غرائب القرآن ورغائب الفرقان للحسن بن محمد النيسابوري - النيسابوري- الحسن بن محمد  
{لَّا تُدۡرِكُهُ ٱلۡأَبۡصَٰرُ وَهُوَ يُدۡرِكُ ٱلۡأَبۡصَٰرَۖ وَهُوَ ٱللَّطِيفُ ٱلۡخَبِيرُ} (103)

101

ثم بين أن شيئاً من القوى المدركة لا يحيط بحقيقته وأن عقلاً من العقول لا يقف على كنه صمديته فقال { لا تدركه الأبصار } هذه الآية من مشهورات استدلالات المعتزلة على نفي رؤيته تعالى . قالوا : الإدراك بالبصر عبارة عن الرؤية بدليل أن قول القائل : أدركته ببصري وما رأيته متناقضان . ثم إن قوله { لا تدركه الأبصار } يقتضي أنه لا يراه شيء من الأبصار في شيء من الأحوال بدليل صحة الاستثناء . وأيضاً أنه ذكر الآية في معرض المدح والثناء ، وكل ما كان عدمه مدحاً ولم يكن ذلك من باب الفعل كان ثبوته نقصاً كقوله { لا تأخذه سنة ولا نوم } [ البقرة : 255 ] { لم يلد ولم يولد } [ الصمد : 3 ] فوجب كون الرؤية نقصاً في حقه تعالى . وإنما قيدوا بما لا يكون من باب الفعل لأنه تعالى يمتدح بنفي الظلم عن نفسه في قوله { وما ربك بظلام للعبيد } [ فصلت : 46 ] مع أنه تعالى قادر على الظلم عندهم . وأجيب بالمنع من أن إدراك البصر عبارة عن الرؤية لأنه في أصل اللغة موضوع للوصول واللحوق ومنه { قال أصحاب موسى إنا لمدركون } [ الشعراء : 61 ] أي لملحقون وقوله تعالى { حتى إذا أدركه الغرق } [ يونس : 90 ] أي لحقه . وأدرك الغلام أي بلغ ، وأدركت الثمرة إذا نضجت . وإذ قد ثبت ذلك فنقول : الرؤية جنس والإدراك أي إدراك البصر رؤية مع الإحاطة . ولا يلزم من نفي الخاص نفي العام ، فلا يلزم من نفي إدراك البصر نفي الرؤية . سلمنا أن إدراك البصر عبارة عن الرؤية لكن قوله { لا تدركه الأبصار } لا يفيد إلا نفي العموم وأنتم تدعون عموم النفي فأين ذاك من هذا . وإنما قلنا إنه لا يفيد إلا نفي العموم لأن صيغة الجمع كما تحمل على الاستغراق فقد تحمل على المعهود السابق أيضاً . فقوله { لا تدركه الأبصار } يفيد أنها لا تدركه في الدنيا وأنها تركه إذا تبدلت صفاتها وتغيرت أحوالها في الآخرة ، أو نقول قول القائل : لا يدركه جميع الأبصار يفيد سلب العموم ولا يفيد عموم السلب ، فلم لا يجوز أن يفيد أنه يدركه بعض الأبصار كما لو قيل إن محمداً ما آمن به كل الناس فإنه يفيد أنه آمن به بعض الناس ، سلمنا أن الأبصار لا تدركه البتة فلم لا يجوز حصول إدراك الله تعالى بحاسة سادسة يخلقها الله تعالى يوم القيامة كما هو مذهب ضرار بن عمرو الكوفي . أو نقول : سلمنا أن الأبصار لا تدركه فلم قلتم إن المبصرين لا يدركونه ، أما قولهم إن الآية مذكورة في معرض المدح فنقول : لو لم يكن الله تعالى جائز الرؤية لما حصل المدح بقوله { لا تدركه الأبصار } وإنما يحصل التمدح لو كان بحيث نصح رؤيته . ثم إنه تعالى يحجب الأبصار عن رؤيته لغاية جلاله ونهاية جماله . والتحقيق فيه أن النفي المحض والعدم الصرف لا يكون موجباً للمدح والعلم به ضروري ، بل إذا كان النفي دليلاً على حصول صفة ثابتة من صفات المدح قيل : إن ذلك النفي يوجب التمدح كقوله { لا تأخذه سنة ولا نوم } [ البقرة : 255 ] فإنه لا يفيد المدح نظراً إلى هذا النفي ، فإن الجماد أيضاً لا تأخذه سنة ولا نوم إلا أن هذا النفي في حق الباري تعالى يدل على كونه عالماً بجميع المعلومات من غير تبدل ولا زوال . فقوله { لا تدركه الأبصار } يمتنع أن يفيد المدح إلا إذا دل على معنى موجود وذلك ما قلناه من كونه قادراً على حجب الأبصار ومنعها عن الإحاطة به ، فثبت بما ذكرنا أن هذه الآية عليكم لا لكم لأنها أفادت أنه تعالى جائز الرؤية بحسب ذاته . ثم نقول : إذا ثبت ذلك يجب القطع بأن المؤمنين يرونه يوم القيامة لأن القائل قائلان : قائل بجواز الرؤية مع أن المؤمنين يرونه ، وقائل لا يرونه ولا تجوز رؤيته ، وإذا بطل هذا القول يبقى الأول حقاً لأن القول بجواز رؤيته مع أنه لا يراه أحد قول لم يقل به أحد وهذا استدلال لطيف . ثم إن القاضي استدل هاهنا على نفي الرؤية بوجوه أخر خارجة عن التفسير لائقة بالأصول . فأولها أن الحاسة إذا كانت سليمة وكان المرئي حاضراً وكانت الشرائط المعتبرة حاصلة - وهو أن لا يحصل القرب القريب والبعد البعيد وارتفع الحجاب وكان المرئي مقابلاً أو في حكم المقابل - فإنه يجب حصول الرؤية وإلا لجاز أن يكون بحضرتنا بوقات وطبول ونحن لا نسمعها ولا نراها ، وهذا يوجب السفسطة إذا ثبت هذا فنقول : القرب القريب والبعد البعيد والحجاب والمقابلة في حقه تعالى ممتنع ، فلو صحت رؤيته كان المقتضي لحصول تلك الرؤية سلامة الحاسة وكون المرئي بحيث يصح رؤيته ، وهذان المعنيان حصلان في هذا الوقت فوجب أن تحصل رؤيته ، وحيث لم تحصل علمنا أن رؤيته ممتنعة في نفسها . وأجيب بأن ذاته تعالى مخالفة لسائر الذوات ولا يلزم من ثبوت حكم لشيء ثبوت مثله فيما يخالفه . وثانيها لو صحت رؤيته لأهل الجنة لرآه أهل النار أيضاً لأن القرب والبعد والحجاب ممتنع في حقه تعالى . وأجيب بأنه لم لا يجوز أن يخلق الله تعالى الرؤية في عيون أهل الجنة ولا يخلقها في عيون أهل النار ؟ وثالثنا أن كل ما كان مرئياً كان مقابلاً أو في حكم المقابل ، والله تعالى منزه عن ذلك . وأجيب بمنع الكلية وبأنه إعادة لعين الدعوى لأن النزاع واقع في أن الموجود الذي لا يكون مختصاً بمكان وجهة هل يجوز رؤيته أم لا . ورابعها أن أهل الجنة يلزم أن يروه في كل حال حتى عند الجماع لأن القرب والبعد عليه تعالى محال ، ولأن رؤيته أعظم اللذات وفوات ذلك يوجب الغم والحزن وذلك لا يليق بحال أهل الجنة . وأجيب بأنهم لعلهم يشتهون الرؤية في حال دون حال كسائر الملاذ والمنافع .

( في تعديد الوجوه الدالة على جواز الرؤية ) : منها هذه الآية كما بينا . ومنها أن موسى عليه السلام طلب الرؤية فدل ذلك على جوازها . ومنها أنه تعالى علق الرؤية على استقرار الجبل والمعلق على الجائز جائز . ومنها قوله { للذين أحسنوا الحسنى وزيادة } [ يونس :26 ] قد اتفق الجمهور على أن النبي صلى الله عليه وسلم وآله فسر الحسنى بالجنة والزيادة بالرؤية ، ومنها قوله { فمن كان يرجوا لقاء ربه } [ الكهف : 110 ] ونحو ذلك من الآيات الدالة على اللقاء ، ومنها قوله { كانت لهم جنات الفردوس نزلاً } [ الكهف : 107 ] والاقتصار على النزل لا يجوز فالزائد على جنات الفردوس لا يكون إلا اللقاء . ومنها قوله { ولقد رآه نزلة أخرى } [ النجم : 13 ] وسوف يأتي في سورة النجم إن شاء الله تعالى . ومنها قوله { وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة } [ القيامة : 22 ، 23 ] ومنها قوله { كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون } [ المطففين : 15 ] فيكون المؤمنون غير محجوبين . ومنها قوله { فيها ما تشتهيه الأنفس } [ الزخرف : 71 ] ولا شك أن القلوب الصافية مجبولة على حب معرفة الله على أكل الوجوه وأكمل طرق المعرفة هو العيان . ومنها قوله { وإذا رأيت ثم رأيت نعيماً وملكاً كبيراً } [ الدهر : 20 ] فيمن قرأ بفتح الميم وكسر اللام . وأما الأخبار فكثيرة منها : الحديث المشهور «إنكم سترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر لا تضامون في رؤيته » والمراد تشبيه الرؤية بالرؤية في الجلاء والوضوح لا تشبيه المرئي بالمرئي . ومنها أن الصحابة اختلفوا في أن النبي صلى الله عليه وسلم وآله هل رأى الله تعالى ليلة المعراج ولم يكفر بعضهم بعضاً بهذا السبب فدل ذلك على أنهم كانوا يجمعون على إمكان الرؤية . أما قوله تعالى { وهو يدرك الأبصار } ففيه دليل على أنه سبحانه مبصر للمبصرات ، راء للمرئيات ، مطلع على ماهياتها ، عليم بعوارضها وذاتياتها . ثم قال { وهو اللطيف الخبير } وليس المراد باللطافة ضد الكثافة وهو رقة القوام فإن ذلك من صفات الأجسام ، بل المراد لطف صنعه في تركيب أبدان الحيوانات من الأجزاء الدقيقة والأغشية الرقيقة والمنافذ الضيقة التي لا يعلمها إلا مبدعها . أو المراد أنه لطيف في الإنعام والرحمة لا يأمرهم فوق طاقتهم وينعم عليهم فوق استحقاقهم . أو الغرض أنه يثني عليهم بالطاعة ، ولا يقطع موادّ إحسانه عنهم بالمعصية . أو المراد أنه يلطف عن أن يدركه الأبصار الخبير بكل لطيف ولا يلطف شيء عن إدراكه .