو هو عبارة عن حكم الله عليه بالضلال ، أو هو عبارة عن أن الله تعالى يضله يوم القيامة عن طريق الجنة ، وهذه الوجوه قد تكلمنا عليها مرارا .