فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{لَّا تُدۡرِكُهُ ٱلۡأَبۡصَٰرُ وَهُوَ يُدۡرِكُ ٱلۡأَبۡصَٰرَۖ وَهُوَ ٱللَّطِيفُ ٱلۡخَبِيرُ} (103)

{ لا تدركه } أي لا تراه { الأبصار } جمع بصر وهو حاسة النظر أي القوة الباصرة ، وقد يقال للعين من حيث إنها محلها أي الحاسة ، وإدراك الشيء عبارة عن الوصول إليه والإحاطة به ، قال الزجاج : أي لا يبلغ كنه حقيقته ، فالأبصار ترى الباري عز اسمه ولا تحيط به كما أن القلوب تعرفه ولا تحيط به ، قال سعيد بن المسيب : لا تحيط به الأبصار ، وقال ابن عباس : كلت أبصار المخلوقين عن الإحاطة به ، فالمنفي هو هذا الإدراك لا مجرد الرؤية فقد ثبتت الأحاديث المتواترة تواترا لا شك فيه ولا شبهة ولا يجهله إلا من يجهل السنة المطهرة جهلا عظيما .

والحاصل أنه لا متسمك فيه لمنكري الرؤية على الإطلاق .

وأيضا قد تقرر في علم البيان والميزان أن رفع الإيجاب الكلي سلب جزئي فالمعنى لا تدركه بعض الأبصار ، وهي أبصار الكفار ، هذا على تسليم أن نفي الإدراك يستلزم نفي الرؤية الخاصة ، والآية من سلب العموم لا من عموم السلب ، والأول يخلفه الجزئية ، والتقدير لا تدركه كل الأبصار بل بعضها وهي أبصار المؤمنين ، والمصير إلى أحد الوجهين متعين لما عرفناك من تواتر في الآخرة واعتضادها بقوله تعالى : { وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة } .

وقد تشبث قوم من أهل البدع وهم الخوارج والمعتزلة وبعض المرجئة بظاهر هذه الآية ولا يستتب ذلك كما تقدمت الإشارة إليه ، على أن مورد الآية التمدح وهو يوجب ثبوت الرؤية إذ نفي إدراك ما تستحيل رؤيته لا تمدح فيه ، لأن كل ما لا يرى لا يدرك وإنما التمدح بنفي الإدراك مع تحقق الرؤية فكانت الحجة لنا عليهم ، ولو أمعنوا النظر فيها لاغتنموا التقصي عن عهدتها ، ومن ينفي الرؤية يلزمه نفي كونه تعالى معلوما موجودا ، والكلام في ذلك يطول جدا .

وقد أطال الواحد المتكلم الحافظ ابن القيم رحمه الله في حادي الأرواح في إثبات الرؤية ورد المنكرين لها . والشوكاني في البغية في مسائل الرؤية بما لا مزيد عليه ، وعن ابن عباس ذلك نوره إذا تجلى بنوره لا يدركه شيء ، وفي لفظ إنما ذلك إذا تجلى بكيفيته لم يقم له بصر ، وقال أيضا لا يحيط بصر أحد بالله ، وقال الحسن : لا تدركه الأبصار في الدنيا وهو يرى في الآخرة ، وعن إسماعيل ابن علبة مثله .

{ وهو يدرك الأبصار } أي يحيط بها ويبلغ كنهها لا يخفى عليه منها خافية أو يراها ولا تراه ولا يجوز في غيره أن يدرك البصر وهو لا يدركه ، وخص الأبصار ليجانس ما قبله .

قال الزجاج : في هذا دليل على أن الخلق لا يدركون الأبصار أي لا يعرفون كيفية حقيقة البصر وما الشيء الذي صار به الإنسان يبصر من عينيه دون أن يبصر من غيرهما من سائر أعضائه انتهى .

{ وهو اللطيف } أي الرفيق بعباده يقال لطف فلان بفلان أي رفق به . واللطف في العمل الرفق فيه واللطف من الله تعالى التوفيق والعصمة ، وألطفه بكذا إذا بره ، والملاطفة المبارة هكذا قال الجوهري وابن فارس ، و { الخبير } المختبر لكل شيء بحيث لا يخفى عليه شيء ، ويجوز أن يكون هذا من باب اللف والنشر المرتب أي تدركه الأبصار لأنه اللطيف وهو يدرك الأبصار لأنه الخبير فيكون اللطيف مستعارا من مقابل الكثيف ، وهو الذي لا يدرك بالحاسة ولا ينطبع فيها قاله البيضاوي والأول أولى .