قوله تعالى : { إن الذين آمنوا وهاجروا } ، أي : هجروا قومهم وديارهم ، يعني المهاجرين من مكة .
قوله تعالى : { وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله والذين آووا } رسول الله صلى الله عليه وسلم والمهاجرين معه ، أي : أسكنوهم منازلهم .
قوله تعالى : { ونصروا } أي : ونصروهم على أعدائهم ، وهم الأنصار رضي الله عنهم . قوله تعالى : { أولئك بعضهم أولياء بعض } ، دون أقربائهم من الكفار ، قيل : في العون والنصرة . وقال ابن عباس : في الميراث ، وكانوا يتوارثون بالهجرة ، فكان المهاجرون والأنصار يتوارثون دون ذوي الأرحام ، وكان من آمن ولم يهاجر لا يرث من قريبه المهاجر حتى كان فتح مكة ، انقطعت الهجرة ، وتوارثوا بالأرحام حيث ما كانوا ، وصار ذلك منسوخاً بقوله عز وجل : { وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله } [ الأحزاب : 6 ] ،
قوله تعالى : { والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء } ، يعني في الميراث .
قوله تعالى : { حتى يهاجروا } ، قرأ حمزة : ( ولايتهم ) بكسر الواو ، والباقون بالفتح ، وهما واحد كالدلالة والدلالة .
قوله تعالى : { وإن استنصروكم في الدين } ، أي : استنصركم المؤمنون الذين لم يهاجروا .
قوله تعالى : { فعليكم النصر إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق } ، عهد فلا تنصروهم عليهم .
هذه الآيات استئناف ابتدائي للإعلام بأحكام موالاة المسلمين للمسلمين الذين هاجروا والذين لم يهاجروا ، وعدم موالاتهم للذين كفروا ، نشأ عن قول العباس بن عبد المطلب حين أسرّ ببدر أنّه مسلم ، وأنّ المشركين أكرهوه على الخروج إلى بدر ، ولعلّ بعض الأسرى غيره قد قال ذلك وكانوا صادقين ، فلعل بعض المسلمين عطفوا عليهم وظنّوهم أولياء لهم ، فأخبر الله المسلمين وغيرهم بحكم من آمن واستمرّ على البقاء بدار الشرك . قال ابن عطية : « مقصد هذه الآية وما بعدها تبيين منازل المهاجرين والأنصار والمؤمنين الذين لم يهاجروا والكفار ، والمهاجرين بعد الحديبية وذِكْرُ نِسَب بعضهم عن بعض » .
وتعرضت الآية إلى مراتب الذين أسلموا فابتدأت ببيان فريقين اتّحدَت أحكامهم في الولاية والمؤاساة حتى صاروا بمنزلة فريق واحد ، وهؤلاء هم فريقا المهاجرين والأنصار الذين امتازوا بتأييد الدين . فالمهاجرون امتازوا بالسبق إلى الإسلام وتكبّدوا مفارقة الوطن . والأنصار امتازوا بإيوائهم ، وبمجموع العملين حصل إظهار البراءة من الشرك وأهلِه ، وقد اشترك الفريقان في أنّهم آمنوا وأنّهم جاهدوا ، واختص المهاجرون بأنّهم هاجروا واختص الأنصار بأنّهم آووا ونصروا ، وكان فضل المهاجرين أقوى ؛ لأنّهم فضلوا الإسلام على وطنهم وأهليهم ، وبادر إليه أكثرهم ، فكانوا قدوة ومثالاً صالحاً للناس .
والمهاجرة هجر البلاد ، أي الخروج منها وتركها ، قال عَبدة بن الطبيب :
إنّ التي ضَربتْ بيتاً مُهَاجَرةً *** بكوفةِ الجندِ غَالتْ وُدَّها غُول
وأصل الهجرة الترك واشتقّ منه صيغة المفاعلة لخصوص ترك الدار والقوم ، لأنّ الغالب عندهم كان أنّهم يتركون قومهم ، ويتركهم قومهم إذ لا يفارق أحد قومه إلا لسوء معاشرة تنشأ بينه وبينهم .
وقد كانت الهجرة من أشهر أحوال المخالفين لقومهم في الدين ، فقد هاجر إبراهيم عليه السلام { وقال إنّي ذاهب إلى ربّي سيهدين } [ الصافات : 99 ] . وهاجر لوط عليه السلام : { وقال إنّي مهاجر إلى ربّي إنه هو العزيز الحكيم } [ العنكبوت : 26 ] ، وهاجر موسى عليه السلام بقومه ، وهاجر محمد صلى الله عليه وسلم وهاجر المسلمون بإذنه إلى الحبشة ، ثم إلى المدينة يثرب ، ولما استقرّ المسلمون من أهل مكّة بالمدينة غلب عليهم وصف المهاجرين وأصبحت الهجرة صفة مدح في الدين ، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم في مقام التفضيل : " لولا الهجرة لكنت امرأً من الأنصار " وقال للأعرابي : " ويحك إنّ شأنها شديد وقال لا هجرة بعد الفتح " .
والإيواء تقدّم عند قوله تعالى : { فآواكم وأيدكم بنصره } في هذه السورة [ 26 ] .
والنصر تقدّم عند قوله تعالى : { واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئاً } إلى قوله { ولا هم ينصرون } في سورة [ البقرة : 123 ] .
والمراد بالنصر في قوله : { ونصروا } النصر الحاصل قبل الجهاد وهو نصر النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين بأنّهم يحمونهم بما يحمون به أهلهم ، ولذلك غلب على الأوس والخزرج وصف الأنصار .
واسم الإشارة في قوله : { أولئك بعضهم أولياء بعض } لإفادة الاهتمام بتمييزهم للإخبار عنهم ، وللتعريض بالتعظيم لشأنهم ، ولذلك لم يؤت بمثله في الإخبار عن أحوال الفرق الأخرى .
ولمّا أطلَق الله الولاية بينهم احتمل حملَها على أقصى معانيها ، وإن كان موردُها في خصوص ولاية النصر ، فإنّ ذلك كورُود العامّ على سبب خاص قال ابن عباس : { أولئك بعضهم أولياء بعض } يعني في الميراث جعل بين المهاجرين والأنصار دون ذوي الأرحام ، حتّى أنزل الله قوله : { وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله } [ الأنفال : 75 ] أي في الميراث فنسختها ، وسيأتي الكلام على ذلك . فحملها ابن عبّاس على ما يشمل الميراث ، فقال : كانوا يتوارثون بالهجرة ، وكان لا يرث من آمن ولم يهاجر الذي آمن وهاجر ، فنسخ الله ذلك بقوله : { وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض } [ الأنفال : 75 ] . وهذا قول مجاهد وعِكرمة وقتادة والحسن . وروي عن عمر بن الخطاب وابن مسعود ، وهو قول أبي حنيفة وأحمد ، وقال كثير من المفسّرين هذه الولاية هي في الموالاة والمؤازرة والمعاونة دون الميراث اعتداداً بأنّها خاصّة بهذا الغرض ، وهو قول مالك بن أنس والشافعي .
وروي عن أبي بكر الصديق وزيد بن ثابت وابن عمر وأهل المدينة ، ولا تشمل هذه الآية المؤمنين غير المهاجرين والأنصار . قال ابن عباس : كان المهاجر لا يتولّى الأعرابي ولا يرثه ( وهو مؤمن ) ولا يرث الأعرابي المهاجر أي ولو كان عاصباً .
وقوله تعالى : { والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء } جاء على أسلوب تقسيم الفرق فعطف كما عطفت الجمل بعده ، ومع ذلك قد جعل تكملة لحكم الفرقة المذكورة قبله فصار له اعتباران ، وقد وقع في المصحف مع الجملة التي قبله ، آية واحدة نهايتها قوله تعالى : { والله بما تعملون بصير } .
فإن وصف الإيمان أي الإيمان بالله وحده يقابله وصف الشرك ، وأنّ وصف الهجرة يقابله وصف المكث بدار الشرك ، فلمّا بيّن أول الآية ما لأصحاب الوصفين : الإيمان والهجرة ، من الفضل وما بينهم من الولاية انتقلت إلى بيان حال الفريق الذي يقابل أصحاب الوصفين وهو فريق ثالث ، فبيّنت حكم المؤمنين الذين لم يهاجروا فأثبتت لهم وصف الإيمان ، وأمرت المهاجرين والأنصار بالتبرّئى من ولايتهم حتّى يهاجروا ، فلا يثبت بينهم وبين أولئك حكم التوراث ولا النصر إلاّ إذا طلبوا النصر على قوم فتنوهم في دينهم .
وفي نفي ولاية المهاجرين والأنصار لهم ، مع السكوت عن كونهم أولياء للذين كفروا ، دليل على أنّهم معتبرون مسلمين ، ولكنّ الله أمر بمقاطعتهم حتّى يهاجروا ؛ ليكون ذلك باعثاً لهم على الهجرة .
و« الولاية » بفتح الواو في المشهور وكذلك قرأها جمهور القرّاء ، وهي اسم لمصدر تولاه ، وقرأها حمزة وحده بكسر الواو . قال أبو علي : الفتح أجود هنا ، لأنّ الولاية التي بكسر الواو في السلطان يعني في ولايات الحكم والإمارة .
وقال الزّجاج : قد يجوز فيها الكسر ، لأنّ في تولّى بعض القوم بعضاً جنساً من الصناعة كالقِصارة والخِياطة ، وتبعه في « الكشّاف » وأراد إبطال قول أبي علي الفارسي أنّ الفتح هنا أجود . وما قاله أبو علي الفارسي باطل ، والفتح والكسر وجهان متساويان مثل الدلالة بفتح الدال وكسرها .
والظرفية التي دلت عليها ( في ) من قوله تعالى : { وإن استنصروكم في الدين } ظرفية مجازية ، تؤول إلى معنى التعليل ، أي : طلبوا أن تنصروهم لأجل الدين ، أي لرد الفتنة عنهم في دينهم إذ حاول المشركون إرجاعهم إلى دين الشرك وجب نصرهم ؛ لأنّ نصرهم للدّين ليس من الولاية لهم بل هو من الولاية للدين ونصرِه ، وذلك واجب عليهم سواء استنصرهم الناس أم لم يستنصروهم إذا توفّر داعي القتال ، فجعل الله استنصار المسلمين الذين لم يهاجروا من جملة دواعي الجهاد .
و { عليكم النصر } من صيغ الوجوب ، أي : فواجب عليكم نصرهم ، وقدم الخبر وهو { عليكم } للاهتمام به .
و { أل } في { النصر } للعهد الذكري لأنّ { استنصروكم } يدلّ على طلب نصر والمعنى : فعليكم نصرهم .
والاستثناء في قوله : { إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق } استثناء من متعلِّق النصر وهو المنصور عليهم ، ووجه ذلك أنّ الميثاق يقتضي عدم قتالهم إلاّ إذا نكثوا عهدهم مع المسلمين ، وعهدهم مع المسلمين لا يتعلّق إلاّ بالمسلمين المتميزين بجماعة ووطن واحد ، وهم يومئذ المهاجرون والأنصار ، فأمّا المسلمون الذين أسلموا ولم يهاجروا من دار الشرك فلا يتحمّل المسلمون تبعاتهم ، ولا يدخلون فيما جرُّوه لأنفسهم من عداوات وإحَن ، لأنّهم لم يصدروا عن رأي جماعة المسلمين ، فما ينشأ بين الكفار المعاهدين للمسلمين ، وبين المسلمين الباقين في دار الكفر لا يعدّ نكثاً من الكفار لعهد المسلمين ، لأن من عذرهم أن يقولوا : لا نعلم حين عاهدناكم أنّ هؤلاء منكم ، لأنّ الإيمان لا يُطلع عليه إلاّ بمعاشرة ، وهؤلاء ظاهر حالهم مع المشركين يساكنونهم ويعاملونهم .
وقوله : { والله بما تعملون بصير } تحذير للمسلمين لئلاّ يحملهم العطف على المسلمين على أن يقاتلوا قوماً بينهم وبينهم ميثاق .
وفي هذا التحذير تنويه بشأن الوفاء بالعهد ، وأنّه لا ينفضه إلاّ أمر صريح في مخالفته .