الهداية إلى بلوغ النهاية لمكي بن ابي طالب - مكي ابن أبي طالب  
{إِنَّ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَٰهَدُواْ بِأَمۡوَٰلِهِمۡ وَأَنفُسِهِمۡ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَٱلَّذِينَ ءَاوَواْ وَّنَصَرُوٓاْ أُوْلَـٰٓئِكَ بَعۡضُهُمۡ أَوۡلِيَآءُ بَعۡضٖۚ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَلَمۡ يُهَاجِرُواْ مَا لَكُم مِّن وَلَٰيَتِهِم مِّن شَيۡءٍ حَتَّىٰ يُهَاجِرُواْۚ وَإِنِ ٱسۡتَنصَرُوكُمۡ فِي ٱلدِّينِ فَعَلَيۡكُمُ ٱلنَّصۡرُ إِلَّا عَلَىٰ قَوۡمِۭ بَيۡنَكُمۡ وَبَيۡنَهُم مِّيثَٰقٞۗ وَٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ بَصِيرٞ} (72)

قوله : { إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهداو } ، إلى قوله : { والله بما تعملون بصير }[ 72 ] .

من فتح " الواو " في : " الوَلاية " {[27941]} جعله مصدر " وَليَ " يقال : هو ولي بيِّن الوَلاَية{[27942]} .

ومن كسر{[27943]} فهو مصدر " والي " {[27944]} ، يقال : هو وال بيّن الوِلاية{[27945]} .

ومعنى الآية : إن الذين صدقوا بمحمد عليه السلام ، وما جاء به ، وهجروا قومهم وعشيرتهم وأرضهم إلى أرض الإسلام ، والهجرة هجرتان : هجرة كانت إلى أرض الحبشة ، وهجرة إلى المدينة ، وهذا إنما كان في أول الإسلام ، ثم انقطع ذلك الآن{[27946]} : لأن الدار كلها دار الإسلام ، { وجاهدوا } ، أي : أتعبوا أنفسهم في حرب أعداء الله ، { والذين آووا ونصروا } ، أي : آووا رسول [ الله ]{[27947]} صلى الله عليه وسلم والمهاجرين معه ونصروهم ، وهم الأنصار ، { أولئك بعضهم أولياء بعض } ، أي : المهاجرون أولياء الأنصار وإخوانهم{[27948]} .

و " الولي " في اللغة : النصير . فاختيار الطبري أن يكون : { أولياء بعض } بمعنى أنصار بعض{[27949]} .

قال ابن عباس : كانت هذه الولاية في الميراث ، فكان المهاجرون والأنصار يرث بعضهم بعضا بالهجرة دون القرابة ، ألا ترى إلى قوله : { والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا } ، فكانوا يتوارثون على ذلك حتى نزلت بعده : { وأولوا الارحام بعضهم أولى ببعض }[ 75 ]{[27950]} ، فنسخت مواريث المهاجرين والأنصار بعضهم من بعض{[27951]} .

وكذلك قال مجاهد{[27952]} .

قال قتادة : لبث المسلمون زمانا يتوارثون بالهجرة ، وليس يرث المؤمن الذي لم يهاجر من المؤمن المهاجر شيئا ، وإن كان ذا رحم ، ولا الأعرابي من المهاجر شيئا ، فنسخ ذلك قوله : { وأولوا الارحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله من المومنين والمهاجرين{[27953]} إلا أن تفعلوا إلى أوليائكمعروفا }{[27954]} ، يعني : من أهل الشرك ، يوصون لهم إن أرادوا ،

ولا يتوارث أهل ملتين{[27955]} .

وقال عكرمة والحسن : نسخهما آخر السورة : { وأولوا الارحام بعضهم أولى ببعض }[ 75 ]{[27956]} .

وقوله : { والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء }[ 72 ] .

أي : الذين آمنوا بمكة ، ولم يفارقوا دار الكفر ، { ما لكم } .

أيها المهاجرون ، { من ولايتهم } ، أي : نصرهم وميراثهم ، { من شيء حتى يهاجروا وإن استنصروكم }[ 72 ] ، هؤلاء الذين آمنوا ولم يهاجروا ، { في الدين } ، أي : على أهل الكفر ، { فعليكم } نصرهم { إلا } أن يستنصروكم { على قوم بينكم وبينهم ميثاق } ، أي عهد وذمة ، فلا تنصروهم عليهم ، { والله بما تعملون بصير }[ 72 ] ، أي : [ بصير ]{[27957]} فيما أمركم به من ولاية بعضكم بعضا{[27958]} .

وقال ابن عباس : { وإن استنصروكم في الدين } ، يعني : الأعراب المسلمين ، فعليكم أن تنصروهم ، { إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق } ، فلا تنصروهم عليهم{[27959]} .


[27941]:وهي قراءة ابن كثير، وأبي عمرو، ونافع وابن عامر، وعاصم، والكسائي، التبصرة 213، وكتاب السبعة في القراءات 309، ومعاني القراءات 1/445، وحجة القراءات 314، والتيسير 96، وزاد المسير 3/385، وتفسير ابن كثير 2/329.
[27942]:مشكل إعراب القرآن 1/320 والكشف 1/497، وفيه: "والولاية" في هذه السورة تحتمل أن تكون من وَلاَية الدين، فيكون "الفتح" أولى به، وهو الاختيار؛ لأن الجماعة عليه". قال أبو زرعة في حجة القراءات 314: "والعرب تقول: "نحن لكم على بني فلان ولاية"، أي: أنصار"، وإذا كسرتها فهي مصدر "الوالي" الذي يلي الأمر...".
[27943]:وهي قراءة حمزة، كما في المصادر السالفة في قراءة فتح الواو، ص687، هامش 4.
[27944]:في مشكل إعراب القرآن 1/321، ومعاني القراءات 1/446: "الوالي". وفي مجاز القرآن 1/251: "....وإذا كسرتها فهي مصدر "الوالي" الذي يلي الأمر...".
[27945]:مشكل إعراب القرآن 1/321، وزاد: "وقد قيل: هما لغتان في مصدر الولي". قال ابن خالويه في الحجة في القراءات السبع 173، "فالحجة لمن فتح: أنه أراد: ولاية الدين، والحجة لمن كسر: أنه أراد: ولاية الإمرة. وقيل: هما لغتان. والفتح أقرب". وقال في إعراب القراءات السبع 1/234: "فقال قوم هما لغتان: الولاية والوَلاية، مثل: الوكالة والوَكالة، والدِّلالة والدَّلالة". ولمزيد من الإيضاح، انظر: الكشف 1/497، ومعاني القرآن للفراء 1/418، ومعاني القراءات 1/446، وزاد المسير 3/385، واللسان / ولي، والبحر المحيط 4/518، والدر المصون 3/438.
[27946]:مطموسة في الأصل بفعل التصوير، وأثبت ما اجتهدت في قراءته في "ر".
[27947]:زيادة يقتضيها السياق. وهي في "ر"، مطموسة بفعل الرطوبة.
[27948]:جامع البيان 14/77 بتصرف.
[27949]:جامع البيان 14/77، بلفظ: "....يقول هاتان الفرقتان، يعني: المهاجرين والأنصار، بعضهم أنصار بعض...". وفي المحرر الوجيز 2/555: "....فقال كثير من المفسرين، هذه الموالاة هي المؤزارة والمعاونة واتصال الأيدي، وعليه فسر الطبري الآية وهذا الذي قالوا لازم من دلالة اللفظ".
[27950]:وسورة الأحزاب آية 6 وستأتي.
[27951]:الأثر في صحيفة علي بن أبي طلحة 257، وجامع البيان 14/78، بلفظ مختلف قليلا، وآخره: "...وصار الميراث لذوي الأرحام"، انظر: تفسير ابن كثير 2/328، والدر المنثور 4/113، وما بعدها.
[27952]:جامع البيان 14/79.
[27953]:ما بين الهلالين ساقط من المخطوطتين.
[27954]:الأحزاب: آية 6 وتمامها: {كان ذلك في الكتاب مسطورا}.
[27955]:الناسخ والمنسوخ لقتادة 43، بألفاظ مختلفة، وجامع البيان 14/80، وفيه: "....أي من أهل الشرك، فأجيزت الوصية، ولا ميراث لهم، وصارت المواريث بالمِلل، والمسلمون يرث بعضهم بعضا من المهاجرين والمؤمنين، ولا يرث أهل ملتين"، وفي الدر المنثور 4/115، بلفظ مختصر. قال في الإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخه 305: "فذكر هذه الآية، على قول قتادة، في الناسخ والمنسوخ حسن، لأنه قرآن نسخ قرآنا...".
[27956]:جامع البيان 14/80، باختصار، انظر الإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخه 305، والناسخ والمنسوخ لأبي عبيد 224، والناسخ والمنسوخ للنحاس 151، والناسخ والمنسوخ لابن العربي 238، ونواسخ القرآن لابن الجوزي 353.
[27957]:زيادة من "ر".
[27958]:جامع البيان 14/81، 82، باختصار.
[27959]:صحيفة علي بن أبي طلحة 258، وجامع البيان 14/83، وتفسير ابن أبي حاتم 5/1740، وتفسير ابن كثير 2/329، وفيه: "...يقول تعالى: وإن استنصركم هؤلاء الأعراب الذين لم يهاجروا، في قتال ديني على عدولهم، فانصروهم، فإنه واجب عليكم نصرهم؛ لأنهم إخوانكم في الدين، إلا أن يستنصروكم على قوم من الكفار بينكم وبينهم ميثاق، أي مهادنة إلى مدة، فلا تخفروا ذمتهم، ولا تنقضوا أيمانكم مع الذين عاهدتم. وهذا مروي عن ابن عباس رضي الله عنه".