تأويلات أهل السنة للماتريدي - الماتريدي  
{إِنَّ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَٰهَدُواْ بِأَمۡوَٰلِهِمۡ وَأَنفُسِهِمۡ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَٱلَّذِينَ ءَاوَواْ وَّنَصَرُوٓاْ أُوْلَـٰٓئِكَ بَعۡضُهُمۡ أَوۡلِيَآءُ بَعۡضٖۚ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَلَمۡ يُهَاجِرُواْ مَا لَكُم مِّن وَلَٰيَتِهِم مِّن شَيۡءٍ حَتَّىٰ يُهَاجِرُواْۚ وَإِنِ ٱسۡتَنصَرُوكُمۡ فِي ٱلدِّينِ فَعَلَيۡكُمُ ٱلنَّصۡرُ إِلَّا عَلَىٰ قَوۡمِۭ بَيۡنَكُمۡ وَبَيۡنَهُم مِّيثَٰقٞۗ وَٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ بَصِيرٞ} (72)

وقوله تعالى : ( إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله ) ، قوله ( آمنوا ) أي صدقوا آيات الله وحججه ، أو صدقوا رسوله في جميع ما جاء به ، كأنه مقابل قوله ( كدأب آل فرعون والذين من قبلهم كفروا بآيات الله ) ( الأنفال 54 ) وقوله{[9354]} ذكر ههنا التصديق مكان التكذيب في ذلك .

وقوله تعالى ( وهاجروا ) في إظهار دين الله ونصره ( بأموالهم وأنفسهم ) أي بذلوا ذلك .

( والذين آووا ) أي ضموا النبي . ( ونصروا أولئك بعضهم أولياء بعض ) . قال ابن عباس وعامة أهل التأويل : الولاية التي ذكرت في الآية في التوارث ؛ جعل الميراث للمهاجرين والأنصار دون ذوي الأرحام الذين آمنوا ولم يهاجروا إلى المدينة ، وكذلك قالوا في قوله : ( والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء ) .

وروي عن عبد الله [ أنه ]{[9355]} قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : المهاجرون والأنصار بعضهم أولياء بعض في الدنيا والآخرة ، والطلقاء من قريش والعتقاء من ثقيف بعضهم أولياء بعض في الدنيا والآخرة .

وعن جرير بن عبد الله عن رسول الله صلى الله عليه وسلم [ أنه ]{[9356]} قال كذلك . وعن المسعودي عن القاسم [ أنه ]{[9357]} قال : آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أصحابه ، فآخى بين عبد الله بن مسعود والزبير بن العوام ، [ فجعلهم ]{[9358]} إخوة ، يتوارثون بها ؛ لأنهم هاجروا ، وتركوا قراباتهم حتى أنزل الله آية المواريث .

وعن ابن عباس في قوله ( والذين عاقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم ) ( النساء 33 ) [ أنه ]{[9359]} قال : كان المهاجرون حين قدموا المدينة يرثون {[9360]} الأنصار دون أرحامهم{[9361]} بالأخوة التي آخى النبي بينهم ، فلما نزل قوله ( ولكل جعلنا موالي مما ترك الوالدان والأقربون ) نسخه ( والذين عاقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم ) ( النساء 33 ) من النصر والنصيحة والرفادة ، ويوصي له ، ولا ميراث .

وعن الحسن في قوله تعالى ( وأولوا الأرحام أولى ببعض في كتاب الله ) ( الأنفال 75 والأحزاب 6 ) فكان المسلمون يتوارثون بالهجرة ؛ فكان الأعرابي لا يرثه المهاجر ، ولا يرثه الأعرابي ، فحرضهم بذلك على الهجرة حتى كثر المسلمون ، فأنزل الله تعالى ( وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض ) الآية ، فورث الأعرابي المهاجر ، وتوارثوا بالأرحام ، إلى هذا يذهب عامة أهل التأويل .

وكانوا يرون أن الهجرة كانت مفترضة ، فزال فرضها بقول النبي صلى الله عليه وسلم : " لا هجرة بعد الفتح ؛ ولكنه جهاد ونية " [ البخاري 2783 ] وعن عائشة رضي الله عنها [ أنها ]{[9362]} قالت : انقطعت الهجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية ، فإنما كانت الهجرة إلى الله ورسوله ، والمؤمنون يفرون بدينهم من أن يقيموا عنه ، وقد أفشى الله الإسلام .

هذا الذي ذهب [ إليه ]{[9363]} إليه هؤلاء في قوله{[9364]} ( بعضهم أولى ببعض ) في التوارث محتمل .

ويحتمل غير هذا ؛ وهو أن قوله ( إن الذين آمنوا وهاجروا ) إلى قوله : ( والذين آووا ونصروا أولئك بعضهم أولياء بعض ) أي بعضهم أولياء بعض في تمام الولاية في التناصر والتعاون والحقوق والديانة ، فهم أولى ببعض من الذين آمنوا ولم يهاجروا ؛ لأنهم آمنوا وهاجروا ، أي تركوا منازلهم وأهلهم وقراباتهم وبلدهم الذي كانوا فيه مقيمين إشفاقا على دينهم واستسلاما لهم ولأنفسهم ، والأنصار آووهم ، و أنزلوهم في منازلهم ، وبذلوا أنفسهم وأموالهم ، وتحملوا جميع مؤنهم من غير أن كان سبَقَ منهم إليهم شيء ، فصاروا لهم أعوانا وأنصارا ، فصار بعضهم أولياء بعض في تمام ما ذكرنا من الولاية .

[ وقوله تعالى ]{[9365]} : ( والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا ) أي ما لكم من ولايتهم أي من تمام ما ذكرنا من الولاية لهم : ولاية الذين [ هاجروا ، أي ]{[9366]} ليس لهم ولاية التناصر والتعاون والحقوق والمنافع التي تكتسب بالدين .

وفي قوله : ( والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء ) دلالة نقض قول المعتزلة ؛ لأنه عز وجل أبقى للذين لم يهاجروا اسم الإيمان ، وكانت الهجرة عليهم مفترضة ، وفي تركهم الهجرة مرتكبون{[9367]} كبيرة ، لا يزول عنهم{[9368]} اسم الإيمان .

وقوله تعالى : ( وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض ) ( الأنفال 75 ) مِنْ غيرهم لأنهم آمنوا وهاجروا ، ولهم قرابة سابقة ورحم متقدم ؛ كانوا هم أولى من غيرهم الذين{[9369]} لا قرابة بينهم ، ولا رحم ؛ إذا اجتمع فيهم الرحم والمعونة والديانة والحقوق اجتمع فيهم{[9370]} أشياء أربعة ، وفي أولئك ثلاثة ، فهم أولى بهم من غيرهم . هذا على التأويل الذي ذكرنا ، والله أعلم .

وقوله تعالى : ( وإن استنصروكم في الدين ) يعني الذين لم يهاجروا ، ويحتمل وجهين :

أحدهما{[9371]} : إذا طلبوا منكم المعونة والنصرة على عدوهم فعليكم النصر والمعونة لهم ، إذا لم يكن بينكم وبين أولئك ميثاق .

والثاني : إذا علمتم أنهم يخشون على أنفسهم من عدوهم ، ويخافونه ، فانصروهم ( إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق ) فلا تنصروهم ؛ تأويله حتى تنبذوا إليهم العهد .

يقول : إن استنصركم{[9372]} يا معشر المهاجرين إخوانُكم المؤمنون الذين لم يهاجروا إليكم ، فأتاهم عدوهم من المشركين ، فقاتَلوهم ليردوهم عن الإسلام فانصروهم ، ثم استثنى فقال : ( إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق ) يقول : إن استنصركم الذين لم يهاجروا إلى المدينة على أهل عهدكم فلا تنصروهم ( والله بما تعملون بصير ) في المعونة والنصرة ونحوهما{[9373]} .

وقوله تعالى : ( ما لكم من ولايتهم من شيء ) قرئ{[9374]} بالخفض : وِلايتهم ، وبالنصب جميعا وَلايتهم أي بنصب الواو وخفضها . وكذلك التي في الكهف : ( هنالك الولاية لله ) ( الآية 44 ) بالخفض والنصب جميعا{[9375]} .

قال بعض أهل الأدب : الوَلاية بفتح الواو : النصرة والمعونة ، والوِلاية بخفض الواو : السلطان ؛ أي السلطان لله .

وقال بعضهم : الولاية بالخفض : المعونة والنصرة ؛ والوَلاية : السلطان . وقال آخرون : هما سواء ، وهي{[9376]} النصرة والمعونة : الوَلاية في الإمارة والسلطان ، والولاية في الدين .


[9354]:) في الأصل وم: و.
[9355]:) ساقطة من الأصل وم.
[9356]:) ساقطة من الأصل وم.
[9357]:) ساقطة من الأصل وم.
[9358]:) ساقطة من الأصل وم.
[9359]:) ساقطة من الأصل وم.
[9360]:) في الأصل وم: يرث.
[9361]:) في الأصل وم: رحمه.
[9362]:) ساقطة من الأصل وم.
[9363]:) ساقطة من الأصل وم.
[9364]:) في الأصل وم: قول.
[9365]:) ساقطة من الأصل وم.
[9366]:) في الأصل وم: و.
[9367]:) في الأصل وم: مرتكبين.
[9368]:) في الأصل وم: عنه.
[9369]:) من م، في الأصل: الذي.
[9370]:) في الأصل وم: فيه.
[9371]:) في الأصل وم: يحتمل.
[9372]:) في الأصل وم: استنصروا.
[9373]:) في الاصل وم: ونحوه.
[9374]:) انظر معجم القراءات القرآنية ج2/ 465 وحجة القراءات / 314.
[9375]:) انظر معجم القراءات القرآنية ج3/ 369.
[9376]:) في الأصل وم: وهو.