السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{إِنَّ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَٰهَدُواْ بِأَمۡوَٰلِهِمۡ وَأَنفُسِهِمۡ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَٱلَّذِينَ ءَاوَواْ وَّنَصَرُوٓاْ أُوْلَـٰٓئِكَ بَعۡضُهُمۡ أَوۡلِيَآءُ بَعۡضٖۚ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَلَمۡ يُهَاجِرُواْ مَا لَكُم مِّن وَلَٰيَتِهِم مِّن شَيۡءٍ حَتَّىٰ يُهَاجِرُواْۚ وَإِنِ ٱسۡتَنصَرُوكُمۡ فِي ٱلدِّينِ فَعَلَيۡكُمُ ٱلنَّصۡرُ إِلَّا عَلَىٰ قَوۡمِۭ بَيۡنَكُمۡ وَبَيۡنَهُم مِّيثَٰقٞۗ وَٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ بَصِيرٞ} (72)

{ إنّ الذين آمنوا } أي : بالله ورسوله { وهاجروا } أي : وأوقعوا الهجرة من بلاد الشرك وهم المهاجرون الأوّلون هجروا أوطانهم وعشائرهم وأحبابهم حباً لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم { وجاهدوا } أي : وأوقعوا الجهاد وهو بذل الجهد في توهين الكفر { بأموالهم } وكانوا في غاية العزة في أوّل الأمر { وأنفسهم } بإقدامهم على القتال مع شدّة الأعداء وكثرتهم وقدم المال ؛ لأنه سبب قيام النفس أي : بإنفاقهم لها في الجهاد وتضييع بعضها بالهجرة من الديار ، والنخيل وغيرها ، وأخر قوله تعالى : { في سبيل الله } لذلك ، وفي سببية أي : جاهدوا بسببه حتى لا يصدّ عنه صاد ، ويسهل المرور فيه من غير قاطع { والذين آووا } أي : من هاجر إليهم من النبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، فأسكنوهم في ديارهم وقسموا لهم من أموالهم وعرضوا عليهم أن ينزلوا لهم عن بعض نسائهم ليتزوّجوهنّ { ونصروا } أي : الله ورسوله والمؤمنين وهم الأنصار رضي الله عنهم ، حازوا هذين الوصفين الشريفين فكانوا في الذروة من هذين الجنسين ولكن المهاجرين الأوّلون أعلى منهم لسبقهم في الإيمان الذي هو رئيس الفضائل ولحملهم الأذى من الكفار زماناً طويلاً وصبرهم على فرقة الأهل والأوطان .

وأشار تعالى إلى القسمين بأداة البعد لعلوّ مقامهم فقال : { أولئك } أي : العالو الرتبة { بعضهم أولى ببعض } أي : دون أقاربهم من الكفار قال ابن عباس في الميراث فكانوا يتوارثون بالهجرة فكان المهاجرون والأنصار يتوارثون دون ذوي الأرحام وكان من آمن ولم يهاجر لا يرث من قريبه المهاجر حتى كان فتح مكة انقطعت الهجرة وتوارثوا بالأرحام حيث كانوا وصار ذلك منسوخاً بقول تعالى { وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله } { والذين آمنوا ولم يهاجروا } أي : آمنوا وأقاموا بمكة { ما لكم من ولايتهم من شيء } أي : فلا إرث بينكم وبينهم ولا نصيب لهم في الغنيمة { حتى يهاجروا } أي : إلى المدينة { وإن استنصروكم في الدين } أي : ولم يهاجروا { فعليكم النصر } أي : فيجب عليكم أن تنصروهم على المشركين { إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق } أي : عهد فلا تنصروهم عليهم وتنقضوا عهدهم { وا بما تعملون بصير } في ذلك ترغيب في العمل بما حث عليه من الإيمان والهجرة وغير ذلك مما تقدّم وترهيب من العمل بأضدادها ، وفي البصير إشارة إلى العلم بما يكون من ذلك خالصاً أو مشوباً ، ففيه مزيد حث على الإخلاص .