الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي - الثعلبي  
{إِنَّ ٱلَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصۡوَٰتَهُمۡ عِندَ رَسُولِ ٱللَّهِ أُوْلَـٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ ٱمۡتَحَنَ ٱللَّهُ قُلُوبَهُمۡ لِلتَّقۡوَىٰۚ لَهُم مَّغۡفِرَةٞ وَأَجۡرٌ عَظِيمٌ} (3)

{ إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ } الآية " .

قال أنس : فكنّا ننظر إلى رجل من أهل الجنّة ، يمشي بين أيدينا ، فلمّا كان يوم اليمامة في حرب مسيلمة ، رأى ثابت في المسلمين بعض الانكسار ، وانهزمت طائفة منهم ، فقال : أف لهؤلاء ، وما يصنعون . ثمّ قال ثابت لسالم مولى أبي حذيفة : ما كنا نقاتل أعداء الله مع رسول الله مثل هذا ، ثمّ ثبتا ، ولم يزالا يقاتلان حتّى قُتلا . وثابت بن قيس عليه درع ، فرآه رجل من الصحابة بعد موته في المنام أنّه قال له : اعلم أنّ فلاناً رجلٌ من المسلمين نزع درعي ، فذهب بها وهي في ناحية من العسكر عنده فرس تستر في طوله ، وقد وضع على درعي لرمه ، فأتِ خالد بن الوليد ، فأخبره حتّى يسترد درعي وأتِ أبا بكر خليفة رسول الله وقل له : إنّ عليَّ ديناً حتّى يقضي ، وفلان من رقيقي عتيق .

فأخبر الرجل خالداً فوجد درعه والفرس على ما وصفه ، فاسترد الدرع ، وأخبر خالد أبا بكر تلك الرؤيا ، فأجاز أبو بكر وصيّته . قال مالك بن أنس : لا أعلم أجيزت بعد موت صاحبها إلاّ هذه .

حدّثنا أبو محمّد المخلدي ، قال : أخبرنا أبو العبّاس السرّاج ، قال : حدّثنا زياد بن أيّوب ، قال : حدّثنا عباد بن العوّام ، ويزيد بن هارون وسعيد بن عادر ، عن محمّد بن عمرو ، عن أبي سلمة ، قال : حدّثنا سعيد ، عن أبي هريرة .

قال : لمّا نزلت { لاَ تَرْفَعُواْ أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ } . . . الآية ، قال أبو بكر : والله لا أرفع صوتي إلاّ كأخي السِرار .

وروى ابن أبي مليكة عن أبي الزبير ، قال : لمّا نزلت هذه الآية ، ما حدّث عمر النبيّ صلى الله عليه وسلم بعد ذلك ، فيسمع النبيّ صلى الله عليه وسلم كلامه حتّى يستفهمه ممّا يخفض صوته ، فأنزل الله سبحانه فيهم : { إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ } إجلالاً له { أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى } أي اختبرها ، فأخلصها ، واصطفاها كما يمتحن الذهب بالنار ، فيخرج خالصه ، وقال ابن عبّاس : أكرمها .

وأخبرنا أبو سعيد محمّد بن موسى بن الفضل النيسابوري ، قال : أخبرنا أبو عبد الله محمّد ابن عبدالله بن أحمد الإصبهاني ، قال : حدّثنا أبو بكر عبد الله بن محمّد بن عبد القريشي ، قال : حدّثنا محمّد بن يحيى بن أبي خاتم ، قال : حدّثني جعفر بن أبي جعفر ، عن أحمد بن أبي الخولدي ، قال : سمعت أبا سلمان يقول : قال عمر بن الخطّاب في قوله : { الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى } قال : أذهب الشهوات منها { لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ } ويقال : إنّ هذه الآيات الأربع من قوله : { يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَرْفَعُواْ أَصْوَاتَكُمْ } إلى قوله : { وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } نزلت في وفد تميم .

وهو ما أخبرني أبو القاسم الحسن بن محمّد ، قال : حدّثني أبو جعفر محمّد بن صالح بن هاني الورّاق سنة سبع وثلاثين وثلاثمائة ، قال : حدّثنا الفضل بن محمّد بن المسيب بن موسى الشعراني ، قال : حدّثنا القاسم بن أبي شيبة ، قال : حدّثنا مُعلّى بن عبد الرّحمن ، قال : حدّثنا عبد الحميد بن جعفر بن عمر بن الحكم ، عن جابر بن عبد الله ، قال : " جاءت بنو تميم إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فنادوا على الباب : يا محمّد اخرج علينا ، فإنّ مدحنا زين وذمّنا شين . قال : فسمعها النبيّ صلى الله عليه وسلم صلّى الله عليه وسلّم ، فخرج عليهم ، وهو يقول : " إنّما ذلكم الله الذي مدحه زين وذمّه شين " . قالوا : نحن ناس من بني تميم ، جئنا بشاعرنا وخطيبنا نشاعرك ونفاخرك ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ما بالشعر بعثت ، ولا بالفخار أمرت ، ولكن هاتوا " . فقال الزبرقان بن بدر لشاب من شبابهم : قم فاذكر فضلك ، وفضل قومك . فقام ، فقال : الحمد لله الذي جعلنا خير خلقه وآتانا أموالاً نفعل فيها ما نشاء ، فنحن من خير أهل الأرض ، من أكثرهم عدّة ، ومالاً ، وسلاحاً ، فمن أنكر علينا قولنا ، فليأت بقول هو أحسن من قولنا ، وفعال هي خير من فِعالنا . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لثابت بن قيس بن شماس ، وكان خطيب رسول الله : " قم فأجبه " .

فقام ، فقال : الحمد لله أحمده ، وأستعينه ، وأومن به ، وأتوكّل عليه ، وأشهد أن لا إله إلاّ الله ، وحده لا شريك له ، وأشهد أنّ محمّداً عبده ورسوله ، ثمّ دعا المهاجرين من بني عمّه أحسن الناس وجوهاً وأعظمهم أحلاماً . فأجابوه ، فقالوا : الحمد لله الذي جعلنا أنصاره ، ووزراء رسوله ، وعزّاً لدينه ، فنحن نقاتل الناس ، حتّى يشهدوا أن لا إله إلاّ الله ، فمن قالها منع منّا ماله ، ونفسه ، ومن أبى قتلناه ، وكان زعمه في الله علينا هيناً ، أقول قولي وأستغفر الله للمؤمنين والمؤمنات . فقال الزبرقان بن بدر لشاب من شبابهم : قم يا فلان ، فقل أبياتاً تذكر فيها فضلك ، وفضل قومك . فقام الشاب ، فقال :

* نحن الكرام فلا حيٌّ يعادلنا * فينا الرؤوس وفينا يقسم الربع *

* ونطعم الناس عند القحط كلّهم * من السديف إذا لم يؤنس القزع *

* إذا أبينا فلا يأبى لنا أحد * إنا كذلك عند الفخر نرتفع *

قال : فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حسّان بن ثابت ، فانطلق إليه الرّسول ، فقال : وما تريد منّي وكنت عنده ؟ قال : جاءت بنو تميم بشاعرهم ، وخطيبهم ، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ثابت بن قيس ، فأجابه ، وتكلّم شاعرهم ، فأرسل إليك لتجيبه .

وذكر له قول شاعرهم . قال : فجاء حسّان ، فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجيبه فقال : يا رسول الله مره ، فليُسمعني ما قال ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم " اسمعه ما قلت " ، فأنشده ما قال ، فقال حسّان :

* إنّ الذوائب من فهر وإخوتهم * قد شرّعوا سُنّة للنّاس تتّبع *

* يرضى بها كلّ من كانت سريرته * تقوى الإله وكلّ الخير يصطنع *

ثمّ قال حسّان :

* نصرنا رسول الله والدين عنوة * على رغم عات من معد وحاضر *

* بضرب كأبزاغ المخاض مشاشه * وطعن كأفواه اللقاح الصوادر *

* وسل أُحداً يوم استقلت شعابه * بضرب لنا مثل الليوث الجواذر *

* ألسنا نخوض الموت في حومة الوغى * إذا طاب ورد الموت بين العساكر *

* ونضرب هام الدارعين وننتمي * إلى حسب من جذم غسان قاهر *

* فلولا حياء الله قلنا تكرّماً * على النّاس بالخيفين هل من منافر *

* فأحياؤنا من خير من وطئ الحصى * وأمواتنا من خير أهل المقابر *

قال : فقام الأقرع بن حابس ، فقال : إنّي والله لقد جئت لأمر ما جاء له هؤلاء ، وإنّي قد قلت شعراً ، فاسمعه منّي ، فقال : هات ، فقال :

* أتيناك كيما يعرف الناس فضلنا * إذا خالفونا عند ذكر المكارم *

* وإنّا رؤُس الناس من كلّ معشر * وأنّ ليس في أرض الحجاز كدارم *

* وإنّ لنا المرباع في كلّ غارة * تكون بنجد أو بأرض التهائم *

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " قم يا حسّان فأجبه " . فقام حسّان ، فقال :

* بني دارم لا تفخروا إنّ فخركم * يعود وبالاً عند ذكر المكارم *

* هبلتم علينا تفخرون وأنتمُ * لنا خول من بين ظئر وخادم *

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لقد كنت غنياً يا أخا دارم أن يذكر منك ما قد ظننت أنّ الناس قد نسوه " .

قال : فكان قول رسول الله صلى الله عليه وسلم أشدّ عليهم من قول حسّان . ثمّ رجع حسّان إلى شعره . فقال :

* كأفضل ما نلتم من المجد والعلى * ردافتنا من بعد ذكر الأكارم *

* فإن كنتمُ جئتمْ لحقن دمائكم * وأموالكم أن تقسموا في المقاسم*

* فلا تجعلوا لله ندّاً وأسلموا * ولا تفخروا عند النبيّ صلى الله عليه وسلم بدارم *

* وإلاّ وربّ البيت مالت أكفّنا * على هامكم بالمرهفات الصوارم *

قال : فقام الأقرع بن حابس ، فقال : إنّ محمّداً المولى ، إنه والله ما أدري ما هذا الأمر ، تكلّم خطيبنا ، فكان خطيبهم أحسن قولاً ، وتكلّم شاعرنا ، فكان شاعرهم أشعر ، وأحسن قولاً . ثمّ دنا من النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال : أشهد أن لا إله إلاّ الله وأنّك رسوله .

فقال له النبيّ صلى الله عليه وسلم " ما يضرّك ما كان قبل هذا " . ثمّ أعطاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وكساهم ، وقد كان يخلف في ركابهم عمرو بن الأهتم ، وكان قيس بن عاصم يبغضه لحداثة سنه ، فأعطاه رسول الله مثل ما أعطى القوم ، فأزرى به قيس ، وقال فيه أبيات شعر وارتفعت الأصوات ، وكثر اللغط عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى : { يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَرْفَعُواْ أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ } إلى قوله { وَأَجْرٌ عَظِيمٌ } "

يعني جزاء وافراً ، وهو الجنّة .