المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية  
{لَّا تُدۡرِكُهُ ٱلۡأَبۡصَٰرُ وَهُوَ يُدۡرِكُ ٱلۡأَبۡصَٰرَۖ وَهُوَ ٱللَّطِيفُ ٱلۡخَبِيرُ} (103)

أجمع أهل السنة على أن الله تعالى يرى يوم القيامة ، يراه المؤمنون وقاله ابن وهب عن مالك بن أنس ، والوجه أن يبين جواز ذلك عقلاً ثم يستند إلى ورود السمع بوقوع ذلك الجائز ، واختصار تبيين ذلك يعتبر بعلمنا بالله عز وجل ، فمن حيث جاز أن نعلمه لا في مكان ولا متحيز ولا مقابل ولم يتعلق علمنا بأكثر من الوجود ، جاز أن نراه غير مقابل ولا محاذى ولا مكيفاً ولا محدوداً ، وكان الإمام أبو عبد الله النحوي يقول : مسألة العلم حلقت لحى المعتزلة ثم ورد الشرع بذلك وهو قوله عز وجل : { وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة } [ القيامة : 22 ] وتعدية النظر يأتي إنما هو في كلام العرب لمعنى الرؤية لا لمعنى الانتظار على ما ذهبت إليه المعتزلة ، وذكر هذا المذهب لمالك فقال : فأين هم عن قوله تعالى : { كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون } [ المطفّفين : 15 ] .

قال القاضي أبو محمد : فقال بدليل الخطاب{[5038]} ذكره النقاش ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم ، فيما صح عنه وتواتر وكثر نقله : إنكم ترون ربكم يوم القيامة كما ترون القمر ليلة البدر{[5039]} ، ونحوه من الأحاديث على اختلاف ترتيب ألفاظها ، وذهبت المعتزلة إلى المنع من جواز رؤية الله تعالى يوم القيامة واستحالة ذلك بآراء مجردة ، وتمسكوا بقوله تعالى : { لا تدركه الأبصار } وانفصل أهل السنة عن تمسكهم بأن الآية مخصوصة في الدنيا ، ورؤية الآخرة ثابتة بأخبارها ، وانفصال آخر ، وهو أن يفرق بين معنى الإدراك ومعنى الرؤية ، ونقول{[5040]} : إنه عز وجل تراه الأبصار ولا تدركه ، وذلك الإدراك يتضمن الإحاطة بالشيء والوصول إلى أعماقه وحوزه من جميع جهاته ، وذلك كله محال في أوصاف الله عز وجل ، والرؤية لا تفتقر إلى أن يحيط الرائي بالمرئي ويبلغ غايته ، وعلى هذا التأويل يترتب العكس في قوله { وهو يدرك الأبصار } ويحسن معناه ، ونحو هذا روي عن ابن عباس وقتادة وعطية العوفي ، فرقوا بين الرؤية والإدراك ، وأما الطبري رحمه الله ففرق بين الرؤية والإدراك واحتج بقول بني إسرائيل إنَّا لمدركون{[5041]} فقال إنهم رأوهم ولم يدركوهم .

قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه : وهذا كله خطأ لأن هذا الإدراك ليس بإدراك البصر بل هو مستعار منه أو بإشتراك ، وقال بعضهم إن المؤمنين يرون الله تعالى بحاسة سادسة تخلق يوم القيامة ، وتبقى هذه الآية في منع الإدراك بالأبصار عامة سليمة ، قال : وقال بعضهم : إن هذه الآية مخصوصة في الكافرين ، أي إنه لا تدركه أبصارهم لأنهم محجوبون عنه .

قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه : وهذه الأقوال كلها ضعيفة ودعاو لا تستند إلى قرآن ولا حديث ، و { اللطيف } المتلطف في خلقه واختراعه وإتقانه ، وبخلقه وعباده و { الخبير } المختبر لباطن أمورهم وظاهرها .


[5038]:- يرى الإمام مالك رضي الله عنه أن المؤمنين يرونه سبحانه وتعالى من جهة دليل الخطاب، قال وإلا فلو حجب الكل لما أغنى هذا التخصيص، وقال الإمام الشافعي: لما حجب سبحانه قوما بالسخط دلّ على أن قوما يرونه بالرضا. (راجع الألوسي). وفي ابن كثير: "وقال تبارك وتعالى عن الكافرين: {كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون}، قال الإمام الشافعي: فدل هذا على أن المؤمنين لا يحجبون عنه تبارك وتعالى".
[5039]:- قال ابن كثير في تفسيره: "ثبتت رؤية المؤمنين لله عز وجل في الدار الآخرة في الأحاديث الصحاح من طرق متواترة عند أئمة الحديث لا يمكن دفعها ولا منعها لحديث أبي سعيد وأبي هريرة وهما في الصحيحين أن ناسا قالوا: يا رسول الله هل نرى ربنا يوم القيامة؟ فقال: هل تضارون في رؤية الشمس والقمر ليس دونهما سحاب؟ قالوا: لا. قال: إنكم ترون ربكم كذلك". وروى البخاري في صحيحه "إنكم سترون ربكم عيانا". وفي الصحيحين عن جرير قال: (نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى القمر ليلة البدر فقال: إنكم ترون ربكم كما ترون هذا القمر. فإن استطعتم ألا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس ولا قبل غروبها فافعلوا).
[5040]:- تعبير بكلمة (نقول) تدل على أنه من أهل السنة وتدحض دعوى من قال: إنه من المعتزلة أو يميل إلى آرائهم- وقد وضحنا هذه القضية في المقدمة.
[5041]:- من الآية (61) من سورة (الشعراء).