المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية  
{وَٱلَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمۡوَٰلَهُمۡ رِئَآءَ ٱلنَّاسِ وَلَا يُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِ وَلَا بِٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِۗ وَمَن يَكُنِ ٱلشَّيۡطَٰنُ لَهُۥ قَرِينٗا فَسَآءَ قَرِينٗا} (38)

وقوله تعالى : { والذين ينفقون } الآية - قال الطبري : { الذين } في موضع خفض عطف على الكافرين ، ويصح أن يكون في موضع رفع عطفاً على { الذين يبخلون } على تأويل : من رآه مقطوعاً ورأى الخبر محذوفاً ، وقال : إنها نزلت في اليهود ، ويصح أن يكون في موضع رفع على العطف وحذف الخبر ، وتقديره : بعد اليوم الآخر معذبون ، وقال مجاهد : نزلت هذه الآية في اليهود ، قال الطبري : وهذا ضعيف ، لأنه نفى عن هذه الصفة الإيمان بالله واليوم الآخر ، واليهود ليسوا كذلك .

قال القاضي أبو محمد : وقول مجاهد متجه على المبالغة والإلزام ، إذ إيمانهم باليوم الآخر كلا إيمان من حيث لا ينفعهم ، وقال الجمهور : نزلت في المنافقين ، وهذا هو الصحيح ، وإنفاقهم : هو ما كانوا يعطون من زكاة ، وينفقون في السفر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، «رياء » ودفعاً عن أنفسهم ، لا إيماناً بالله ، ولا حباً في دينه { ورثاء } نصب على الحال من الضمير في { ينفقون } والعامل { ينفقون } ويكون قوله : { ولا يؤمنون } في الصلة ، لأن الحال لا تفرق إذا كانت مما هو في الصلة ، وحكى المهدوي : أن الحال تصح أن تكون من { الذين } فعلى هذا يكون { ولا يؤمنون } مقطوعاً ليس من الصلة ، والأول أصح ، وما حكى المهدوي ضعيف ، ويحتمل أن يكون { ولا يؤمنون } في موضع الحال ، أي : غير مؤمنين ، فتكون الواو واو الحال .

و «القرين » : فعيل بمعنى فاعل ، من المقارنة وهي الملازمة والاصطحاب{[4032]} ، وهي هاهنا مقارنة مع خلطة وتواد ، والإنسان كله يقارنه الشيطان ، لكن الموفق عاص له ، ومنه قيل لما يلزمان الإبل والبقر قرينان ، وقيل للحبل الذي يشدان به : قرن ، قال الشاعر : [ البسيط ]

كَمُدْخِلٍ رأَسَهُ لَمْ يُدْنِهِ أَحَدٌ *** بَيْنَ القَرِينَيْنِ حَتّى لزَّهُ الْقَرَنُ{[4033]}

فالمعنى : ومن يكن الشيطان له مصاحباً وملازماً ، أو شك أن يطيعه فتسوء عاقبته ، و { قريناً } نصب على التمييز ، والفاعل ل «ساء » مضمر ، تقديره ساء القرين قريناً ، على حد بئس ، وقرن الطبري هذه الآية بقوله تعالى : { بئس للظالمين بدلاً }{[4034]} وذلك مردود ، لأن { بدلاً } حال ، وفي هذا نظر{[4035]} .


[4032]:- قال عدي بن زيد: عن المرء لا تسأل، وسل عن قرينه فكل قرين بالمقارن يقتدي والقرين فعيل بمعنى المقارن، كالجليس والخليط، أي: المجالس، والمخالط. والجمع: قرناء.
[4033]:- الجمع بين دابتين في حبل هو: القرن. أما القرن (بالفتح) فهو الحبل الذي تلزان به، والشاعر يقصد بقوله: (القرينين) الحيوانين المقرونين، وكلمة (لزّ) معناها: جمع بينهما بشدة حتى ألصق أحدهما بالآخر، ومنه قول الشاعر: وابن اللّبون إذا ما لزّ في قرن لم يستطع صولة البذل القناعيس.
[4034]:- من الآية (50) من سورة (الكهف).
[4035]:- لأن [قرينا] لا يصح أن تعرب حالا مثل (بدلا)، إذ هذا يقتضي أن يكون [ساء] متعدية، ومفعولها محذوفا، وهذا معناه أنها فعل متصرف فلا تدخله الفاء، أو تدخله مصحوبة بقد، وقد دخلت الفاء بدون قد هنا.