مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{وَيُعَذِّبَ ٱلۡمُنَٰفِقِينَ وَٱلۡمُنَٰفِقَٰتِ وَٱلۡمُشۡرِكِينَ وَٱلۡمُشۡرِكَٰتِ ٱلظَّآنِّينَ بِٱللَّهِ ظَنَّ ٱلسَّوۡءِۚ عَلَيۡهِمۡ دَآئِرَةُ ٱلسَّوۡءِۖ وَغَضِبَ ٱللَّهُ عَلَيۡهِمۡ وَلَعَنَهُمۡ وَأَعَدَّ لَهُمۡ جَهَنَّمَۖ وَسَآءَتۡ مَصِيرٗا} (6)

قوله تعالى : { ويعذب المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات الظانين بالله ظن السوء عليهم دائرة السوء وغضب الله عليهم ولعنهم وأعد لهم جهنم وساءت مصيرا * ولله جنود السماوات والأرض وكان الله عزيزا حكيما } .

واعلم أنه قدم المنافقين على المشركين في الذكر في كثير من المواضع لأمور ( أحدها ) أنهم كانوا أشد على المؤمنين من الكافر المجاهر لأن المؤمن كان يتوقى المشرك المجاهر وكان يخالط المنافق لظنه بإيمانه ، وهو كان يفشي أسراره ، وإلى هذا أشار النبي صلى الله عليه وسلم بقوله : «أعدى عدوك نفسك التي بين جنبيك » والمنافق على صورة الشيطان فإنه لا يأتي الإنسان على أني عدوك ، وإنما يأتيه على أني صديقك ، والمجاهر على خلاف الشيطان من وجه ، ولأن المنافق كان يظن أن يتخلص للمخادعة ، والكافر لا يقطع بأن المؤمن إن غلب يفديه ، فأول ما أخبر الله أخبر عن المنافق وقول { الظانين بالله ظن السوء } هذا الظن يحتمل وجوها ( أحدها ) هو الظن الذي ذكره الله في هذه السورة بقوله { بل ظننتم أن لن ينقلب الرسول } ( ثانيها ) ظن المشركين بالله في الإشراك كما قال تعالى : { إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم } إلى أن قال : { إن يتبعون إلا الظن وإن الظن لا يغني من الحق شيئا } ( ثالثها ) ظنهم أن الله لا يرى ولا يعلم كما قال : { ولكن ظننتم أن الله لا يعلم كثيرا مما تعملون } والأول أصح أو نقول المراد جميع ظنونهم حتى يدخل فيه ظنهم الذي ظنوا أن الله لا يحيي الموتى ، وأن العالم خلقه باطل ، كما قال تعالى : { ذلك ظن الذين كفروا } ويؤيد هذا الوجه الألف واللام الذي في السوء وسنذكره في قوله { ظن السوء } وفيه وجوه ( أحدها ) ما اختاره المحققون من الأدباء ، وهو أن السوء صار عبارة عن الفساد ، والصدق عبارة عن الصلاح يقال مررت برجل سوء أي فاسد ، وسئلت عن رجل صدق أي صالح ، فإذا كان مجموع قولنا رجل سوء يؤدي معنى قولنا فاسد ، فالسوء وحده يكون بمعنى الفساد ، وهذا ما اتفق عليه الخليل والزجاج واختاره الزمخشري ، وتحقيق هذا أن السوء في المعاني كالفساد في الأجساد ، يقال ساء مزاجه ، وساء خلقه ، وساء ظنه ، كما يقال فسد اللحم وفسد الهواء ، بل كان ما ساء فقد فسد وكل ما فسد فقد ساء غير أن أحدهما كثير الاستعمال في المعاني والآخر في الأجرام قال الله تعالى : { ظهر الفساد في البر والبحر } وقال : { ساء ما كانوا يعملون } هذا ما يظهر لي من تحقيق كلامهم .

قوله تعالى : { عليهم دائرة السوء } أي دائرة الفساد وحاق بهم الفساد بحيث لا خروج لهم منه .

ثم قال تعالى : { وغضب الله عليهم } زيادة في الإفادة لأن من كان به بلاء فقد يكون مبتلى به على وجه الامتحان فيكون مصابا لكي يصير مثابا ، وقد يكون مصابا على وجه التعذيب فقوله { وغضب الله عليهم } إشارة إلى أن الذي حاق بهم على وجه التعذيب وقوله { ولعنهم } زيادة إفادة لأن المغضوب عليه قد يكون بحيث يقنع الغاضب بالعتب والشتم أو الضرب ، ولا يفضي غضبه إلى إبعاد المغضوب عليه من جنابه وطرده من بابه ، وقد يكون بحيث يفضي إلى الطرد والإبعاد ، فقال : { ولعنهم } لكون الغضب شديدا ، ثم لما بين حالهم في الدنيا بين مآلهم في العقبى قال : { وأعد لهم جهنم وساءت مصيرا } وقوله { ساءت } إشارة لمكان التأنيث في جهنم يقال هذه الدار نعم المكان .