اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{إِنَّ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَٰهَدُواْ بِأَمۡوَٰلِهِمۡ وَأَنفُسِهِمۡ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَٱلَّذِينَ ءَاوَواْ وَّنَصَرُوٓاْ أُوْلَـٰٓئِكَ بَعۡضُهُمۡ أَوۡلِيَآءُ بَعۡضٖۚ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَلَمۡ يُهَاجِرُواْ مَا لَكُم مِّن وَلَٰيَتِهِم مِّن شَيۡءٍ حَتَّىٰ يُهَاجِرُواْۚ وَإِنِ ٱسۡتَنصَرُوكُمۡ فِي ٱلدِّينِ فَعَلَيۡكُمُ ٱلنَّصۡرُ إِلَّا عَلَىٰ قَوۡمِۭ بَيۡنَكُمۡ وَبَيۡنَهُم مِّيثَٰقٞۗ وَٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ بَصِيرٞ} (72)

قوله تعالى : { إِنَّ الذين آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ } الآية .

اعلم أنَّهُ تعالى قسم المؤمنين في زمان الرسول - عليه الصَّلاة والسَّلام - إلى أربعة أقسام وذكر حكم كل واحد منهم ، وتقرير هذه القسمة أنَّهُ - عليه الصلاة والسلام - لما ظهرت نبوته ودعا النَّاس إلى الدِّين ، ثم انتقل من مكَّة إلى المدينة ، فمنهم من وافقه في تلك الهجرة ، ومنهم من لم يوافقه فيها بل بقي في مكة .

أمَّا القسمُ الأوَّلُ : فهم المهاجرون الأوَّلُون ، وقد وصفهم الله بقوله : { إِنَّ الذين آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ الله } وإنما قلنا : إن المراد بهم المهاجرون الأولون ؛ لأنَّهُ تعالى قال بعد ذلك : { والذين آمَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ } وقال تعالى : { لاَ يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الفتح وَقَاتَلَ أولئك أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الذين أَنفَقُواْ مِن بَعْدُ وَقَاتَلُواْ } [ الحديد : 10 ] .

وقال : { والسابقون الأولون مِنَ المهاجرين والأنصار } [ التوبة : 100 ] .

القسم الثاني من الموجودين في زمان محمد - عليه الصلاة والسلام - وهم الأنصار ؛ لأنَّهُ عليه الصلاة والسلام لمَّا هاجر إليهم مع طائفة من أصحابه ، فلولا أنَّهم آووا ، ونصروا ، وبذلوا النَّفٍس والمال في خدمة رسول الله صلى الله عليه وسلم وإصلاح مهمات أصحابه لما تمَّ المقصودُ ألبتَّة فحال المهاجر أعلى في الفضيلة من حال الأنصار ؛ لأنَّهم السَّابقون إلى الإيمان ، وتحمَّلُوا العناء والمشقة دهراً طويلاً من كفَّار قريش ، وصبروا على أذاهم ، وهذه الحالةُ ما حصلت للأنصارِ ، وفارقوا الأوطان ، والأهل ، والأموال ، والجيران ، ولم يحصل ذلك للأنصار ، وأيضاً فإنَّ الأنصار اقتدوا بهم الإسلام ، وهم السابقون للإيمان .

ولمَّا ذكر الله تعالى هذين القسمين ، قال : { أولئك بَعْضُهُمْ أولياء بَعْضٍ } قال الواحديُّ عن ابن عباس وغيره من المفسرين " المراد في الميراث " {[17519]} وقالوا : جعل الله تعالى سبب الإرث الهجرة ، والنصرة دون القرابة ، وكان القريب الذي آمن ولم يهاجر لم يرث ؛ لأنَّهُ لم يهاجر ولم ينصر .

واعلم أنَّ لفظ الولاية غير مشعرٍ بهذا المعنى ؛ لأنَّ اللفظ مشعر بالقرِب على ما تقرَّر في هذا الكتاب .

ويقال : السلطانُ ولي من لا ولي له ولا يفيد الإرث .

وقال تعالى : { ألا إِنَّ أولياء الله لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ } [ يونس : 62 ] ولا يفيدُ الإرث بل الولاية تفيد القرب ، فيمكن حمله على غير الإرث ، وهو كون بعضهم معظماً للبعض ، مهتماً بشأنه ، مخصوصاً بمعاونته ومناصرته ، وأن يكونوا يداً واحدة على الأعداء ، فحمله على الإرث بعيد عن دلالة اللفظ ، لا سيما وهم يقولون إن ذلك الحكم نسخ بقوله في آخر الآية : { وَأْوْلُواْ الأرحام بَعْضُهُمْ أولى بِبَعْضٍ } .

فأيُّ حاجة إلى حمل اللفظ على معنى لا إشعار لذلك اللفظ به ، ثمَّ الحكم بأنَّهُ صار منسوخاً بآية أخرى مذكورة معه ، هذا في غاية البعد ، اللَّهم إذا حصل إجماع المفسرين على ذلك فيجب المصير إليه ، إلاَّ أنَّ دعوى الإجماع بعيد .

القسم الثالث : المؤمنون الذين لم يهاجروا وبقوا في مكة ، وهم المراد بقوله { والذين آمَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ } فقال تعالى : { مَا لَكُمْ مِّن وَلاَيَتِهِم مِّن شَيْءٍ حتى يُهَاجِرُواْ } ، فالولاية المنفية في هذه الصُّورة ، هي الولاية المثبتة في القسم المتقدم ، فما قيل هناك قيل هنا .

واحتج الذَّاهبون إلى أنَّ المراد من هذه الولاية الإرث ، بأن قالوا : لا يجوزُ أن يكُون المراد منها ولاية النصرة والدليل عليه أنَّه تعالى عطف عليه قوله : { وَإِنِ استنصروكم فِي الدين فَعَلَيْكُمُ النصر } وذلك عبارة عن الموالاة في الدِّين ، والمعطوف مغاير للمعطوف عليه فوجب أن يكون المراد بالولاية المذكورة أمراً مغايراً لمعنى النصرة ، وهذا استدلال ضعيف لأنا إذَا حملنا تلك الولاية على التَّعظيم والإكرام ، فهو أمرٌ مغاير للنصرة ، لأنَّ الإنسان قد ينصر بعض أهل الذمة في بعض المهمات ، مع أنه لا يواليه بمعنى التعظيم ، وقد ينصر عبده وأمته بمعنى الإعانة ، مع أنه لا يواليه بمعنى التعظيم ، فسقط هذا الاستدلال .

قوله : " مِن ولايتهم " قرأ حمزة{[17520]} هنا ، وفي الكهف " الولاية لِلَّه " هو ، والكسائي بكسر الواو ، والباقون بفتحها . فقيل : لغتان . وقيل : بالفتحِ من " المَوْلَى " يقال : مَوْلَى بيِّن الولاية ، وبالكسر من ولاية السلطان . قاله أبُو عبيد . وقيل : بالفتح من النُّصْرَة والنَّسب ، وبالكسر من الإمارة . قاله الزَّجَّاجُ قال : " ويجوز الكسرُ ؛ لأنَّ في تولِّي بعض القوم بعضاً جنساً من الصناعة والعمل ، وكلُّ ما كان من جنس الصناعة مكسورٌ كالخياطة والقصارة " ، وقد خطَّأ الأصمعيُّ قراءة الكسرِ ، وهو المخطئ ، لتواترها .

وقال أبُو عبيدٍ : " والذي عندنا الأخْذُ بالفتح في هذين الحرفين ؛ لأنَّ معناهما من الموالاة في الدِّين " .

وقال الفارسي{[17521]} : " الفتحُ أجودُ ؛ لأنَّها في الدِّينِ " ، وعكس الفرَّاءُ هذا ، فقال " يُريدُ من مواريثهم ، فكسر الواو أحبُّ إليَّ من فتحها ؛ لأنها إنَّما تفتح إذا كانت نصرة وكان الكسائيُّ يذهبُ بفتحها إلى النصرة ، وقد سُمع الفتح والكسر في المعنى جَمِيعاً " .

قوله : " حتَّى يُهاجِرُوا " يُوهِمُ أنَّهم لمَّا لمْ يهاجروا مع رسُولِ الله سقطت ولايتهم مطلقاً فأزال الله هذا الوهم بقوله : { مَا لَكُمْ مِّن وَلاَيَتِهِم مِّن شَيْءٍ حتى يُهَاجِرُواْ } أي : أنهم لو هاجروا لعادت تلك الولاية .

قوله تعالى : { وَإِنِ استنصروكم فِي الدين فَعَلَيْكُمُ النصر } .

لمَّا بيَّن قطع الولاية بين تلك الطَّائفة من المؤمنين ، بيَّن أنَّ المراد منه ليس هو المقاطعة التَّامة كما في حقِّ الكُفَّارِ ، بل هؤلاء المؤمنون الذين لم يهاجروا " لو استنصروكم فانصروهم " ولا تخذلوهم .

قوله : " فَعَليْكُم النَّصْرُ " مبتدأ وخبر ، أو فعل وفاعل عند الأخفش ، ولفظةُ " عَلَى " تُشعرُ بالوُجُوبِ ، وكذلك قدَّره الزمخشريُّ ، وشَبَّهه بقوله : [ الطويل ]

عَلَى مُكْثِريهِمْ رِزْقُ مَنْ يَعْتَريهم *** وعِنْدَ المُقلِّينَ السَّماحَةُ والبَذْلُ{[17522]}

قوله : { إِلاَّ على قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ } أي : لا يجوز لكم نصرتهم عليهم إذ الميثاق مانع من ذلك .

ثم قال : { والله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } قرأ السلمي{[17523]} والأعرج : " يَعْمَلُون " بياء الغيبةِ وكأنه التفات ، أو إخبار عنهم .

قوله تعالى : { والذين كَفَرُواْ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ } الآية .

اعلم أنَّ هذا ترتيبٌ في غاية الحسن ؛ لأنَّهُ تعالى ذكر للمؤمنين أقساماً ثلاثة :

الأول : المؤمنون من المهاجرين .

والثاني : الأنصار وهم أفضل النَّاس وبيَّن أنه يجب أن يوالي بعضهم بعضاً .

والقسم الثالث : المؤمنون الذين لم يهاجروا .

فهؤلاء لهم بسب بإيمانهم فضل ، وبسبب تركِ الهجرة لهم حالة نازلة ، فيكون حكمهم متوسطاً بمعنى أنَّ الولاية للقسم الأوَّل منفية عن هذا القسم ، إلاَّ أنَّهم يكونون بحيثُ لو استنصروا المؤمنين ، واستعانوا بهم نصروهم وأعانوهم ، فهذا الحكم متوسط بين الإجلال ، والإذلال ، وأمَّا الكفار فليس لهم ما يوجب شيئاً من أسباب الفضيلة ، فوجب كون المسلمين منقطعين عنهم من كل الوجوه ، فلا يكون بينهم ولاية ولا مناصرة .

فصل


[17519]:ذكره الواحدي في "الوسيط" (2/474) والبغوي (2/264) والقرطبي (8/38).
[17520]:ينظر: السبعة ص (309)، الحجة 4/165، حجة القراءات ص (314) إعراب القراءات 1/234، النشر 2/177، إتحاف 2/84.
[17521]:ينظر: الحجة 4/166.
[17522]:البيت لزهير بن أبي سلمى ينظر ديوانه (114) والعمدة 2/124 والكامل 1/27 والبحر المحيط 4/518 والدر المصون 3/438.
[17523]:ينظر: المحرر الوجيز 2/556، البحر المحيط 4/517، الدر المصون 3/438.