الهداية إلى بلوغ النهاية لمكي بن ابي طالب - مكي ابن أبي طالب  
{لَّا تُدۡرِكُهُ ٱلۡأَبۡصَٰرُ وَهُوَ يُدۡرِكُ ٱلۡأَبۡصَٰرَۖ وَهُوَ ٱللَّطِيفُ ٱلۡخَبِيرُ} (103)

قوله : { لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار } الآية [ 104 ] .

قال ابن عباس : معناه : لا تحيط به الأبصار ، وهو يحيط بها {[21215]} .

وليس معناه : لا تراه {[21216]} ، كما زعمت المعتزلة القدرية ، وقد قال الله عن فرعون : { إذا أدركه الغرق } {[21217]} فوصف بأن {[21218]} الغرق أدرك فرعون ) {[21219]} ولم يخبر أنه رآه ، لأن الغرق ليس مما يُرى ، فليس الإدراك هو الرّؤية ، وقد يرى الشيءُ الشيءَ ولا يُدركه ، كما حكي عن أصحاب موسى حين قرب منهم أصحاب فرعون : { فلما تراءى الجمعان قال أصحاب موسى إنا لمدركون } {[21220]} ، وكان أصحاب فرعون قد رأوا أصحاب موسى ، ولم يكونوا ليدركوهم ، لأن الله قد وعد نبيه أنهم لا يُدرَكون بقوله : { لا تخاف دركا ولا تخشى } {[21221]} ، ولذلك قال لهم موسى : ( كلا ) {[21222]} أي : ليس يُدرِكونا {[21223]} ، فليس ( قوله ) {[21224]} : { لا تدركه الأبصار } بمعنى : لا تراه الأبصار ، وإنما معناه : لا تحيط به الأبصار ، لأنه غير جائز أن {[21225]} تحيط به الأبصار ، ومثل {[21226]} هذا وصفه بأنه يُعلم ولا يحاط به {[21227]} .

/ {[21228]}وقيل : معناه : لا تراه الأبصار في الدنيا ، قاله السدي وغيره {[21229]} .

والكلام على جواز رؤية {[21230]} الله جل ذكره في الآخرة يطول {[21231]} ، وبجوازه {[21232]} يقول أهل السنة والجماعة ، و( به ) {[21233]} تواترت الأخبار وتتابعت الروايات {[21234]} عن النبي عليه السلام {[21235]} ، وهو معنى قوله : { وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة } {[21236]} ، وهو المفهوم من قوله تعالى في الكفار : { كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون } {[21237]} ، فلو كان الخلق كلهم محجوبون عن ربهم ، ما خص ذكر الكفار بالحجاب . وفي تخصيصه الكفار ( بالحجاب ) {[21238]} دليل على أن المؤمنين غير محجوبين عن ربهم ، فأما قول من قال : إن معناه : ( عن رحمة ربك ) {[21239]} وقال في ( الآية الأخرى ) {[21240]} : ( إلى رحمة ربها ناظرة ) ، فهو قول متقاحم {[21241]} بالباطل ، مُدَّع ما ليس لفظه في الكلام ، مُخرِج للخطاب عن ظاهره ، متكلِّف إضمار ما ليس في الكلام عليه دليل ، ألْجَأَهُ إلى ذلك كله نَصْرُ {[21242]} باطله ( بباطل مثله ) {[21243]} ، أعاذنا الله من ذلك كله {[21244]} .

وقيل : معنى ( الأبصار ) هي في هذا : أبصار العقول {[21245]} ، كما قال : { فمن أبصر فلنفسه } {[21246]} ، فالمعنى : لا يدركه {[21247]} نفاذ العقول فتتوهمه وتُكيّفه إذ ليس كمثله شيء متوهّم محدود {[21248]} .

قوله : { وهو اللطيف الخبير ) {[21249]} : ( اللطيف ) } {[21250]} : مشتق من اللطف وهو التأني {[21251]} يقال : ( أُلطُفْ لِفُلانٍ في هذا الأمر ) ، أي : ( تأن له ) {[21252]} من وجه يَخلُص {[21253]} ( منه ) {[21254]} إلى بغيته {[21255]} ، ( فالله لطيف بالخلق ) {[21256]} حتى صاروا إلى ما يصلحهم {[21257]} . وقيل : { اللطيف } هو الذي فعل {[21258]} أفعالا لطيفة ، و{ الخبير } : العالم بالشيء . فهو لطيف لإحكامه الخَلْقَ {[21259]} ، وهو العظيم ، لأنه خلق الخلق العظيم {[21260]} .


[21215]:انظر: تفسير الطبري 12/13.
[21216]:ب: نراه.
[21217]:يونس آية 90.
[21218]:ب د: ان.
[21219]:ساقطة من ب.
[21220]:الشعراء آية 61.
[21221]:طه آية 76.
[21222]:الشعراء آية 62.
[21223]:الظاهر من الخرم في (أ) أنها كما أثبت، ب د: يدركوننا.
[21224]:ساقطة من د.
[21225]:ب: أو.
[21226]:مخرومة في أ.
[21227]:كما في قوله: {ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء} [البقرة آية 254]. وانظر: تفسير الطبري 12/14 وليس فيه ذكر (المعتزلة القدرية)، وفيه – 12/18 – الحديث عن هذا الرأي من غير ذكر قائله.
[21228]:جلها مطموس مع بعض الخرم.
[21229]:في تفسير الطبري قول السدي: (لا يراه شيء وهو يرى الخلائق) 12/16، وهو عام غير محدد بزمان، ذلك أن الطبري ساق بعده روايات أربع لقول عائشة في عموم عدم رؤية الله تعالى.
[21230]:ب: راية.
[21231]:فصل الطبري القول في هذا في تفسيره 12/13 إلى 22.
[21232]:ب: لجوازه.
[21233]:ساقطة من ب.
[21234]:ب: الرءيات.
[21235]:انظر: (الباب الرابع من كتاب القيامة في رؤية الله عز وجل) في جامع الأصول 10/557 وما بعدها.
[21236]:القيامة الآيتان 21، 22.
[21237]:المطففين آية 15.
[21238]:ساقطة من د.
[21239]:ب د: ربهم.
[21240]:ب: الآخرة.
[21241]:الظاهر من الطمس في (أ) أنها كما أثبت. ب: متفاحم. (وقحم الرجل في الأمر يقحم قحوما واقتحم وانقحم، وهما أفصح: رمى بنفسه فيه من غير روية..والإقحام: الإرسال في عجلة): اللسان: قحم.
[21242]:ب: نص.
[21243]:د: بالباطل.
[21244]:في هذا موافقة لما ورد من كلام الطبري في تفسيره 12/14 وما بعدها. وانظر: الإبانة 35 وما بعدها حيث الباب الأول بعنوان: الكلام في إثبات رؤية الله بالإبصار في الآخرة. وفي كتاب التوحيد 178-214 الأخبار الواردة برؤية الله تعالى. هذا وانظر: القول في رؤيته تعالى بلا كيف في شرح الفقه الأكبر 119، 120، كما أن تحفة المريد 114 وما بعدها التفضيل في رؤية الله مع رد الشبهات المخالفة للسنة بمختلف الآيات والآثار وبعض الأشعار. انظر: أيضا المحرر 6/122، 123، والتفسير الكبير 13/124 وما بعدها.
[21245]:مستدركه في هامش (أ) بلفظه (صح) ومخرومة إلا الثلاثة حروف الأخيرة. ب د : القلوب.
[21246]:الأنعام آية 105 وذكر الطبري في تفسيره 12/19 قول بعضهم: إن (الله يحدث لأوليائه يوم القيامة حاسة سادسة سوى حواسهم الخمس، فيرونه بها).
[21247]:د: تدركه.
[21248]:انظر: التفسير الكبير13/132، 133.
[21249]:ساقطة من ب د.
[21250]:ساقطة من أ.
[21251]:ب: الثاني.
[21252]:ب: نازله.
[21253]:ب: يخلصه.
[21254]:ساقطة من ب.
[21255]:ب: نفسه.
[21256]:الظاهر من الطمس والخرم في (أ) أنها كما أثبت. ب: (فانه اللطف للخلق). د: فالله اللطيف للخلق).
[21257]:انظر: اللسان: لطف.
[21258]:ب: أفعل.
[21259]:ب د: للخلق.
[21260]:انظر: التفسير الكبير 13/133، وأحكام القرطبي 7/57 ومما فيه قول الجنيد رحمه الله: (اللطيف: من نور قلبك بالهدى، وربى جسمك بالغذا، وجعل لك الولاية في البلوى، ويحرسك وأنت في لظى، ويدخلك جنة المأوى).