ولما بين للأسرى أن الخير الذي لم يطلع عليه من قلوبهم غير الله لا ينفعهم في إسقاط الفداء عنهم لأنه لا دليل عليه ، وكل ما لا دليل عليه فحكمه حكم العدم ، لأن مبنى الشرع{[35386]} على ما{[35387]} يمكن المكلف معرفته وهو الظواهر ، وختم بصفتي العلم والحكمة ، شرع يبين الخبر الذي يفيد القرب الذي تنبني عليه المناصرة وكل خير ، فقال مقسماً أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أربعة أقسام : قسم جمع الإيمان والهجرة أولاً والجهاد ، وقسم آوى ، وقسم آمن ولم يهاجر ، وقسم هاجر من بعد : { إن الذين آمنوا } أي بالله ورسوله { وهاجروا } أي واقعوا الهجرة من بلاد الشرك ، وهم المهاجرون الأولون ، هجروا أوطانهم وعشائرهم وأحبابهم حباً لله ورسوله صلى الله عليه وسلم { وجاهدوا } أي واقعوا{[35388]} الجهاد ، وهو بذل الجهد في توهين الكفر وأهله .
ولما كانت الآيات المتقدمه في آلات{[35389]} الجهاد من النفس والمال تارة بالحث على إنفاقه وأخرى بالنهي عن حبه وتارة بالتسلية للأسرى عند{[35390]} فقده ، كان الأنسب تقديم قوله : { بأموالهم } أي بإنفاقهم لها في{[35391]} الجهاد وتضييع بعضها بالهجرة من الديار والنخيل وغيرها { وأنفسهم } بإقدامهم على القتال مع شدة الأعداء وكثرتهم ؛ وقدم المال لأنه سبب قيام النفس ، وكان في غاية العزة في{[35392]} أول الأمر ، وأخر قوله : { في سبيل الله } أي الملك الأعظم لذلك ، " وفي " سببية{[35393]} أي جاهدوا بسببه حتى لا يصد عنه صاد فتظهر محاسنه ويسهل المرور فيه من غير قاطع ، ولعله عبر ب " في " إعلاماً{[35394]} بأنه ينبغي أن يكون متمكناً من السبيل تمكن المظروف من ظرفه حتى يكون الدين غالباً عليه لا يخرج عنه بوجه من الوجوه ، وأما في سورة براءة{[35395]} فلما كان السياق في بعض الأماكن بها للسبيل قدم - كما سيأتي ، وأيضاً فإن هذه السورة نزلت في أوائل الأمر بعد وقعة بدر في السنة الثانية من الهجرة ، وكان الحال إذ ذاك شديداً جداً ، والأموال في غاية القلة ، والأعداء لا يحصون ، فناسب الاهتمام بشأن المال والنفس فقدما ترغيباً في بذلهما ، وأما براءة فنزلت في غزوة تبوك في أواخر سنة تسع ، فكان{[35396]} المال قد اتسع ، والدين قد عز وضخم وقوي وعظم ، وأسلم غالب الناس ، فبعدت مواضع الجهاد فعظمت المشقة ، وتواكل الناس بعضهم على بعض ورغبوا في الإقبال على إصلاح الأموال ، فناسب البداءة هناك بالسبيل .
ولما ذكر أهل الهجرة الأولى ، أتبعهم أهل النصرة ، وهم القسم الثاني من المؤمنين الذين كانوا على زمنه صلى الله عليه وسلم فقال : { والذين آووا } أي من{[35397]} هاجر{[35398]} إليهم من النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم فأسكنوهم في ديارهم ، وقسموا لهم من أموالهم ، وعرضوا عليهم أن ينزلوا لهم عن بعض نسائهم ليتزوجوهن ، وأنما قصر الفعل إشارة إلى تعظيم فعلهم بحيث كأنه{[35399]} لا إيواء في الوجود غير ما فعلوا ، وكذا قوله : { ونصروا } أي الله ورسوله والمؤمنين ، وهم الأنصار رضي الله عنهم ، حازوا هذين الوصفين الشريفين فكانوا في الذروة من كلتي الحسنيين{[35400]} ، ولولا إيواؤهم ونصرهم{[35401]} لما تم المقصود ، والمهاجرون الأولون أعلى منهم لسبقهم في الإيمان الذي هو رئيس الفضائل ولحملهم الأذى من الكفار زماناً طويلاً وصبرهم على فرقة الأوطان والعشائر .
وأشار إلى القسمين بأداة البعد لعلو مقامهم وعز{[35402]} مرامهم فقال : { أولئك } أي العالو الرتبة { بعضهم أولياء بعض } أي في الميراث دون القرب العاري عن ذلك ، فبين أن الإيمان إن لم يقترن{[35403]} بشهيدين هما الهجرة والجهاد من الغرب{[35404]} عن المدينة وشهيدين هما الإيواء والنصرة من أهل المدينة ، كان عائقاً عن مطلق القرب بل مانعاً من نفوذ لحمة النسب كل النفوذ{[35405]} ، فكأن من آمن ولم يهاجر لم يرث ممن هاجر قاله ابن عباس رضي الله عنهما ، ومادة ولي بجميع تصاريفها ترجع إلى الميل ، ويلزم منه القرب والبعد{[35406]} ، وربما نشأ عن كل منهما الشدة ، وترتيب ولي بخصوصه يدور على القرب ، ومن لوازمه النصرة ، فالمعنى بعضهم أقرباء بعض ، يلزم كلاً منهم في حق الآخر من المناصرة وغيرها ما يلزم القريب لقريبه ، فمتى جمعهم وصف جعلهم شركاء فيما يثمره ، فوصف الحضور في غزوة يشرك بينهم في الغنائم ، لأن أنواع الجهاد كثيرة ، وكل واحد منهم باشر بعضها ، فعن حضور الكل نشأت النصرة ، والمهاجر في الأصل من فارق الكفار بقلبه ولاواهم ، ورافق المؤمنين بحبه ولبه ووالاهم ، لكن لما كان هذا قد يخفى ، نيط الأمر بالمظنة وهي الدار ، لأنها أمر ظاهر ، فصار المهاجر من باعد دار المشركين فراراً بدينه ، ثم صار شرط ذلك بعد هجرة النبي صلى الله عليه وسلم أن تكون النقلة إلى دار هجرته : المدينة الشريفة هذا حكم كل مهاجر إلا ما{[35407]} كان من خزاعة فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان قد علم من مؤمنهم وكافرهم حبه ونصحه وبغض عدوه فلم يلزم مؤمنهم النقلة ؛ قال الحافظ أبو عمر ابن عبد البر في كتاب المدخل إلى الاستيعاب ؛ ويقال لخزاعة حلفاء رسول الله صلى الله عليه وسلم {[35408]}لأنهم حلفاء بني هاشم وقد أدخلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم{[35409]} في كتاب القضية عام الحديبية - إلى أن قال : وأعطاهم النبي صلى الله عليه وسلم منزلة لم يعطها أحداً من الناس أن جعلهم مهاجرين بأرضهم وكتب لهم بذلك كتاباً - انتهى . وقال شاعرهم نجيد{[35410]} بن عمران الخزاعي يفخر{[35411]} بذلك وغيره مما خصهم الله به على يد{[35412]} رسول الله صلى الله عليه وسلم :وقد أنشأ الله{[35413]} السحاب بنصرنا *** {[35414]}ركام سحاب{[35415]} الهيدب المتراكب
وهجرتنا في أرضنا عندنا بها *** كتاب أتى من خير ممل وكاتب
ومن أجلنا حلت بمكة حرمة *** لندرك ثأراً بالسيوف القواضب
ذكر ذلك الحافظ أبو الربيع بن سالم الكلاعي في غزوة الفتح من سيرته ، والذي تولى حلفهم أولاً هو عبد المطلب جد النبي صلى الله عليه وسلم ، قال الواقدي في أول غزوة الفتح : وكانت خزاعة حلفاء لعبد المطلب ، وكان رسول صلى الله عليه وسلم بذلك عارفاً ، لقد جاءته يومئذ - يعني يوم الحديبية - خزاعة بكتاب عبد المطلب فقرأه وهو " باسمك اللهم هذا حلف عبد المطلب بن هاشم لخزاعة{[35416]} إذ قدم عليه{[35417]} وسراتهم{[35418]} وأهل الرأي ، غائبهم مقر بما قضى عليه شاهدهم ، إن بيننا وبينكم عهد الله وعقوده ، ما لا ينسى أبداً ، اليد واحدة{[35419]} والنصر واحد ، ما أشرف{[35420]} ثبير وثبت حراء ، وما بل بحر صوفة ، لا يزداد فيما بيننا وبينكم إلا تجدداً أبداً أبداً ، الدهر سرمداً " فقرأه عليه أبيّ بن كعب رضي الله عنه فقال : " ما أعرفني بحلفكم وأنتم على{[35421]} ما أسلمتم عليه من الحلف ، وكل حلف كان في الجاهلية فلا يزيده الإسلام إلا شدة ، ولا حلف في الإسلام " ؛ قال الواقدي : " وجاءته أسلم وهو بغدير الأشطاط{[35422]} " جاء بهم بريده بن الحصيب فقال : يارسول الله هذه أسلم وهذه محالّها وقد هاجر إليك من{[35423]} هاجر منها وبقي{[35424]} قوم منهم في مواشيهم ومعاشهم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أنتم{[35425]} مهاجرون حيث كنتم ، ودعا العلاء بن الحضرمي فأمره أن يكتب لهم كتاباً فكتب " هذا كتاب من محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم لأسلم لمن آمن منهم بالله وشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله ، فإنه آمن بأمان الله ، وله ذمة الله وذمة رسوله ، وإن أمرنا وأمركم واحد على من دهمنا من الناس بظلم ، اليد واحدة والنصر واحد ، ولأهل باديتهم مثل{[35426]} ما لأهل قرارهم{[35427]} وهم{[35428]} مهاجرون حيث كانوا " وكتب العلاء بن الحضرمي فقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه : يا رسول الله ! نعم الرجل بريدة بن الحصيب لقومه عظيم البركة عليهم ، مررنا به ليلة مررنا ونحن مهاجرون إلى المدينة ، فأسلم وأسلم معه من قومه من أسلم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : نعم الرجل بريدة لقومه وغير قومه يا أبا بكر إن خير القوم من كان مدافعاً عن قومه ما لم يأثم ، فإن الإثم لا خير فيه " انتهى . وأسلم شعب من أربعة شعوب من خزاعة . ولما فتحت مكة ، انقطعت الهجرة لظهور الدين وضعف المشركين ، وقام مقام الهجرة النية الخالصة المدلول عليها بالجهاد كما قال صلى الله عليه وسلم " لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية " وقال صلى الله عليه وسلم :
" المهاجر من هجر ما نهى الله عنه " فإن كان المؤمن لا يتمكن من إظهار دينه وجبت{[35429]} عليه النقلة .
ولما بين سبحانه تعالى أمر من جمع{[35430]} الشروط ، شرع يبين حكم من قعد{[35431]} عن بعضها وهو القسم الثالث فقال ؛ { والذين آمنوا } أي اشتهر إيمانهم { ولم يهاجروا } أي قبل الفتح بل استمروا في بلادهم { ما لكم من ولايتهم } وأغرق في النفي فقال : { من شيء } أي{[35432]} في التوارث ولا في غيره ؛ ورغبهم في الهجرة بقوله : { حتى يهاجروا } أي يواقعوا{[35433]} الهجرة لدار الشرك ومن فيها { وإن استنصروكم } أي طلبوا نصركم { في الدين } أي بسبب أمر من أموره وهم متمكنون من الدين تمكن المظروف من الظرف { فعليكم النصر } أي واجب عليكم أن تنصروهم{[35434]} على المشركين ، فالمعنى أنه ليس لهم عليكم حق القريب إلا في الاستنصار في الدين ، فإن ترك نصرهم يجر إلى مفسدة كما أن موالاتهم تجر إلى مفاسد ؛ ثم استثنى من الوجوب فقال : { إلا على قوم } وقع وكان { بينكم وبينهم ميثاق } أي لأن استنصارهم يوقع بين مفسدتين : ترك{[35435]} نصرة المؤمن ونقض العهد وهو أعظمهما فقدمت{[35436]} مراعاته وتركت نصرتهم{[35437]} ، فإن نصرهم الله على الكفار فهو المراد من غير أن تدنسوا بنقض ، وإن نصر الكفار حصل لمن قتل من إخوانكم الشهادة ولمن بقي الضمان بالكفاية ، وكان ذلك داعياً لهم إلى الهجرة{[35438]} ، ومن ارتد منهم أبعده الله ولن يضر إلا نفسه والله غنى حميد ، فقد وقع - كما ترى - تقسيم المؤمنين إلى ثلاثة أقسام : أعلاها المهاجر ، ويليه الناصر ، وأدناها القاعد القاصر ، وبقي قسم رابع ياتي{[35439]} ؛ قال أبو حيان : فبدأ بالمهاجرين - أي{[35440]} الأولين - لأنهم أصل الإسلام وأول من استجاب لله تعالى ، فهاجر قوم إلى المدينة ، وقوم إلى الحبشة ، وقوم إلى ابن ذي يزن ، ثم هاجروا إلى المدينة وكانوا قدوة لغيرهم في الإيمان وسبب تقوية الدين " من سنَّ سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل{[35441]} بها إلى يوم القيامه " وثنى بالأنصار لأنهم ساووهم في الإيمان وفي الجهاد بالنفس والمال ، لكنه عادل بالهجرة{[35442]} الإيواء والنصرة ، وانفرد المهاجرون بالسبق ، وذكر ثالثاً من آمن ولم ينصر ، ففاتهم هاتان الفضيلتان وحرموا الولاية حتى يهاجروا ، ثم قال : آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار ، فكان المهاجري يرثه أخوه الأنصاري إذا لم يكن له بالمدينة ولي مهاجري ، ولا توارث بينه وبين قريبه المسلم غير المهاجري{[35443]} ، قال ابن زيد : واستمر أمرهم كذلك إلى{[35444]} فتح مكة - انتهى . لكن ما ذكر ابن عبد البر - كما سيأتي - من أن حكم ذلك زال بوقعة بدر أولى للآية الآتية{[35445]} آخر السورة مع ما يؤيد ذلك من آية الأحزاب{[35446]} .
ولما كان التقدير : فالله بمصالحكم خبير ، وكان{[35447]} للنفوس دواع إلى مناصرة الأقارب والأحباب ومعاداة غيرهم خفية ، ولها دسائس{[35448]} تدرك ، حذر من ذلك بقوله عاطفاً على هذا المقدر : { والله } أي المحيط علماً وقدرة ، ولما كان السياق لبيان المصالح التي تنظم الدين وتهدم ما عداه ، وكان للنفوس - كما تقدم - أحوال ، اقتضى تأكيد العلم بالخفايا فقدم الجار الدال على الاختصاص الذي هو هنا كناية عن إحاطة العلم فقط مرهباً : { بما تعملون بصير* } وفي ذلك أيضاً ترغيب في العمل بما حث عليه من الإيمان والهجرة والنصرة والإنفاق والتحري في جميع من{[35449]} ذلك وترهيب من العمل بأضدادها ، وفي " البصير " إشارة إلى العلم بما يكون من ذلك خالصاً أو مشوباً ، ففيه مزيد حث على الإخلاص .