المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية  
{وَيُعَذِّبَ ٱلۡمُنَٰفِقِينَ وَٱلۡمُنَٰفِقَٰتِ وَٱلۡمُشۡرِكِينَ وَٱلۡمُشۡرِكَٰتِ ٱلظَّآنِّينَ بِٱللَّهِ ظَنَّ ٱلسَّوۡءِۚ عَلَيۡهِمۡ دَآئِرَةُ ٱلسَّوۡءِۖ وَغَضِبَ ٱللَّهُ عَلَيۡهِمۡ وَلَعَنَهُمۡ وَأَعَدَّ لَهُمۡ جَهَنَّمَۖ وَسَآءَتۡ مَصِيرٗا} (6)

وقوله : { الظانين بالله ظن السوء } قيل معناه من قولهم : { لن ينقلب الرسول }الآية{[10404]} [ الفتح : 12 ] ، فكأنهم ظنوا بالله ظن السوء في جهة الرسول والمؤمنين ، وقيل : ظنوا بالله ظن سوء ، إذ هم يعتقدونه بغير صفاته ، فهي ظنون سوء من حيث هي كاذبة مؤدية إلى عذابهم في نار جهنم .

وقوله تعالى : { عليهم دائرة السوء } كأنه يقوي التأويل الآخر ، أي أصابهم ما أرادوه بكم ، وقرأ جمهور القراء : «دائرة السَوء » كالأول ، ورجحها الفراء ، وقال : قل ما تضم العرب السين . قال أبو علي : هما متقاربان ، والفتح أشد مطابقة في اللفظ . وقرأ ابن كثير وأبو عمرو : «ظن السَوء » بفتح السين . و : «دائرة السُوء » بضم السين ، وهو اسم ، أي «دائرة السُوء » الذي أرادوه بكم في ظنهم السوء . وقرأ الحسن : بضم السين في الموضعين ، وروى ذلك عن أبي عمرو ومجاهد ، وسمى المصيبة التي دعا بها عليهم : { دائرة } ، من حيث يقال في الزمان إنه يستدير ، ألا ترى أن السنة والشهر كأنها مستديرات ، تذهب على ترتيب ، وتجيء من حيث هي تقديرات للحركة العظمى ، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم : { إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض }{[10405]} فيقال للأقدار والحوادث التي هي في طي الزمان دائرة ، لأنها تدور بدوران الزمان ، كأنك تقول : إن أمراً كذا يكون في يوم كذا من سنة كذا ، فمن حيث يدور ذلك اليوم حتى يبرز إلى الوجود تدور هي أيضاً فيه ، وقد قالوا : أربعاء لا تدور ، ومن هذا قول الشاعر : [ الرجز ]

*ودائرات الدهر قد تدورا*{[10406]}

ومنه قول الآخر : [ الطويل ]

ويعلم أن النائبات تدور . . . {[10407]}

وهذا كثير ويحسن أن تسمى المصيبة دائرة من حيث كمالها أن تحيط بصاحبها كما يحيط شكل الدائرة على السواء من النقطة ، وقد أشار النقاش إلى هذا المعنى { وغضب الله } تعالى متى قصد به الإرادة فهو صفة ذات ، ومتى قصد به ما يظهر من الأفعال على المغضوب عليه فهي صفة فعل . { ولعنهم } معناه : أبعدهم من رحمته .


[10404]:من قوله تعالى في الآية(12) من هذه السورة:{بل ظننتم أن لن ينقلب الرسول والمؤمنون إلى أهليهم أبدا}.
[10405]:أخرجه البخاري في تفسير سورة التوبة، وفي بدء الخلق والمغازي والأضاحي والتوحيد، وأخرجه مسلم في القسامة، وأبو داود في المناسك، والإمام أحمد في مسنده(5-37، 73)، ولفظه كما في مسند أحمد عن أبي بكرة أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب في حجته فقال:(ألا إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض، السنة اثنا عشر شهرا منها أربعة حرم، ثلاث متواليات: ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان، ثم قال: ألا أيُّ يوم هذا؟ قلنا: الله ورسوله أعلم، فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، قال: أليس يوم النحر؟ قلنا: بلى، ثم قال: أي شهر هذا؟ قلنا: الله ورسوله أعلم، فسكت حتى ظننا انه سيسميه بغير اسمه، فقال: أليس ذا الحجة؟ قلنا: بلى، ثم قال: أي بلد هذا؟ قلنا: الله ورسوله أعلم، فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، قال: أليست البلدة؟ قلنا: بلى،قال: فإن دماؤكم وأموالكم-قال: وأحسبه قال وأعراضكم-عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا، وستلقون ربكم فيسألكم عن أعمالكم، ألا لا ترجعوا بعدي ضلالا يضرب بعضكم رقاب بعض، ألا هل بلغت؟ ألا ليبلغ الشاهد منكم الغائب، فلعل من يبلغه يكون أوعى له من بعض من يسمعه) قال محمد: وقد كان ذاك، قال: قد كان بعض من بُلِّغه أوعى من بعض سامعيه.
[10406]:هذا البيت من الرجز، وقبله يقول الراجز: ترد عنك القدر المقدورا والدائرات: جمع دائرة، وهي ما أحاط بالشيء من كل ناحية، ودائرات الدهر هي حوادثه التي خفيها الزمان، تدور بدوران الزمان، فمرة تصيب هذا، ومرة تصيب ذاك، ولم أقف على اسم القائل.
[10407]:النائبات: جمع نائبة، وهي المصيبة التي تصيب الإنسان، أو الكارثة التي تنزل به، ومعنى هذا الشطر من الشعر أن مصائب الدهر تدور على الناس ولا تترك أحدا، فهي مرة تصيب واحدا ومرة ثانية تصيب غيره، وهكذا. ولم أقف على بقية البيت ولا قائله.