نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي  
{لَّا تُدۡرِكُهُ ٱلۡأَبۡصَٰرُ وَهُوَ يُدۡرِكُ ٱلۡأَبۡصَٰرَۖ وَهُوَ ٱللَّطِيفُ ٱلۡخَبِيرُ} (103)

ولما كان كل والد وكل شريك لا بد أن يكون مجانساً لولده وشريكه بوجه ، وصل بذلك من وصفه ما اقتضاه المقام من تنزيهه{[30718]} ، فقال : { لا تدركه } أي حق الإدراك بالإحاطة { الأبصار } أي أن{[30719]} من جعلتموه ولده أو شريكه هو مدرك بأبصاركم كعيسى وعزير عليهما السلام والأوثان والنجوم والظلمة والنور ، وأما الملائكة والجن فإن كان حكمكم عليهم بذلك عن مشاهدة فهم كمن تقدمهم{[30720]} ، وإن كان عن إخبار فهو عن الأنبياء ليس غير ، وكل منهم مخبر بأنهم عباد الله كغيرهم ، وأنه منزه عن شريك وولد ، وهذه كتبهم وصحاح أخبارهم شاهدة بذلك ، و{[30721]} وراء ذلك كله أنهم بحيث يدركون بالأبصار في الجملة ، ليس إدراكهم مستحيلاً ، وأما هذا الإله العزيز فهو غير مدرك لكم بالبصر كما يدرك غيره إدراكاً تاماً ، فيتأمله ناظره فيزنه{[30722]} وينقده بالخبرة بما فيه من رضى وغضب وغيرهما ، بما أبدته الفراسة وأوضحه التوسم ، لأنه سبحانه متعال عن أن يحاط به ، هذا على أنه من عموم السلب ، وإن كان من سلب العموم فالمعنى أنه عزيز لا يراه كل أحد ، بل يراه الخواص إذا أراد فكشف لهم الحجاب وأوجد لهم الأسباب { وهو } مع ذلك يدرككم ، بل و { يدرك } ما لا تدركونه من أنفسكم { الأبصار } وهي القوى المودعة في عصبة العين لتدرك بها المبصرات { وهو اللطيف } عن أن يحيط{[30723]} به الأبصار ، لأنه يمنع الأسباب عن أن ينشأ{[30724]} عنها مسبباتها ، ويوجد أدق الأسباب وأغربها ، فلا يستغرب عليه إدراك المعاني لأنه الذي أوجدها

{ ألا يعلم من خلق{[30725]} }[ الملك : 14 ] وأصل اللطف دقة النظر في الأشياء { الخبير* } أي المحيط بالأبصار ، فإحاطته بأصحابها أجدر ، ويتحقق{[30726]} معنى الاسمين لتحقق{[30727]} المعنى ؛ قال الحرالي في شرح الأسماء : اللطف إخفاء التوسل إلى الشيء بإظهار ما يضاده ، ولا يتم إلا بخبرة ، ولذلك نظم باسمه { الخبير } لأنه أخفى حكمته{[30728]} في ظاهر يضادها ، فاللطف مخبرة{[30729]} في حكمة{[30730]} ، وباسمه تعالى اللطيف أقام{[30731]} أمر حكمته{[30732]} ما بين الدنيا والآخرة ، وبذلك{[30733]} أقام أمر أهل ولايته في الدنيا لما جمع لهم من أمره فيها ، فيبدو عزهم من وراء ذل ، ويتراءى ذلهم ومن دونه عز{[30734]} ، فيسبق عزهم إلى القلوب مع تذللهم في الحواس ، ويؤول محسوسهم إلى عز في عقبى الدنيا ، ومبادرة الآخرة مع تأنس القلوب بهم ، { إن ربي لطيف لما يشاء{[30735]} }[ يوسف : 100 ] لما أراد أن يملكه مصر و{[30736]} جعل وسيلة ذلك استبعاده بها ، وبحصول معناه بتمام الخبرة والحكمة - وتلك إبداء الشيء في ضده - يتضح اختصاصه بالحق ، فهو الذي أطعم من جوع وآمن من خوف ، الذي جعل لكم من الشجر الأخضر ناراً ، فهو تعالى اللطيف الذي لا لطيف إلا هو ، ثم قال : الخبرة إدراك خبايا الأشياء وخفاياها بحيث لا يبدو منه خبيثة أمر{[30737]} إلا كان إدراك الخبير سابقاً{[30738]} لبدوها ، وذلك لا يتم إلا لمبديها{[30739]} الذي هو يخرج خبأها{[30740]} ، وهو الذي يخرج الخبء في السماوات والأرض ، ومخبرة الخلق لا بد فيها{[30741]} من إظهار باد ينبئ{[30742]} عن الخبء بمقتضى التجرية{[30743]} ، وإلاّ لم يصح لهم الخبرة ، كما قيل : مخبرة المرء فيما يبدو من نطقه وما يظهره اليوم والليلة من عمله ، والخبير الحق خبير بالشيء دون باد{[30744]} يرى الظاهر خبيثة أمره ، فهو{[30745]} بالحقيقة الذي لا خبير إلاّ هو - انتهى{[30746]} .


[30718]:في ظ: سرنهيه- كذا.
[30719]:سقط من ظ.
[30720]:من ظ، وفي الأصل: نفرضهم.
[30721]:زيد من ظ.
[30722]:في ظ: فيرمه.
[30723]:في ظ: تحيط.
[30724]:في ظ: تنشأ.
[30725]:سورة 67 آية 14.
[30726]:من ظ، وفي الأصل: بتحقيقه.
[30727]:في ظ: بتحقيق.
[30728]:في ظ: حكمه.
[30729]:في ظ: مخبر.
[30730]:في ظ: حكمه.
[30731]:في الأصل و ظ: العام- كذا.
[30732]:في ظ: حكمه.
[30733]:في ظ: كذلك.
[30734]:زيد من ظ.
[30735]:سورة 12 آية 100.
[30736]:زيد من ظ.
[30737]:سقط من ظ.
[30738]:في ظ: سائغا.
[30739]:من ظ، وفي الأصل: بمبديها.
[30740]:في ظ: خبيئها.
[30741]:سقط من ظ.
[30742]:في ظ: تبنى.
[30743]:من ظ، وفي الأصل: التجريد.
[30744]:في ظ: حاد.
[30745]:زيد من ظ.
[30746]:زيد من ظ.