المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية  
{إِنَّ ٱلَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصۡوَٰتَهُمۡ عِندَ رَسُولِ ٱللَّهِ أُوْلَـٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ ٱمۡتَحَنَ ٱللَّهُ قُلُوبَهُمۡ لِلتَّقۡوَىٰۚ لَهُم مَّغۡفِرَةٞ وَأَجۡرٌ عَظِيمٌ} (3)

ثم مدح الصنف المخالف لمن تقدم ذكره ، وهم { الذين يغضون أصواتهم } عند النبي صلى الله عليه وسلم . وغض الصوت : خفضه وكسره ، وكذلك البصر ، ومنه قول جرير : [ الوافر ]

فغض الطرف إنك من نمير . . . {[10448]}

وروي أن أبا بكر وعمر كانا بعد ذلك لا يكلمان رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا كأخي السرار{[10449]} ، وأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحتاج مع عمر بعد ذلك إلى استعادة اللفظ ، لأنه كان لا يسمعه من إخفائه إياه{[10450]} . و : { امتحن الله } معناه اختبر وظهر كما يمتحن الذهب بالنار فيسرها وهيأها للتقوى . وقال عمر بن الخطاب : امتحن للتقوى أذهب عنها الشهوات .

قال القاضي أبو محمد : من غلب شهوته وغضبه ، فذلك الذي { امتحن الله } قلبه للتقوى ، وبذلك تكون الاستقامة .


[10448]:هذا صدر بيت قاله جرير يهجو الراعي النُّميري، والبيت بتمامه: فغُض الطرف إنك من نُمير فلا كعبا ولا كِلابا وهو من قصيدته البائية التي بدأها بقوله: أقلي اللوم عاذل والعتابا وقولي إن أصبت لقد أصابا والبيت في الديوان، والكتاب لسيبويه، والعيني، وابن يعيش، والهمع، والأشموني، وشرح واهد الشافية،والتصريح، وفي الكامل للمبرد:(فغض) بكسر الضاد، وفي الخزانة: فغُض بالفتح والكسر والضم، والنحويون يستشهدون به على جواز الفتح في (غض) المضعف لالتقاء الساكنين، وقد قيل: هو أهجى بيت قالته العرب:
[10449]:ذكره الواحدي في (أسباب النزول)، وأخرجه البزار، وابن مردويه من طريق طارق بن شهاب عن أبي بكر رضي الله عنه، وأخرجه الحاكم، والبيهقي في (المدخل) من حديث أبي هريرة وقال: صحيح على شرط مسلم.
[10450]:جاء في ذلك في حديث ابن أبي مليكة الذي رواه البخاري وذكرناه قبل ذلك، وفيه أن ابن الزبير رضي الله عنهما قال:"فما كان عمر يُسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هذه الآية حتى يستفهمه"، وفي الخبر أنه لم يذكر ذلك عن جده أبي بكر رضي الله عنهم أجمعين، راجع صفحة(483) من هذا الجزء.