اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{إِنَّ ٱلَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصۡوَٰتَهُمۡ عِندَ رَسُولِ ٱللَّهِ أُوْلَـٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ ٱمۡتَحَنَ ٱللَّهُ قُلُوبَهُمۡ لِلتَّقۡوَىٰۚ لَهُم مَّغۡفِرَةٞ وَأَجۡرٌ عَظِيمٌ} (3)

قوله : { إِنَّ الذين يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِندَ رَسُولِ الله } أي إجلالاً له { أولئك الذين امتحن الله قُلُوبَهُمْ للتقوى } اختبرها وأخلصها كما يمتحن الذهب بالنار فتخرج خالصة .

قوله : { أولئك الذين } يجوز أن يكون «أولئك » مبتدأ «والذين » خبره والجملة خبر «إِنَّ » ويكون «لهم مَغْفِرَةٌ » جملة أخرى إما مستأنفة وهو الظاهر وإما حالية . ويجوز أن يكون «الَّذِينَ امْتَحَنَ ( الله قُلُوبَهُمْ ) » صفة «لأولئك » أو بدلاً منه أو بياناً و«لَهُمْ مَغْفِرَةٌ » جملة خبرية{[51976]} .

ويجوز أن يكون «لهم » هو الخبر وحده و«مَغْفِرَةٌ » فاعل به واللام في قوله : «لِلْتَّقْوَى » يحتمل أن يتعلق بمحذوف تقديره عرف الله قلوبهم صالحة أي كائنة للتقوى كقولك : أنْتَ لِكذَا أي صَالِحٌ أي كائنٌ{[51977]} ويحتمل أن يكون للتعليل{[51978]} . وهو يحتمل وجهين :

أحدهما : أن يكون تعليلاً يجري مَجْرَى بيان السبب المتقدم ، كقولك : جِئْتُكَ لإِكْرَامِكَ ابني{[51979]} أمسِ أي صار ذلك السبب السابق سبب المجيء .

والثاني : أن يكون تعليلاً يجرى مجرى بيانه علّيّة{[51980]} المقصود المتوقع الذي يكون لاحقاً لا سابقاً ، كقولك : جِئْتُكَ لأَدَاء الوَاجِبِ ، أي ليصير مجيئي سبباً لأداء الواجب .

فعلى الأول فمعناه أن الله علم في قلوبهم تقواه{[51981]} فامتحن قلوبهم للتقوى التي كانت فيها ، ولولا أن قلوبهم كانت مملوءة من التقوى لما أمرهم بتعظيم رسوله وتقديم نبيه على أنفسهم . وعلى الثاني فمعناه أن الله تعالى امتحن قلوبهم بمعرفته معرفة رسوله بالتقوى{[51982]} أي ليرزقهم الله التقوى ، ثم قال : { لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ } وقد تقدم الكلام عن ذلك .


[51976]:أخذ المؤلف ـ رحمه الله ـ كل هذه الأوجه من كتاب التبيان لأبي البقاء العكبري 1170.
[51977]:قاله جار الله الزمخشري في كشافه 3/557.
[51978]:أحد قولي الزمخشري أيضا وعنه أخذ الإمام الرازي في تفسيره هذين الوجهين وفصل التفصيل المرئي أعلى كما نلمح.
[51979]:في ب لي بدل من ابني.
[51980]:في تفسير الرازي: غاية.
[51981]:في ب: بقوله تحريف.
[51982]:بالمعنى من الرازي 28/115. فالمغفرة إزالة السيئات التي هي في الدنيا لازمة للنفس، والأجر العظيم إشارة إلى الحياة التي هي بعد مفارقة الدنيا عن النفس فيزيل الله عنه القبائح البهيمية ويلبسه المحاسن الملكية. انظر الرازي المرجع السابق.