تأويلات أهل السنة للماتريدي - الماتريدي  
{لَّا تُدۡرِكُهُ ٱلۡأَبۡصَٰرُ وَهُوَ يُدۡرِكُ ٱلۡأَبۡصَٰرَۖ وَهُوَ ٱللَّطِيفُ ٱلۡخَبِيرُ} (103)

الآية 103 وقوله تعالى : { لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار } قيل : كنى بالأبصار عن الخلق ؛ كأنه قال : لا يدركه الخلق ، وهو يدرك الخلق ، وإنما كنى بالأبصار عن الخلق لما بالأبصار تدرك الأشياء ، ويحاط بها لذلك كان معنى الكناية ، والله أعلم .

وقيل : هو على حقيقة الإبصار لكنه بصر القلب لما به تقع المعارف . فإن كان بصر الوجه ففيه دليل إثبات الرؤية لأنه نفى عنه الإدراك . فلو لم يكن لنفي الإدراك معنى ، لأنه لا يدرك ما لا يرى ، دل{[7543]} نفي الإدراك على أن هناك رؤية . لكنه لا يدرك ، ولا يحاط به على ما ذكر { ولا يحيطون به علما } [ طه : 110 ] ؛ إذ من الأشياء الظاهرة مما يقع عليها البصر يكون لها سر ، وفيها خفي ، من نحو البصر والسمع والأنف واليد وغير ذلك من الأشياء مما لا تدرك حقيقة ماهيتها وكيفيتها ، ولا تقديرها .

يبصر بالبصر أشياء لا تعرف حقيقة كيفية البصر ولا ماهيته ، وكذلك السمع لا يدرى أنه كيف ؟ ولا بم يسمع ؟ وكذلك هذا في كل جارحة وحاسة تجد اليد{[7544]} خشونة الشيء الذي تمسه ولينه ، لا تعرف بم تجد ذلك ، وتعرفه ؟ وكذلك الكلام من اللسان والشم من الأنف لا يدرى ما هو ؟ ولا كيف ؟ وبم يجد تلك الرائحة والنتن ؟

فإذا كانت معارف الخلق في الأشياء الظاهرة التي يقع عليها البصر لا تدرك حقيقة ماهيتها ولا تعرف كيفيتها ، ولا يحاط بها علما ، فالله{[7545]} سبحانه وتعالى الذي بحكمته وضع ذلك ، وبلطفه ركب ، أبعد عن الإدراك وأحرى ألا يحاط به ، ولا يدرك .

وهذا يرد على المجسمة مذهبهم لأنهم يصورون ربهم في قلوبهم ، ويمثلونه . فعلى ذلك يعبدونه ؛ فهم مشبهة .

وأصله أن الله ، تبارك ، وتعالى ، عرف بالآيات والدلائل لا بالمحسوسات والمشاهدات . وكل شيء سبيل معرفته الآيات والدلائل فهو غير محاط به ولا مدرك ، فهو على ما وصف نفسه [ بقوله تعالى ]{[7546]} { ولا يحيطون به علما } [ طه : 110 ] [ وقوله تعالى ]{[7547]} : { لا تدركه الأبصار } [ الأنعام : 103 ] لأن الإدراك والإحاطة [ لا تعرف ]{[7548]} بالمحسوسات إنما{[7549]} تعرف بالآيات والدلائل .

وعلى ذلك جاءت دلائل الرسل نحو ما قال موسى حين سأله فرعون : { قال فمن ربكما يا موسى } { قال ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى } [ طه : 49 و 50 ] وما{[7550]} قال : { إبراهيم ربي الذي يحيي ويميت قال أنا أحيي وأميت قال إبراهيم فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب } [ البقرة : 258 ] [ هاتان دلالتان ]{[7551]} على ألوهيته ووحدانيته من جهة الآيات والدلائل لا من غيرها{[7552]} . وعلى ذلك دل الله الخلق على معرفة وحدانيته وربوبيته بقوله{[7553]} تعالى : { وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها } [ الأنعام : 97 ] وقوله{[7554]} تعالى : { هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا وقدره منازل } [ يونس : 5 ] وقوله{[7555]} تعالى : { وهو الذي أنزل من السماء ماء فأخرجنا به نبات كل شيء } [ الأنعام : 99 ] إلى آخر ما ذكر دلهم على ما يعرفون ألوهيته من جهة الآيات والدلائل لا من جهة ما تقع الإحاطة والإدراك ، وبالله الهداية والرشاد .

وقوله تعالى : { وهو اللطيف الخبير } قيل { اللطيف } في أفعاله [ الخبير } بخلقه وبأعمالهم ، وقيل : { اللطيف } البار الرحيم ، وقيل : { اللطيف } هو العليم بخفيات الأشياء و{ الخبير } بظواهر الأشياء . ثم هو { اللطيف } العظيم ؛ والعظيم في الشاهد غير اللطيف ، واللطيف غير العظيم لأن العظيم في الشاهد هو الذي به كثافة ، واللطيف ما يلطف في نفسه ، ويرق ، وكل واحد منهما مما يناقض الآخر ؛ ليعلم أنه لطيف عظيم لا من الوجوه التي تعرف في الخلق . وكذلك قوله تعالى : { الأول والآخر والظاهر والباطن } [ الحديد : 3 ] وهو أول وآخر ، وظاهر وباطن . وفي الخلق من كان أولا لم يكن آخرا ، ومن كان ظاهرا لم يكن باطنا ليعلم أنه أول وآخر وظاهر وباطن لا من الوجه الذي يعرف ، ويفهم من الخلق ، ولكن مما{[7556]} وصف نفسه .


[7543]:- في الأصل وم: فدل.
[7544]:- في الأصل وم: اليوم.
[7545]:- من م، في الأصل: والله.
[7546]:- ساقطة من الأصل وم.
[7547]:- في الأصل وم: و.
[7548]:- في الأصل وم: إنما تقع.
[7549]:- في الأصل وم: لا بما.
[7550]:- في الأصل وم: و.
[7551]:- في الأصل وم: دلاه.
[7552]:- في الأصل وم: غيره.
[7553]:في الأصل وم: وقال.
[7554]:- في الأصل وم: وقال.
[7555]:- في الأصل وم: وقال.
[7556]:- في الأصل وم: ما.