المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية  
{إِذۡ يُغَشِّيكُمُ ٱلنُّعَاسَ أَمَنَةٗ مِّنۡهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيۡكُم مِّنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءٗ لِّيُطَهِّرَكُم بِهِۦ وَيُذۡهِبَ عَنكُمۡ رِجۡزَ ٱلشَّيۡطَٰنِ وَلِيَرۡبِطَ عَلَىٰ قُلُوبِكُمۡ وَيُثَبِّتَ بِهِ ٱلۡأَقۡدَامَ} (11)

العامل في { إذ } هو العامل الذي عمل في قوله { وإذ يعدكم } [ الأنفال : 7 ] بتقدير تكراره لأن الاشتراك في العامل الأول نفسه لا يكون إلا بحرف عطف ، وإنما القصد أن تعدد نعمة{[5231]} الله تعالى على المؤمنين في يوم بدر فقال : واذكروا إذ فعلنا كذا وقال الطبري : العامل في { إذ } قوله { ولتطمئن } [ الأنفال : 10 ] .

قال القاضي أبو محمد : وهذا مع احتماله فيه ضعف ، ولو جعل العامل في { إذ } شيئاً قريباً مما قبلها لكان الأولى في ذلك أن يعمل في { إذ } { حكيم } [ الأنفال : 10 ] لأن إلقاء النعاس عليهم وجعله أمنة حكمة من الله عز وجل{[5232]} ، وقرأ نافع «يُغْشيكم » بضم الياء وسكون الغين وهي قراءة الأعرج وأبي حفص وابن نصاح ، وقرأ عاصم وحمزة وابن عامر والكسائي «يغَشِّيكم » بفتح الغين وشد الشين المكسورة وهي قراءة عروة بن الزبير وأبي رجاء والحسن وعكرمة وغيرهم ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو «يَغشاكم » بفتح الياء وألف بعد الشين وهي قراءة مجاهد وابن محيصن وأهل مكة «النعاسُ » بالرفع ، وحجة من قرأ «يغشاكم » إجماعهم في آية أحد على { يغشى طائفة منكم } [ آل عمران : 154 ] ، وحجة من قرأ «يغشيكم » أن يجيء الكلام متسقاً مع { ينزل }{[5233]} ، ومعنى { يغشيكم } يغطيكم به ويفرغه عليكم ، وهذه استعارة و { النعاس } أخف النوم وهو الذي قد يصيب الإنسان وهو واقف أو ماشٍ ، وينص على ذلك قصص هذه الآية أنهم إنما كان بهم خفق في الرؤوس ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم «إذا نعس أحدكم في صلاته »{[5234]} الحديث ، وينص على ذلك قول الشاعر [ ابن الرقاع ] : [ الكامل ]

وسنان أقصده النعاس فرنّقت*** في عينه سِنَةٌ وليس بنائم{[5235]}

وقوله { أمنة } مصدر من أمن الرجل يأمن أمناً وأمنة وأماناً ، والهاء فيها لتأنيث المصدر كما هي في المساءة والمشقة{[5236]} ، وقرأ ابن محيصن «أمْنة » بسكون الميم وروي عن عبد الله بن مسعود{[5237]} أنه قال : النعاس عند حضور القتال علامة أمن من العدو وهو من الله ، وهو في الصلاة من الشيطان .

قال القاضي أبو محمد : وهذا إنما طريقه الوحي فهو لا محالة إنما يسنده ، وقوله { وينزل عليكم من السماء ماء } تعديد أيضاً لهذه النعمة في المطر ، فقال بعض المفسرين وحكاه الطبري عن ابن عباس وغيره ، وقاله الزجّاج : إن الكفار يوم بدر سبقوا المؤمنين إلى ماء بدر فنزلوا عليه وبقي المؤمنون لا ماء لهم فوجست نفوسهم وعطشوا وأجنبوا وصلوا كذلك ، فقال بعضهم في نفوسهم - بإلقاء الشيطان إليهم - نزعم أنَّا أولياء الله وفينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وحالنا هذه والمشركون على الماء ، فأنزل الله المطر ليلة بدر السابعة عشرة من رمضان حتى سالت الأودية فشرب الناس وتطهروا وسقوا الظهر{[5238]} وتدمثت السبخة{[5239]} التي كانت بينهم وبين المشركين حتى ثبتت فيها أقدام المسلمين ، وقت القتال وكانت قبل المطر تسوخ فيها الأرجل فلما نزل الطش تلبدت{[5240]} قالوا : فهذا معنى قوله { ليطهركم به } أي من الجنابة ، { ويذهب عنكم رجز الشيطان } أي عذابه لكم بوساوسه المتقدمة الذكر والرجز العذاب ، وقرأ أبو العالية «رجس » بالسين أي وساوسه التي تمقت وتتقذر ، وقرأ ابن محيصن «رُجز » بضم الراء ، وقرأ عيسى بن عمر «ويذهبْ » بجزم الباء ، { وليربط على قلوبكم } أي بتنشيطها وإزالة الكسل عنها وتشجيعها على العدو ومنه قولهم : رابط الجأش أي ثابت النفس عند جأشها في الحرب{[5241]} { ويثبت به الأقدام } أي في الرملة الدهسة{[5242]} التي كان المشي فيها صعباً .

قال القاضي أبو محمد : والصحيح من القول وهو الذي في سيرة ابن إسحاق وغيرها أن المؤمنين سبقوا إلى الماء ببدر ، وفي هذا كلام حباب بن المنذر الأنصاري{[5243]} حين نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم على أول ماء ، فقال له حباب : أبوحي يا رسول الله هو المنزل فليس لنا أن نتقدمه ولا نتأخر عنه أم هو عندك الرأي والمكيدة ؟ الحديث المستوعب في السيرة{[5244]} .

قال القاضي أبو محمد : ولكن نزول المطر كان قبل وصولهم إلى الماء وذلك أن القوم من المؤمنين لحقتهم في سفرهم الجنابات وعدموا الماء قريب بدر فصلوا كذلك فوقع في نفوسهم من ذلك ، ووسوس الشيطان لهم في ذلك مع تخويفه لهم من كثرة العدو وقتلهم ، وهذا قبل الترائي بالأعين ، وأيضاً فكانت بينهم وبين ماء بدر مسافة طويلة من رمل دهس لين تسوخ فيه الأرجل وكانوا يتوقعون أن يسبقهم الكفار إلى ماء بدر فتحرضوا هم أن يسبقوهم إليه فأنزل الله تلك المطرة فسالت الأودية فاغتسلوا وطهرهم الله فذهب رجز الشيطان ودمثت الطريق ، وتلبدت تلك الرملة ، فسهل المشي فيها وأمكنهم الإسراع حتى سبقوا إلى الماء ، ووقع في السير أن ما أصاب المشركين من ذلك المطر بعينه صعب عليهم طريقهم ، فُسَّر المؤمنون وتبينوا من جعل الله بهم ذلك قصد المعونة لهم ، فطابت نفوسهم واجتمعت وتشجعت ، فذلك الربط على قلوبهم وتثبيت الأقدام منهم على الرملة اللينة فأمكنهم لحاق الماء قبل المشركين .

قال القاضي أبو محمد : هذا أحد ما يحتمله قوله { ويثبت به الأقدام } والضمير في { به } على هذا الاحتمال عائد على الماء ، ويحتمل أن يعود الضمير في { به } على ربط القلوب فيكون تثبيت الأقدام عبارة عن النصر والمعونة في موطن الحرب ، وبين أن الرابط الجأش تثبت قدمه عند مكافحة الهول .

قال القاضي أبو محمد : ونزول الماء كان في الزمن قبل تغشية النعاس ولم يترتب ذلك في الآية إذ القصد فيها تعديد النعم فقط ، وحكى أبو الفتح أن الشعبي قرأ «وينزل عليكم من السماء ماء » ساكنة الألف { ليطهركم به } قال : وهي بمعنى الذي .

قال القاضي أبو محمد : وهذا ضعيف{[5245]} وقرأ ابن المسيب «ليطْهركم به » بسكون الطاء .


[5231]:- النص الذي وجدناه في النسخ التي بين أيدينا هو: "وإنما القصد أن تعدد نعمة الله تعالى" ...الخ، ولكننا آثرنا هذا الذي أثبتناه معتمدين على كتاب "البحر المحيط" لأنه نقل العبارة عن ابن عطية هكذا، ثم علّق عليها، وهي التي يتسق بها الكلام.
[5232]:- قريب من هذا ما قاله أبو البقاء، وهو: "يجوز أن يكون ظرفا لما دل عليه {عزيز حكيم}.
[5233]:-وأيضا فإن الفعل فيها مضاف إلى الله عز وجل الذي تقدم ذكره في قوله سبحانه: {وما النصر إلا من عند الله}، هذا وآية (أحد) هي الآية (154) من سورة (آل عمران) وهي قوله تعالى: {ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاسا يغشى طائفة منكم} إلى آخر الآية.
[5234]:- الحديث مروي في البخاري ومسلم وغيرهما- عن عائشة رضي الله عنها، ونصه: (إذا نعس أحدكم وهو يصلي فليرقد حتى يذهب عنه النوم، فإن أحدكم إذا صلى وهو ناعس لا يدري لعله يذهب يستغفر فيسب نفسه). ورواه أيضا مالك، ورمز له في "الجامع الصغير" بالصحة.
[5235]:- نسبه في (اللسان) إلى ابن الرقاع وقال: امرأة وسنى ووسنانة: فاترة الطرف، شُبّهت بالمرأة الوسنى من النوم"، وقال أيضا: "إن ابن الرقاع فرّق بين السنة والنوم"، وعلى هذا الوسن: النوم الخفيف، يقال: وسن كفرح يوسن وسنا وسنة، وأقصده: أصابه فلم يخطئه، ورنّق النوم في عينه: خالطها، أو تهيأت العين للنوم، وقبل هذا البيت يقول ابن الرقاع، (وهو عدّي بن الرقاع العامليّ، كان شاعرا مقدما عند بني أمية مداحا لهم): لولا الحياء وأن رأسي قد عسا فيه المشيب لزرت أم القاسم وكأنها بين النساء أعــارها عينيه أحور من جآذر جاسم
[5236]:- معنى أن [أمنة] مصدر أنه منصوب على المصدر، والتقدير: فأمنتم أمنة، ويرى الزمخشري وأبو حيان أنه منصوب على أنه مفعول له ( في قراءة [يغشيكم] لاتحاد الفاعل، لأن المغشي والمؤمن هو الله تعالى.
[5237]:- نسب هذا الكلام في "الكشاف" إلى ابن عباس رضي الله عنهما.
[5238]:- الظهر: الإبل التي يُحمل على ظهرها والجمع ظهران بالضم.
[5239]:- السبخة- بسكون الباء وكسرها-: أرض ذات نزّ وملح وجمعها: سبخات- والأرض الدمثاء: السهلة اللينة.
[5240]:- الطش: المطر الخفيف، وهو فوق الرذاذ- وتلبدت الأرض: تماسكت وصلحت للمشي عليها.
[5241]:- الجأش: النفس أو القلب- وقول ابن عطية: "...عند جأشها" يعني عند فزعها.
[5242]:- يقال: دهس المكان بمعنى كثر فيه الدهاس، وهو المكان السهل اللين ليس برمل ولا تراب ولا طين.
[5243]:- الاسم الصحيح: "الحُباب بن المنذر بن الجموح" الأنصاري الخزرجي ثم السلمي. فهو بالألف واللام وضم الحاء، كان يكنى أبا عمر، وهو القائل يوم السقيفة: "أنا جذيلها المحكك، وعُذيقها المُرجّب"، قال ابن سعد: مات في خلافة عمر وقد زاد على الخمسين. (الإصابة)- وزاد في (الاستيعاب): كان يقال له ذو الرأي لما أشار به على الرسول صلى الله عليه وسلم يوم بدر.
[5244]:- الحديث طويل، وقد ذكره القرطبي وابن كثير-وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم أجاب الحباب: (بل هو الرأي والحرب والمكيدة)، فقال: يا رسول الله، إن هذا ليس لك بمنزل، فانهض بنا إلى أدنى ماء من القوم فننزله ونغوّر (ندفن ما وراءه من القلب (جمع قليب وهو البئر العادية القديمة)، ثم نبني عليه حوضا فنملأه فنشرب ولا يشربوا، فاستحسن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك وفعله، ثم التقوا فنصر الله نبيه والمسلمين.
[5245]:- والسبب أن ما دخلت عليه لام التعليل لا يصح أن يكون صلة، قال في "البحر المحيط": "ويمكن تخريج هذه القراءة على وجه آخر وهو أن [ما] ليس موصولا بمعنى (الذي) وأنه بمعنى (ماء) الممدود، وقد حكوا أن العرب حذفت هذه الهمزة فقالوا: (ما يا هذا) بحذف الهمزة وتنوين الميم، فيمكن أن تخرّج على هذا إلا أنهم أجروا الوصل مجرى الوقف فحذفوا التنوين وأبقوا الألف، وهي إما ألف الوصف التي هي بدل من الواو وهي عين الكلمة، وإما الألف التي هي بدل التنوين في حالة النصب".