البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{وَٱلَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمۡوَٰلَهُمۡ رِئَآءَ ٱلنَّاسِ وَلَا يُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِ وَلَا بِٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِۗ وَمَن يَكُنِ ٱلشَّيۡطَٰنُ لَهُۥ قَرِينٗا فَسَآءَ قَرِينٗا} (38)

القرين : فعيل بمعنى مفاعل ، من قارنه إذا لازمه وخالطه ، ومنه سميت الزوجة قرينة .

ومنه قيل لما يلزمن الإبل والبقر : قرينان ، وللحبل الذي يشدان به قرن قال الشاعر :

وابن اللبون إذا ما لز في قرن *** لم يستطع صوله البزل القناعيس

وقال :

كمدخل رأسه لم يدنه أحد *** من القرينين حتى لزه القرن

{ والذين ينفقون أموالهم رئاء الناس ولا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر } تقدم تفسير مثل هذه الآية في قوله : { كالذي ينفق ماله رئاء الناس ولا يؤمن بالله واليوم الآخر } ، وهنا : ولا باليوم الآخر .

وهناك : واليوم الآخر .

قال السدّي ، والزجاج وأبو سليمان الدّمشقي والجمهور : هم المنافقون نزلت فيهم ، وإنفاقهم هو إعطاؤهم الزكاة ، وإخراجهم المال في السفر للغزو رئاء ودفعاً عن أنفسهم ، لا إيماناً ولا حباً في الدّين .

وقال ابن عباس : ومقاتل ، ومجاهد : نزلت في اليهود .

وضعفه الطبري من حيث أنهم يؤمنون بالله واليوم الآخر .

ووجه ابن عطية هذا القول بأنهم لم يؤمنوا على ما ينبغي جعل إيمانهم كلا إيمان من حيث لا ينفعهم .

وقيل : هم مشركو مكة ، لأنهم كانوا ينكرون البعث .

وإنفاق اليهود هو ما أعانوا به قريشاً في غزوة أحد وغزوة الخندق ، وإنفاق مشركي مكة هو ما كان في عداوة النبي صلى الله عليه وسلم وطلبهم الانتصار .

وفي إعراب والذين ينفقون وجوه : أحدها : أنه مبتدأ محذوف الخبر ، ويقدر : معذبون ، أو قرينهم الشيطان ، ويكون العطف من عطف الجمل .

والثاني : أن يكون معطوفاً على الكافرين ، فيكون مجروراً قاله : الطبري .

والثالث : أن يكون معطوفاً على الذين يبخلون ، فيكون إعرابه كإعراب الذين يبخلون .

والعطف في هذين الوجهين من عطف المفردات .

ورئاء مصدر راء ، أو انتصابه على أنه مفعول من أجله ، وفيه شروطه فلا ينبغي أن يعدل عنه .

وقيل : هو مصدر في موضع الحال قاله : ابن عطية ، ولم يذكر غيره .

وظاهر قوله : ولا يؤمنون أنه عطف على صلة الذين ، فيكون صلة .

ولا يضر الفصل بين أبعاض الصلة بمعمول للصلة ، إذ انتصاب رئاء على وجهيه بينفقون .

وجوّزوا أن يكون : ولا يؤمنون في موضع الحال ، فتكون الواو واو الحال أي : غير مؤمنين ، والعامل فيها ينفقون أيضاً .

وحكى المهدوي : أنه يجوز انتصاب رئاء على الحال من نفس الموصول لا من الضمير في ينفقون ، فعلى هذا لا يجوز أن يكون : ولا يؤمنون معطوفاً على الصلة ، ولا حالاً من ضمير ينفقون ، لما يلزم من الفصل بين أبعاض الصلة ، أو بين معمول الصلة بأجنبي وهو رئاء المنصوب على الحال من نفس الموصول ، بل يكون قوله : ولا يؤمنون مستأنف .

وهذا وجه متكلف .

وتعلق رئاء بقوله : ينفقون واضح ، إما على المفعول له ، أو الحال ، فلا ينبغي أن يعدل عنه .

وتكرار لا وحرف الجر في قوله : ولا باليوم الآخر مفيد لانتفاء كل واحد من الإيمان بالله ، ومن الإيمان باليوم الآخر .

لأنك إذا قلت : لا أضرب زيداً وعمراً ، احتمل أن لا تجمع بين ضربيهما .

ولذلك يجوز أن تقول بعد ذلك : بل أحدهما .

واحتمل نفي الضرب عن كل واحد منهما علي سبيل الجمع ، وعلى سبيل الإفراد .

فإذا قلت : لا أضرب زيداً ولا عمراً ، تعين هذا الاحتمال الثاني الذي كان دون تكرار .

{ ومن يكن الشيطان له قريناً فساء قريناً } لما ذكر تعالى من اتصف بالبخل والأمر به ، وكتمان فضل الله تعالى ، والإنفاق رئاء ، وانتفاء إيمانه بالله وباليوم الآخر ، ذكر أن هذه من نتائج مقارنة الشيطان ومخالطته وملازمته للمتصف بذلك ، لأنها شر محض ، إذ جمعت بين سوء الاعتقاد الصادر عنه الإنفاق رئاء ، وسائر تلك الأوصاف المذمومة .

ولذلك قدم تلك الأوصاف وذكر ما صدرت عنه وهو انتفاء الإيمان بالموجد ، وبدار الجزاء .

ثم ذكر أنّ ذلك من مقارنة الشيطان .

والقرين هنا فعيل بمعنى مفاعل ، كالجليس والخليط أي : المجالس والمخالط .

والشيطان هنا جنس لا يراد به إبليس وحده وهو كقوله : { ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطاناً فهو له قرين } وله متعلق بقريناً أي : قريناً له .

والفاء جواب الشرط ، وساء هنا هي التي بمعنى بئس للمبالغة في الذم ، وفاعلها على مذهب البصريين ضمير عام ، وقريناً تمييز لذلك الضمير .

والمخصوص بالذمّ محذوف وهو العائد على الشيطان الذي هو قرين ، ولا يجوز أن يكون ساء هنا هي المتعدية ومفعولها محذوف وقريناً حال ، لأنها إذ ذاك تكون فعلاً متصرفاً فلا تدخله الفاء ، أو تدخله مصحوبة بقد .

وقد جوّزوا انتصاب قريناً على الحال ، أو على القطع ، وهو ضعيف .

وبولغ في ذمّ هذا القرين لحمله على تلك الأوصاف الذميمة .

قال الزمخشري وغيره : ويجوز أن يكون وعيداً لهم بأن الشيطان يقرن بهم في النار انتهى .

فتكون المقارنة إذ ذاك في الآخرة يقرن به في النار فيتلاعنان ويتباغضان كما قال : { مقرنين في الأصفاد } { وإذا ألقوا منها مكاناً ضيقاً مقرنين } وقال الجمهور : هذه المقارنة هي في الدنيا كقوله : { وقيضنا لهم قرناء فزينوا لهم } { ونقيض له شيطاناً فهو له قرين } { وقال قرينه ربنا ما أطغيته } قال ابن عطية : وقرن الطبري هذه الآية بقوله تعالى : { بئس للظالمين بدلاً } وذلك مردود ، لأنّ بدلاً حال ، وفي هذا نظر .

والذي قاله الطبري صحيح ، وبدلاً تمييز لا حال ، وهو مفسر للضمير المستكن في بئس على مذهب البصريين ، والمخصوص بالذم محذوف تقديره : هم أي الشيطان وذريته .

وإنما ذهب إلى إعراب المنصوب بعد نعم وبئس حالاً الكوفيون على اختلاف بينهم مقرر في علم النحو .

/خ39