روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي - الآلوسي  
{إِنَّ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَٰهَدُواْ بِأَمۡوَٰلِهِمۡ وَأَنفُسِهِمۡ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَٱلَّذِينَ ءَاوَواْ وَّنَصَرُوٓاْ أُوْلَـٰٓئِكَ بَعۡضُهُمۡ أَوۡلِيَآءُ بَعۡضٖۚ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَلَمۡ يُهَاجِرُواْ مَا لَكُم مِّن وَلَٰيَتِهِم مِّن شَيۡءٍ حَتَّىٰ يُهَاجِرُواْۚ وَإِنِ ٱسۡتَنصَرُوكُمۡ فِي ٱلدِّينِ فَعَلَيۡكُمُ ٱلنَّصۡرُ إِلَّا عَلَىٰ قَوۡمِۭ بَيۡنَكُمۡ وَبَيۡنَهُم مِّيثَٰقٞۗ وَٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ بَصِيرٞ} (72)

{ إِنَّ الذين ءامَنُواْ وَهَاجَرُواْ } هم المهاجرون الذين هجروا أوطانهم وتركوها لأعدائهم في الله لله عز وجل { وجاهدوا بأموالهم } فصرفوها للكراع والسلاح وأنفقوها على المحاويج من المسلمين { وَأَنفُسِهِمْ } بمباشرةِ القتال واقتحام المعارك والخوض في لجج المهالك { فِى سَبِيلِ الله } قيل : هو متعلق بجاهدوا قيد لنوعي الجهاد ، ويجوز أن يكون من باب التنازع في العمل بين هاجروا وجاهدوا ولعل تقديم الأموال على الأنفس لما أن المجاهدة بالأموال أكثر وقوعاً وأتم دفعاً للحاجة حيث لا يتصور المجاهدة بالنفس بلا مجادة بالمال ، وقيل : ترتيب هذه المتعاطفات في الآية على حسب الوقوع فإن الأول الإيمان ثم الهجرة ثم الجهادب المال لنحو التأهب للحرب ثم الجهاد بالنفس { والذين ءاوَواْ وَّنَصَرُواْ } هم الأنصار آووا المهاجرين وأنزلوهم منازلهم وآثروهم على أنفسهم ونصروهم على أعدائهم { أولئك } أي المذكورون الموصوفون بالصفات الفاضلة ، وهو مبتدأ وقوله تعالى : { بَعْضُهُمْ } إما بدل منهم ، وقوله سبحانه : { أَوْلِيَاء بَعْضٍ } خبر وإما مبتدأ ثان و { أَوْلِيَاء } خبره والجملة خبر للمبتدأ الأول أي بعضهم أولياء بعض في الميراث على ما هو المروى عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما . والحسن . ومجاهد . والسدي . وقتادة فإنهم قالوا : آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار رضي الله تعالى عنهم فكان المهاجري يرثه أخوه الأنصاري إذا لم يكن له بالمدينة ولي مهاجري ولا توارث بينه وبين قريبه المسلم غير المهاجري واستمر أمرهم على ذلك إلى فتح مكة ثم توارثوا بالنسب بعد إذ لم تكن هجرة ، فالولاية على هذا الوراثة المسببة عن القرابة الحكمية .

والآية منسوخة ، وقال الأصم : هي محكمة ، والمراد الولاية بالنصرة والمظاهرة وكأنه لم يسمع قوله تعالى : { فَعَلَيْكُمُ النصر } بعد نفي موالاتهم في الآية الآتية { والذين ءامَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ } كسائر المؤمنين { مَا لَكُم مّن ولايتهم مّن * شيء } أي توليهم في الميراث وإن كانوا أقرب ذوي قرابتكم { حتى يُهَاجِرُواْ } وحينئذٍ يثبت لهم الحكم السابق . وقرأ حمزة . والأعمش . ويحيى بن وثاب { ولايتهم } بالكسر ، وزعم الأصمعي أنه خطأ وهو المخطىء فقد تواترت القراءة بذلك ، وجاء في اللغة الولاية مصدراً بالفتح والكسر وهما لغتان فيه بمعنى واحد وهو القرب الحسي والمعنوي كما قيل ، وقيل : بينهما فرق فالفتح ولاية مولى النسب ونحوه والكسر ولاية السلطان ونسب ذلك إلى أبي عبيدة . وأبي الحسن ، وقال الزجاج : هي بالفتح النصرة والنسب وبالكسرة للإمارة ، ونقل عنه أنه ذهب إلى أن الولاية لاحتياجها إلى تمرن وتدرب شبهت بالصناعات ولذا جاء فيها الكسر كالإمارة ، وذلك لما ذهب إليه المحققون من أهل اللغة من أن فعالة بالكسر في الأسماء لما يحيط بشيء ويجعل فيه كاللفافة والعمامة وفي المصادر يكون في الصناعات وما يزاول بالأعمال كالكتابة والخياطة والزراعة والحراثة ، وما ذكره من حديث التشبيه بالصناعات يحتمل أن يكون من الواضع بمعنى أن الواضع حين وضعها شبهها بذلك فتكون حقيقة ويحتمل أن يكون من غيره على طرز تشبيه زيد بالأسد فحينئذٍ يكون هناك استعارة ، وهي كما قال بعض الجلة : استعارة أصلية لوقوعها في المصدر دون المشتق وإن كان التصرف في الهيئة لا في المادة ، ومنه يعلم أن الاستعارة الأصلية قسمان : ما يكون التجوز في مادته وما يكون في هيئته { وَإِنِ استنصروكم في الدين فعليكم النصر }أي فواجب عليكم أن تنصروهم على المشركين أعداء الله تعالى وأعدائكم { إِلاَّ على قَوْمٍ } منهم { بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ ميثاق } فلا تنصروهم عليه لما في ذلك من نقض عهدهم { والله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } فلا تخالفوا أمره ولا تتجاوزوا ما حده لكم كي لا يحل عليكم عقابه .

هذا ومن باب الإشارة : { والذين ءامَنُواْ } الإيمان العلمي { وَهَاجَرُواْ } من أوطان نفوسهم { وجاهدوا بأموالهم } بإنفاقها حتى تخللوا بعباء التجرد والانقطاع إلى الله عز وجل { وَأَنفُسِهِمْ } بإتعابها بالرياضة ومحاربة الشيطان وبذلها في سبيل الله تعالى وطريق الوصول إليه { والذين ءاوَواْ } إخوانهم في الطريق ونصروهم على عدوهم بالإمداد { أُوْلَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ } بميراث الحقائق والعلوم النافعة { والذين ءامَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ } عن وطن النفس { مَا لَكُم مّن ولايتهم مّن شيء } فلا توارث بينكم وبينهم إذ ما عندكم لا يصلح لهم ما لم يستعدوا له وما عندهم يأباه استعدادكم { حتى يُهَاجِرُواْ } كما هاجرتم فحينئذٍ يثبت التوارث بينكم وبينهم { وَإِنِ استنصروكم في الدين فَعَلَيْكُمُ النصر } [ الأنفال : 72 ] فإن الدين مشترك ، وعلى هذا الطرز يقال في باقي الآيات والله تعالى ولي التوفيق وبيده أزمة التحقيق .