اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَٱلَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمۡوَٰلَهُمۡ رِئَآءَ ٱلنَّاسِ وَلَا يُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِ وَلَا بِٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِۗ وَمَن يَكُنِ ٱلشَّيۡطَٰنُ لَهُۥ قَرِينٗا فَسَآءَ قَرِينٗا} (38)

قوله : { وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ } فيه ثلاثة أوْجُه :

أحدها : أن يكون مَرْفُوعاً عطفاً على { الَّذِينَ يَبْخَلُونَ } ، والخبر : أن اللَّه لا يَظْلِم كما تقدم وصفه .

والثاني : مجرور عَطْفاً على { الْكَافِرِيْنَ } أي : أعْتَدْنا للكافِرِين ، والذين يُنْفِقُون أموالهم رئاء النَّاسِ ، قاله ابن جَرِير .

الثالث : أنه مُبْتَدأ ، وخبره مَحْذُوف ، أي : معذَّبُون أو قَرِينُهم الشَّيْطَان ، فعلى الأوَّلَيْن يكون من عَطْف المُفردات ، وعلى الثالث من عَطْفِ الجُمَل .

قوله : { رِئَاءَ النَّاسِ } فيه ثلاثة أوْجُه :

أحدُها : أنه مَفْعُول من أجْلِه ، وشُرُوط النَّصْبِ متوفِّرة .

الثاني : أنه حَالٌ من فَاعل " ينفقون " يعني : مصْدراً واقعاً مَوْقع الحالِ ، أي : مرائين{[7884]} .

والثالث : أنه حَالٌ من نَفْس المَوْصُول ، ذكره المَهْدَوي ، و " رئاء " مصدر مُضَافٌ إلى المَفْعُول .

فصل

قال الوَاحِدِي{[7885]} : نزلت في المُنَافِقِين وهو الوَجْه لذكر الرِّيَاء ، وهو ضرْب من الإنْفَاقِ ، وهو قول السدي ، وقيل : نزلتْ في اليَهُود{[7886]} وقيل : نزلَتْ في مُشْرِكِي مكَّة المُنْفِقين على عَداوَة الرَّسُول - عليه السلام -{[7887]} .

قال ابن الخَطِيب{[7888]} : والأوْلَى أن يُقَال : إنه - تعالى - لمَّا أمر بالإحْسَان إلى المُحْتَاجِين ، بين أن المُمْتَنِعِ من ذَلِكَ قِسْمَان :

إما بألاّ يُعْطي شيئاً ، وهو البُخْل فَذَكَرَهُ .

وإما بأن يُعْطِي رياءً وسُمْعَةً ؛ فهذا أيضاً مذمومٌ ، فلم يَبْقَ إلا الإنْفَاق للإحْسَان .

وقوله : { وَلاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ } فيه ثلاثة أوجه :

أحدها : أنه مُسْتأنف .

والثاني : أنه عَطْف على الصِّلة ، وعلى هذين الوَجْهَيْن ، فلا مَحَلَّ له من الإعْرَابِ .

والثالث : أنه حالٌ من فاعل يُنْفِقُون ، إلا أن هذين الوَجْهَيْن الأخيريْن ، أعني : العطف على الصِّلة ، والحالية مُمْتَنعان على الوجْه المَحْكِيّ عن المَهْدَوي{[7889]} ، وهو كون " رئاء " حالاً من نَفْسِ المَوْصُول{[7890]} ؛ لئلا يَلْزَم الفَصْل بين أبعاض الصِّلة ، أو بين الصِّلة ومعمولها بأجْنَبِيّ ، وهو " رِئَاءَ " ؛ لأنه حَالٌ من المَوْصُول لا تعلُّق له بالصِّلَة ، بخلاف ما إذا جَعَلْنَاه مَفْعُولاً [ له ]{[7891]} أو حَالاً من فَاعِل { يُنْفِقُونَ } فإنَّه على الوَجْهَين معمول ل { يُنْفِقُونَ }{[7892]} فليس أجْنَبِيّاً ، فلم يُبَالَ{[7893]} بالفَصْل به ، وفي جَعْلِ { وَلاَ يُؤْمِنُونَ } حالاً نَظرٌ ؛ من حَيْث أن بَعْضهم نَصَّ على أنَّ المُضَارع المُنفِيّ ب " لا " {[7894]} كالمُثبت ؛ في أنَّه لا يَدْخل عَليْه واو الحَال ، وهو مَحَلُّ{[7895]} تَوَقُّف ، وكرِّرت لا في قوله - تعالى : { وَلاَ يُؤْمِنُونَ [ بِاللَّهِ وَلاَ ]{[7896]} بِالْيَوْمِ الآخِرِ } ؛ وكذا{[7897]} الباء إشعاراً بأنَّ الإيمان مُنتفٍ عن كلِّ على حدته [ كما ]{[7898]} لو قُلت : لا أضرب زيداً أو عَمْرًا ، احْتمل في الضَّرْب عن المَجْمُوع ، ولا يَلْزَم منه نَفْي الضَّرْب عن كل وَاحِدٍ على انْفِرَادِه ، [ واحتمل نَفْيه عن كُلِّ واحِدٍ بالقرانِ ]{[7899]} .

وإذا قُلْت ولا عَمْراً ، تعيَّن هذا الثَّانِي .

قوله - تعالى - : { وَمَن يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِيناً فَسَاءَ قِرِيناً } :

قوله : { وَمَن يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِيناً } أي : صاحِباً وخَليلاً ، والمَعْنى : أن الشَّيْطَان قَرِين لأصْحَاب هذه الأفْعَالِ .

قال القرطبي{[7900]} : في الكلام إضْمَار ، تقديره : { وَلاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ } فَقَرينُهُم الشَّيْطَان { وَمَن يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِيناً فَسَاءَ قِرِيناً } .

قوله : { فَسَاءَ قِرِيناً } وفي " فساء " هذه احتمالان :

أحدهما : أنَّها نقلت إلى الذَّمِّ ، فجرت مُجْرى " بِئْسَ " ، ففيها ضَميرٌ فاعلٌ لها مُفَسِّر بالنكِرَة بعده ، وهو { قِرِيناً } والمخصُوص بالذَّمِّ مَحْذُوف ، أي : فَسَاءَ قريناً هُوَ ، وهو عائد [ إما ] على الشَّيْطَان ، وهو الظَّاهِر ، وإمَّا على " مَنْ " ، وقد تَقَدَّم حكم نِعْم وبِئْس .

الثاني : على بابها ، فهي مُتَعَدِّية ، ومَفْعُولها مَحْذُوف ، و " قريناً " على هذا مَنْصُوب على الحَالِ أو على القَطْعِ ، والتَّقدير : فساءَهُ ، أي : فساء الشَّيْطَان مُصَاحَبَة ؟

قال القُرْطُبِي{[7901]} : { قِرِيناً } مَنْصوب على التَّمْييز ، واحتجُّوا للوجْه الأوَّل بأنَّه كان يَنْبَغِي أن يحذف الفَاءَ من " فَسَاءَ " ، أو تَقْتَرِن به " قَدْ " ، لأنه حينئذٍ فِعْل مُتَصرِّف ماض ، وما كان كذلِك ووقع جواباً للشَّرْط ، تَجَرَّد من الفَاءِ أو اقْتَرَن ب " قد " ، هذا معنى كَلاَم أبِي حيَّان{[7902]} .

قال شهاب الدين{[7903]} : وفيه نَظَر ؛ لقوله - تعالى - : { وَمَن جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ }

[ النمل : 90 ] { وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ فَكَذَبَتْ } [ يوسف : 27 ] مما يُؤوّل به هذا ونحوه يَتَأوّل به هذا ، وممَّن ذَهَب إلى أن { قِرِيناً } منصوب على الحالِ ابن عَطِيَّة{[7904]} ، ولكن يُحْتَمل أن يكُون قَائِلاً بأن " سَاءَ " متعدِّيَة ، وأن يكون قَائِلاً برأي الكُوفيِّين ، فإنَّهم يَنْصُبُون ما بَعْدَ [ نِعْمَ ]{[7905]} و " بِئْسَ " على الحَالِ .

والقَرِين : المُصاحِب [ الملازِم ]{[7906]} وهو فعيل بِمَعْنَى مُفَاعِل : كالخَليطِ والجَليسِ ، والقَرَنُ : الحَبْل{[7907]} ؛ لأنه يُقْرنَ به بَيْنَ البعيريْن قال : [ البسيط ]

. . . *** وَابْنُ اللَّبُون إذَا مَا لُزَّ فِي قَرَنٍ{[7908]}


[7884]:في أ: مرابين.
[7885]:ينظر: تفسير الرازي 10/81.
[7886]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (8/356) عن مجاهد.
[7887]:انظر "التفسير الكبير" للرازي (10/81).
[7888]:ينظر: تفسير الرازي 10/81.
[7889]:في أ: المهدي.
[7890]:في ب: المفعول.
[7891]:سقط في أ.
[7892]:في أ: لينفقون.
[7893]:في أ: يسأل.
[7894]:في أ: بلا.
[7895]:في أ: محال.
[7896]:سقط في ب.
[7897]:في أ: لهذا.
[7898]:سقط في ب.
[7899]:سقط في ب. وفي الدر المصون "بانفراده بدل بالقرآن".
[7900]:ينظر: تفسير القرطبي 5/126.
[7901]:ينظر: تفسير القرطبي 5/127.
[7902]:ينظر: البحر المحيط 3/259.
[7903]:ينظر: الدر المصون 2/363.
[7904]:ينظر: المحرر الوجيز 2/53، وعبارة المحرر: منصوب على التمييز.
[7905]:سقط في ب.
[7906]:سقط في أ.
[7907]:في أ: الحبال.
[7908]:هذا صدر بيت لجرير وعجزه: لم يستطع صولة البزل القناعيس ينظر ديوانه (323) والكتاب 1/295 وشرح المفصل لابن يعيش 1/35 واللسان (لزز) والدر المصون 2/227، 363.