قوله تعالى :{ هذان خصمان اختصموا في ربهم } أي : جادلوا في دينه وأمره ، والخصم : اسم شبيه بالمصدر ، فلذلك قال : { اختصموا } بلفظ الجمع كقوله : { وهل أتاك نبأ الخصم إذ تسوروا المحراب } واختلفوا في هذين الخصمين .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنبأنا محمد بن يوسف ، أنبأنا محمد بن إسماعيل ، أنبأنا يعقوب بن إبراهيم ، أنبأنا هشيم ، أنبأنا أبو هاشم ، عن أبي مجلز ، عن قيس بن عباد قال : سمعت أبا ذر يقسم قسما أن هذه الآية : { هذان خصمان اختصموا في ربهم } نزلت في الذين برزوا يوم بدر : حمزة وعلي ، وعبيدة بن الحارث ، وعتبة ، وشيبة ابني أبي ربيعة ، والوليد بن عتبة . وأخبرنا عبد الواحد ، أنبأنا أحمد ، أنبأنا محمد بن يوسف ، أنبأنا محمد بن إسماعيل ، أنبأنا حجاج بن منهال ، حدثنا المعتمر بن سليمان ، قال : سمعت أبي قال : أنبأنا أبو مجلز ، عن قيس بن عباد ، عن علي بن أبي طالب قال : " أنا أول من يجثو بين يدي الرحمن للخصومة يوم القيامة " . قال قيس : وفيهم نزلت : { هذان خصمان اختصموا في ربهم } قال : هم الذين بارزوا يوم بدر : علي وحمزة ، وعبيدة ، وشيبة بن ربيعة ، وعتبة بن ربيعة ، والوليد بن عتبة . قال محمد بن إسحاق : خرج -يعني يوم بدر- عتبة بن ربيعة بين أخيه شيبة بن ربيعة وابنه الوليد بن عتبة ودعا إلى المبارزة فخرج إليه فتية من الأنصار ثلاثة : عوف ومعوذ ابنا الحارث وأمهما عفراء ، وعبد الله بن رواحة فقالوا : من أنتم ؟ قالوا : رهط من الأنصار ، فقالوا حين انتسبوا : أكفاء كرام ، ثم نادى مناديهم : يا محمد أخرج إلينا أكفاءنا من قومنا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : قم يا عبيدة بن الحارث ويا حمزة بن عبد المطلب ويا علي بن أبي طالب ، فلما دنوا قالوا : من أنتم ؟ فذكروا ، فقالوا : نعم أكفاء كرام فبارز عبيدة وكان أسن القوم عتبة ، وبارز حمزة شيبة ، وبارز علي الوليد بن عتبة ، فأما حمزة فلم يمهل أن قتل شيبة ، وعلي الوليدبن عتبة واختلف عبيدة وعتبة بينهما ضربتان كلاهما أثبت صاحبه ، فكر حمزة وعلي بأسيافهما على عتبة فذففا عليه واحتملا عبيدة إلى أصحابه ، وقد قطعت رجله ومخها يسيل ، فلما أتوا بعبيدة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ألست شهيداً يا رسول الله ؟ قال : بلى ، فقال عبيدة : لو كان أبو طالب حياً لعلم أنا أحق بما قال منه حيث يقول :
ونسلمه حتى نصرع حوله *** ونذهل عن أبنائنا والحلائل
وقال ابن عباس و قتادة : نزلت الآية في المسلمين وأهل الكتاب فقال أهل الكتاب : نحن أولى بالله منكم وأقدم منكم كتاباً ، ونبينا قبل نبيكم ، وقال المؤمنون : نحن أحق بالله آمنا بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم ونبيكم وبما أنزل الله من كتاب ، وأنتم تعرفون نبينا وكتابنا وكفرتم به حسداً ، فهذه خصومتهم في ربهم . وقال مجاهد و عطاء بن أبي رباح و الكلبي : هم المؤمنون والكافرون كلهم من أي ملة كانوا . وقال بعضهم : جعل الأديان ستة في قوله تعالى : { إن الذين آمنوا والذين هادوا } الآية ، فجعل خمسة للنار وواحداً للجنة ، فقوله تعالى : { هذان خصمان اختصموا في ربهم } ينصرف إليهم فالمؤمنون خصم وسائر الخمسة خصم . وقال عكرمة : هما الجنة والنار اختصمتا .
كما أخبرنا حسان بن سعيد المنيعي ، أنبأنا أبو طاهر الزيادي ، أنبأنا أبو بكر محمد حسين القطان ، أنبأنا أحمد بن يوسف السلمي ، أنبأنا عبد الرزاق ، أنبأنا معمر ، عن همام بن منبه ، قال : حدثنا أبو هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { تحاجت الجنة والنار فقالت النار : أوثرت بالمتكبرين والمتجبرين ، وقالت الجنة : فما لي لا يدخلني إلا ضعفاء الناس وسقطهم وغزاتهم . قال الله عز وجل للجنة : إنما أنت رحمتي أرحم بك من أشاء من عبادي ، وقال للنار : إنما أنت عذابي أعذب بك من أشاء من عبادي ، ولكل واحدة منكما ملؤها ، فأما النار فلا تمتلئ حتى يضع الله فيها رجله فتقول قط قط ، فهنالك تمتلئ ويزوي بعضها إلى بعض ، ولا يظلم الله من خلقه أحداً ، وأما الجنة فإن الله عز وجل ينشئ لها خلقاً . ثم بين الله عز وجل ما للخصمين فقال : { فالذين كفروا قطعت لهم ثياب من نار } قال سعيد بن جبير : ثياب من نحاس مذاب ، وليس من الآنية شيء إذا حمي أشد حراً منه وسمي باسم الثياب لأنها تحيط بهم كإحاطة الثياب . وقال بعضهم : يلبس أهل النار مقطعات من النار ، { يصب من فوق رؤوسهم الحميم } الحميم : هو الماء الحار الذي انتهت حرارته .
وقوله تعالى : { هذان خصمان } الآية ، اختلف الناس في المشار إليه بقوله { هذان } فقال قيس بن عباد وهلال بن يساف : نزلت هذه الآية في المتبارزين يوم بدر وهو ستة : حمزة ، وعلي ، وعبيدة بن الحارث ، برزوا لعتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة والوليد بن عتبة{[8330]} وروي عن علي بن أبي طالب أنه قال : أنا أول من يجثو يوم القيامة للخصومة بين يدي الله تعالى يوم القيامة{[8331]} ، وأقسم أبو ذر على هذا القول ع ووقع أن الآية فيهم في صحيح البخاري ، وقال ابن عباس : الإشارة إلى المؤمنين وأهل الكتاب وذلك أنه وقع بينهم تخاصم فقالت اليهود نحن أقوم ديناً منكم ونحو هذا ، فنزلت الآية ، وقال عكرمة : المخاصمة بين الجنة والنار ، وقال مجاهد وعطاء بن أبي رباح والحسن بن أبي الحسن وعاصم والكلبي : الإشارة إلى المؤمنين والكفار على العموم ع وهذا قول تعضده الآية ، وذلك أنه تقدم قوله { وكثير من الناس } المعنى هم مؤمنون ساجدون ، ثم قال { وكثير حق عليه العذاب } ثم أشار الى هذين الصنفين بقوله { هذان خصمان } والمعنى أن الإيمان وأهله والكفر وأهله خصمان مذ كانا إلى قيام الساعة بالعداواة والجدال والحرب ، وقوله تعالى : { خصمان } يريد طائفتين لأن لفظة خصم هي مصدر يوصف به الجمع والواحد ويدل على أنه أراد الجمع قوله { اختصموا } فإنها قراءة الجمهور ، وقرأ ابن أبي عبلة «اختصما في ربهم » وقوله { في ربهم } معناه في شأن ربهم وصفاته وتوحيده ، ويحتمل أن يريد في رضاء ربهم وفي ذاته ، ثم بين حكمي الفريقين فتوعد تعالى الكفار بعذاب جهنم ، و { قطعت } معناه جعلت لهم بتقدير ، كما يفصل الثوب ، وروي أنها من نحاس وقيل ليس شيء من الحجارة والفلز أحر منه إذا حمي ، وروي في صب { الحميم } وهو الماء المغلي أنه تضرب رؤوسهم ب «المقامع » فتنكشف أدمغتهم فيصب { الحميم } حينئذ ، وقيل بل يصب أولاً فيفعل ما وصف ، ثم تضرب ب «المقامع » بعد ذلك ، و { الحميم } الماء المغلي .
مقتضى سياق السورة واتصال آي السورة وتتابعها في النزول أن تكون هذه الآيات متصلة النزول بالآيات التي قبلها فيكون موقع جملة { هذان خصمان } موقع الاستئناف البياني . لأن قوله { وكثير حق عليه العذاب } [ الحج : 18 ] يثير سؤال من يسأل عن بعض تفصيل صفة العذاب الذي حقّ على كثير من الناس الذين لم يسجدوا لله تعالى ، فجاءت هذه الجملة لتفصيل ذلك ، فهي استئناف بياني . فاسم الإشارة المثنى مشير إلى ما يفيده قوله تعالى : { وكثير من الناس وكثير حق عليه العذاب } [ الحج : 18 ] من انقسام المذكورين إلى فريقين أهل توحيد وأهل شرك كما يقتضيه قوله : { وكثير من الناس وكثير حق عليه العذاب } [ الحج : 18 ] من كون أولئك فريقين : فريق يسجد لله تعالى ، وفريق يسجد لغيره . فالإشارة إلى ما يستفاد من الكلام بتنزيله منزلة ما يشاهد بالعين ، ومثلها كثير في الكلام .
والاختصام : افتعال من الخصومة ، وهي الجدل والاختلاف بالقول يقال : خاصمه واختصما ، وهو من الأفعال المقتضية جَانبين فلذلك لم يسمع منه فعل مجرد إلا إذا أريد منه معنى الغلب في الخصومة لأنه بذلك يصير فاعله واحداً . وتقدم قوله تعالى : { ولا تكن للخائنين خصيماً } في [ سورة النساء : 105 ] . واختصام فريقي المؤمنين وغيرهم معلوم عند السامعين قد ملأ الفضاءَ جلبتُه ، فالإخبار عن الفريقين بأنهما خصمان مسوق لغير إفادة الخبر بل تمهيداً للتفصيل في قوله { فالذين كفروا قطعت لهم ثياب من نار } .
فالمراد من هذه الآية ما يعمّ جميع المؤمنين وجميع مخالفيهم في الدّين .
ووقع في « الصحيحين » عن أبي ذرّ : أنه كان يُقسِم أنَّ هذه الآية { هذان خصمان اختصموا في ربهم } نزلت في حمزة وصاحبيه عليّ بن أبي طالب وعتبةَ بن الحارث الذين بارزوا يوم بدر شَيبة بن ربيعة ، وعتبة بن ربيعة ، والوليدَ بن عتبة .
وفي « صحيح البخاري » عن علي بن أبي طالب قال : أنا أول من يجثو بين يدي الرحمان للخصومة يوم القيامة . قال قيس بن عُبادة : وفيهم نزلت { هذان خصمان اختصموا في ربهم } . قال : هم الذين بارزوا يوم بدر : علي ، وحمزة ، وعبيدة ، وشيبة بن ربيعة ، وعتبة بن ربيعة ، والوليد بن عتبة . وليس في كلام عليّ أنّ الآية نزلت في يوم بدر ولكن ذلك مدرج من كلام قيس بن عُبادة ، وعليه فهذه الآية مدنيّة فتكون { هذان } إشارة إلى فريقين حاضرين في أذهان المخاطبين فنُزّل حضورُ قصتهما العجيبة في الأذهان منزلة المشاهدة حتى أعيد عليها اسم الإشارة الموضوع للمشاهد ، وهو استعمال في كلام البُلغاء ، ومنه قول الأحنف بن قيس : « خرجتُ لأنصر هذا الرجل » يريد عليّ بن أبي طالب في قصة صفّين .
والأظهر أن أبا ذر عنى بنزول الآية في هؤلاء أن أولئك النفر الستة هم أبرز مثال وأشهر فرد في هذا العموم ، فعبر بالنزول وهو يريد أنهم ممن يقصد من معنى الآية .
ومثل هذا كثير في كلام المتقدمين . والاختصام على الوجه الأول حقيقي وعلى الوجه الثاني أطلق الاختصام على المبارزة مجازاً مرسلاً لأن الاختصام في الدين هو سبب تلك المبارزة .
واسم الخصم يطلق على الواحد وعلى الجماعة إذا اتحدت خصومتهم كما في قوله تعالى : { وهل أتاك نبأ الخصم إذا تسوروا المحراب } [ ص : 21 ] فلمراعاة تثنية اللفظ أتي باسم الإشارة الموضوع للمثنى ولمراعاة العدد أتي بضمير الجماعة في قوله تعالى : { اختصموا في ربهم } .
ومعنى { في ربهم } في شأنه وصفاته ، فالكلام على حذف مضاف ظاهر . وقرأ الجمهور { هاذان } بتخفيف النون . وقرأه ابن كثير بتشديد النون وهما لغتان .
والتقطيع : مبالغة القطع ، وهو فصل بعض أجزاء شيء عن بقيته . والمراد : قطع شُقّة الثوب . وذلك أنّ الذي يريد اتخاذ قميص أو نحوه يقطع من شقة الثوب ما يكفي كما يريده ، فصيغت صيغة الشدة في القطع للإشارة إلى السرعة في إعداد ذلك لهم فيجعل لهم ثياب من نار . والثياب من النار ثياب محرقة للجلود وذلك من شؤون الآخرة .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{هذان خصمان اختصموا في ربهم} نزلت في المؤمنين وأهل الكتاب، ثم بين ما أعد للخصمين، فقال: {فالذين كفروا} يعني: اليهود والنصارى {قطعت لهم} يعني: جعلت لهم {ثياب من نار} يعني: قمصا...من نار، فيها تقديم {يصب من فوق رءوسهم الحميم}... الذي قد انتهى حره.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
اختلف أهل التأويل في المعنيّ بهذين الخصمين اللذين ذكرهما الله؛
فقال بعضهم: أحد الفريقين: أهل الإيمان، والفريق الآخر: عبدة الأوثان من مشركي قريش الذين تبارزوا يوم بدر... عن عطاء بن يسار، قال: نزلت هؤلاء الآيات:"هَذَان خَصْمان اخْتَصَمُوا فِي رَبّهِمْ" في الذين تبارزوا يوم بدر: حمزة وعلي وعبيدة بن الحارث، وعتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة والوليد بن عتبة. إلى قوله: "وَهُدُوا إلى صِرَاطِ الحَمِيدِ"...
وقال آخرون ممن قال أحد الفرقين فريق الإيمان: بل الفريق الآخر أهل الكتاب... عن ابن عباس، قوله: "هَذَانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبّهِمْ "قال: هم أهل الكتاب، قالوا للمؤمنين: نحن أولى بالله، وأقدم منكم كتابا، ونبينا قبل نبيكم. وقال المؤمنون: نحن أحقّ بالله، آمنا بمحمد صلى الله عليه وسلم، وآمنا بنبيكم وبما أنزل الله من كتاب، فأنتم تعرفون كتابنا ونبينا، ثم تركتموه وكفرتم به حسدا. وكان ذلك خصومتهم في ربهم...
وقال آخرون منهم: بل الفريق الآخر الكفار كلهم من أيّ ملة كانوا... قال ابن جُرَيج: خصومتهم التي اختصموا في ربهم، خصومتهم في الدنيا من أهل كل دين، يرون أنهم أولى بالله من غيرهم...
وأولى هذه الأقوال عندي بالصواب وأشبهها بتأويل الآية، قول من قال: عُني بالخصمين جميع الكفار من أيّ أصناف الكفر كانوا وجميع المؤمنين. وإنما قلت ذلك أولى بالصواب، لأنه تعالى ذكره ذكر قبل ذلك صنفين من خلقه: أحدهما أهل طاعة له بالسجود له، والآخر: أهل معصية له، قد حقّ عليه العذاب، فقال: "ألَمْ تَرَ أنّ اللّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأرْضِ والشّمْسُ والقَمَرُ" ثم قال: "وكَثِيرٌ مِنَ النّاسِ وكَثِيرٌ حَقّ عَلَيْهِ العَذَابُ"، ثم أتبع ذلك صفة الصنفين كليهما وما هو فاعل بهما، فقال: "فالذين كَفرُوا قُطّعتْ لهُمْ ثيابٌ منْ نارٍ" وقال الله: "إنّ اللّهَ يُدْخِلُ الّذِينَ آمَنُوا وَعمِلُوا الصّالِحاتِ جَنّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِها الأنهارُ" فكان بيّنا بذلك أن ما بين ذلك خبر عنهما...
فتأويل الكلام: هذان خصمان اختصموا في دين ربهم، واختصامهم في ذلك معاداة كل فريق منهما الفريق الاَخر ومحاربته إياه على دينه.
وقوله: "فالّذِينَ كَفَرُوا قُطّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ" يقول تعالى ذكره: فأما الكافر بالله منهما فإنه يقطع له قميص من نحاس من نار...
وقوله: يُصَبّ مِنْ فَوْقِ رؤسِهِمُ الحَمِيمُ يقول: يصبّ على رؤوسهم ماء مُغْلًي. كما حدثنا محمد بن المثنى، قال: حدثنا إبراهيم بن إسحاق الطَالقاني، قال: حدثنا ابن المبارك، عن سعيد بن زيد، عن أبي السّمْح، عن ابن حجيرة، عن أبي هريرة، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، قال: «إنّ الحَمِيمَ لَيُصَبّ عَلى رُؤُسِهِمْ، فَيَنْفُذُ الجُمْجَمَةَ حتى يَخْلُصَ إلى جَوْفِهِ، فَيَسْلُتَ ما فِي جَوْفِهِ حتى يَبْلُغَ قَدَمَيْهِ، وَهِيَ الصّهْرُ، ثُمّ يُعادُ كَما كانَ»...
وكان بعضهم يزعم أن قوله: "ولَهُمْ مَقامِعُ مِنْ حَدِيدٍ" من المؤخّر الذي معناه التقديم، ويقول: وجه الكلام: فالذين كفروا قطعت لهم ثياب من نار ولهم مقامع من حديد يصبّ من فوق رؤسهم الحميم ويقول: إنما وجب أن يكون ذلك كذلك، لأن الملك يضربه بالمقمع من الحديد حتى يثقب رأسه، ثم يصبّ فيه الحميم الذي انتهى حرّه فيقطع بطنه. والخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي ذكرنا، يدلّ على خلاف ما قال هذا القائل وذلك أنه صلى الله عليه وسلم أخبر أن الحميم إذا صبّ على رؤسهم نفذ الجمجمة حتى يخلص إلى أجوافهم، وبذلك جاء تأويل أهل التأويل، ولو كانت المقامع قد تثقب رؤوسهم قبل صبّ الحميم عليها، لم يكن لقوله صلى الله عليه وسلم: «إنّ الحَميمَ يَنْفُذُ الجُمْجُمَةَ» معنى ولكن الأمر في ذلك بخلاف ما قال هذا القائل.
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
{فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعْتَ لَهُمْ ثِيَابٌ مِّن نَّارٍ} معناه أن النار قد أحاطت بها كإحاطة الثياب المقطوعة إذا لبسوها عليهم، فصارت من هذا الوجه ثياباً، وضم الحميم إلى النار وإن كانت أشد منه لأنه ينضج لحومهم، والنار بإنفرادها تحرقها، فيختلف به العذاب فيتنوع، فيكون أبلغ في النكال.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
أما الذين كفروا فلهم اليومَ لباسُ الشرْكِ وطِرازُه الحرمان، ثم صدار الإفك وطرازه الخذلان. وفي الآخرة لباسهم القطران وطرازه الهجران، قال تعالى: {اخْسَئُوا فِيهَا وَلاَ تُكَلِّمُونِ} [المؤمنون: 108]. أمَّا أصحابُ الإيمانِ فلِباسُهم اليومَ التقوى، وتنقسم إلى اجتناب الشِّرْكِ ثم مجانبة المخالفة، ثم مباينة الغفلة، ثم مجانبة السكونِ إلى غير الله، والاستبشار إلى ما سوى الله، وفي الآخرة لِباسُهم فيها حريرٌ.
تفسير القرآن للسمعاني 489 هـ :
(اختصموا في ربهم) أي: جادلوا في ربهم.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
... والمعنى أن الإيمان وأهله والكفر وأهله خصمان مذ كانا إلى قيام الساعة بالعداواة والجدال والحرب،
{خصمان} يريد طائفتين لأن لفظة خصم هي مصدر يوصف به الجمع والواحد ويدل على أنه أراد الجمع قوله {اختصموا} وقوله {في ربهم} معناه في شأن ربهم وصفاته وتوحيده، ويحتمل أن يريد في رضاء ربهم وفي ذاته، ثم بين حكمي الفريقين؛ فتوعد تعالى الكفار بعذاب جهنم، و {قطعت} معناه جعلت لهم بتقدير، كما يفصل الثوب، وروي أنها من نحاس وقيل ليس شيء من الحجارة والفلز أحر منه إذا حمي...
قوله: {قطعت لهم ثياب من نار} والمراد بالثياب إحاطة النار بهم كقوله: {لهم من جهنم مهاد ومن فوقهم غواش}.عن أنس، وقال سعيد بن جبير من نحاس أذيب بالنار أخذا من قوله تعالى: {سرابيلهم من قطران}. وأخرج الكلام بلفظ الماضي كقوله تعالى: {ونفخ في الصور}، {وجاءت كل نفس معها سائق وشهيد} لأن ما كان من أمر الآخرة فهو كالواقع.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما قسم الناس إلى مخالف ومؤالف، أتبعه جزاءهم بما يرغب المؤالف ويرهب المخالف على وجه موجب للأمر بالمعروف الذي من جملته الجهاد لوجهه خالصاً فقال: {هذان} أي الساجد والجاحد من جميع الفرق {خصمان} لا يمكن منهما المسالمة الكاملة إذ كل منهما في طرف.
ولما أشار بالتثنية إلى كل فرقة منهم صارت -مع كثرتها وانتشارها باتحاد الكلمة في العقيدة- كالجسد الواحد، صرح بكثرتهم بالتعبير بالجمع فقال: {اختصموا} أي أوقعوا الخصومة بغاية الجهد، ولما كانت الفرق المذكورة كلها مثبتة وقد جحد أكثرهم النعمة، قال: {في ربهم} أي الذي هم بإحسانه إليهم معترفون، لم يختصموا بسبب غيره أصلاً ولما ذكر خصومتهم وشرطها، ذكر جزاءهم عليها في فصل الأمر الذي قدم ذكره، وبدأ بالترهيب لأن الإنسان إليه أحوج فقال: {فالذين كفروا} منابذين لأمر ربهم {قطعت} تقطيعاً لا يعلم كثرته إلا الله، بأيسر أمر ممن لا أمر لغيره {لهم} الآن وهيئت وإن وافقوا مراد ربهم بمخالفتهم أمره {ثياب من نار} تحيط بهم وهي على مقاديرهم سابغة عليهم كما كانوا يسبلون الثياب في الدنيا تعاظماً وتكبراً حال كونهم {يصب} إذا دخلوها {من فوق رؤوسهم الحميم}.
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
{هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ} كل يدعي أنه المحق. {فَالَّذِينَ كَفَرُوا} يشمل كل كافر، من اليهود، والنصارى، والمجوس، والصابئين، والمشركين. {قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ} أي: يجعل لهم ثياب من قطران، وتشعل فيها النار، ليعمهم العذاب من جميع جوانبهم.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
إنه مشهد عنيف صاخب، حافل بالحركة، مطول بالتخييل الذي يبعثه في النفس نسق التعبير. فلا يكاد الخيال ينتهي من تتبعه في تجدده.. هذه ثياب من النار تقطع وتفصل! وهذا حميم ساخن يصب من فوق الرؤوس، يصهر به ما في البطون والجلود عند صبه على الرؤوس! وهذه سياط من حديد أحمته النار.. وهذا هو العذاب يشتد، ويتجاوز الطاقة، فيهب (الذين كفروا) من الوهج والحميم والضرب الأليم يهمون بالخروج من هذا (الغم) وها هم أولاء يردون بعنف، ويسمعون التأنيب: (وذوقوا عذاب الحريق).. فأصل الموضوع أن هناك خصمين اختصموا في ربهم. فأما الذين كفروا به فقد كنا نشهد مصيرهم المفجع منذ لحظة! وأما الذين آمنوا فهم هنالك في الجنات تجري من تحتها الأنهار. وملابسهم لم تقطع من النار، إنما فصلت من الحرير. ولهم فوقها حلى من الذهب واللؤلؤ. وقد هداهم الله إلى الطيب من القول، وهداهم إلى صراط الحميد. فلا مشقة حتى في القول أو في الطريق.. والهداية إلى الطيب من القول، والهداية إلى صراط الحميد نعمة تذكر في مشهد النعيم. نعمة الطمأنينة واليسر والتوفيق. وتلك عاقبة الخصام في الله. فهذا فريق وذلك فريق.. فليتدبر تلك العاقبة من لا تكفيه الآيات البينات، ومن يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير..
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
مقتضى سياق السورة واتصال آي السورة وتتابعها في النزول أن تكون هذه الآيات متصلة النزول بالآيات التي قبلها فيكون موقع جملة {هذان خصمان} موقع الاستئناف البياني. لأن قوله {وكثير حق عليه العذاب} [الحج: 18] يثير سؤال من يسأل عن بعض تفصيل صفة العذاب الذي حقّ على كثير من الناس الذين لم يسجدوا لله تعالى، فجاءت هذه الجملة لتفصيل ذلك، فهي استئناف بياني. فاسم الإشارة المثنى مشير إلى ما يفيده قوله تعالى: {وكثير من الناس وكثير حق عليه العذاب} [الحج: 18] من انقسام المذكورين إلى فريقين أهل توحيد وأهل شرك كما يقتضيه قوله: {وكثير من الناس وكثير حق عليه العذاب} [الحج: 18] من كون أولئك فريقين: فريق يسجد لله تعالى، وفريق يسجد لغيره. فالإشارة إلى ما يستفاد من الكلام بتنزيله منزلة ما يشاهد بالعين، ومثلها كثير في الكلام.
والاختصام: افتعال من الخصومة، وهي الجدل والاختلاف... واختصام فريقي المؤمنين وغيرهم معلوم عند السامعين قد ملأ الفضاءَ جلبتُه، فالإخبار عن الفريقين بأنهما خصمان مسوق لغير إفادة الخبر بل تمهيداً للتفصيل في قوله {فالذين كفروا قطعت لهم ثياب من نار}.
فالمراد من هذه الآية ما يعمّ جميع المؤمنين وجميع مخالفيهم في الدّين.
ووقع في « الصحيحين» عن أبي ذرّ: أنه كان يُقسِم أنَّ هذه الآية {هذان خصمان اختصموا في ربهم} نزلت في حمزة وصاحبيه عليّ بن أبي طالب وعتبةَ بن الحارث الذين بارزوا يوم بدر شَيبة بن ربيعة، وعتبة بن ربيعة، والوليدَ بن عتبة.
وفي « صحيح البخاري» عن علي بن أبي طالب قال: أنا أول من يجثو بين يدي الرحمان للخصومة يوم القيامة. قال قيس بن عُبادة: وفيهم نزلت {هذان خصمان اختصموا في ربهم}. قال: هم الذين بارزوا يوم بدر: علي، وحمزة، وعبيدة، وشيبة بن ربيعة، وعتبة بن ربيعة، والوليد بن عتبة. وليس في كلام عليّ أنّ الآية نزلت في يوم بدر ولكن ذلك مدرج من كلام قيس بن عُبادة، وعليه فهذه الآية مدنيّة فتكون {هذان} إشارة إلى فريقين حاضرين في أذهان المخاطبين فنُزّل حضورُ قصتهما العجيبة في الأذهان منزلة المشاهدة حتى أعيد عليها اسم الإشارة الموضوع للمشاهد، وهو استعمال في كلام البُلغاء...
والأظهر أن أبا ذر عنى بنزول الآية في هؤلاء أن أولئك النفر الستة هم أبرز مثال وأشهر فرد في هذا العموم، فعبر بالنزول وهو يريد أنهم ممن يقصد من معنى الآية.
ومثل هذا كثير في كلام المتقدمين. والاختصام على الوجه الأول حقيقي وعلى الوجه الثاني أطلق الاختصام على المبارزة مجازاً مرسلاً لأن الاختصام في الدين هو سبب تلك المبارزة...
ومعنى {في ربهم} في شأنه وصفاته، فالكلام على حذف مضاف ظاهر...
والتقطيع: مبالغة القطع، وهو فصل بعض أجزاء شيء عن بقيته. والمراد: قطع شُقّة الثوب، وذلك أنّ الذي يريد اتخاذ قميص أو نحوه يقطع من شقة الثوب ما يكفي كما يريده، فصيغت صيغة الشدة في القطع للإشارة إلى السرعة في إعداد ذلك لهم فيجعل لهم ثياب من نار. والثياب من النار ثياب محرقة للجلود وذلك من شؤون الآخرة.
التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :
وها هو كتاب الله يشير في بداية هذا الربع إلى ما يجري عادة في كل جيل من الخصومة والنزاع، والمواجهة والصراع، بين أنصار الحق وأتباع الباطل، إذ من المتعذر أن يقع بين هذين الفريقين ائتلاف والتقاء، ما دام الأولون يعملون جادين لنيل الفوز والسعادة، والآخرون يشقون طريقهم مسرعين نحو الخيبة والشقاء {هذان خصمان اختصموا في ربهم}، لا سيما والخصومة بينهم خصومة في الله، لا تنتهي بالصلح والتراضي إلا إذا تحقق رضا الله.
وبعدما وضع كتاب الله أمام الأنظار قصة الفريقين المتخاصمين على وجه الإجمال أوضح المصير الذي يؤول إليه كل فريق بعد الفصل بينهما في الدار الآخرة، فقال تعالى في شأن الكافرين الأشقياء: {فالذين كفروا قطعت لهم ثياب من نار يصب من فوق رؤوسهم الحميم، يصهر به ما في بطونهم والجلود، ولهم مقامع من حديد، كلما أرادوا أن يخرجوا منها من غم أعيدوا فيها، وذوقوا عذاب الحريق}
... والخصومة تحتاج إلى فصل بين المتخاصمين، والفصل يحتاج إلى شهود، لكن إن جاء الفصل من الله تعالى فلن يحتاج إلى شهود {وكفى بالله شهيدا (79)} [النساء] وإن جاء عليهم بشهود من أنفسهم، فإنما لإقامة الحجة ولتقريعهم فالإذاقة ليست في اللباس، إنما بشيء آخر، واللباس يعطي الإحاطة والشمول، لتعم الإذاقة كل أطراف البدن، وتحكم عليه مبالغة في العذاب.