اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{۞هَٰذَانِ خَصۡمَانِ ٱخۡتَصَمُواْ فِي رَبِّهِمۡۖ فَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ قُطِّعَتۡ لَهُمۡ ثِيَابٞ مِّن نَّارٖ يُصَبُّ مِن فَوۡقِ رُءُوسِهِمُ ٱلۡحَمِيمُ} (19)

قوله تعالى : { هذان خَصْمَانِ اختصموا فِي رَبِّهِمْ } الآية . لما بين أن الناس قسمان منهم من يسجد لله ، ومنهم من حق عليه العذاب ذكر هاهنا كيفية اختصامهم . والخصم : في الأصل مصدر ولذلك يوحد ويذكر غالباً ، وعليه قوله تعالى { نَبَأُ الخصم إِذْ تَسَوَّرُواْ{[30570]} } [ ص : 21 ] .

ويجوز أن يثنى ويجمع ويؤنث ، وعليه هذه الآية . ولما كان كل خصم فريقاً يجمع طائفة قال «اختصموا بصيغة الجمع كقوله : { وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ المؤمنين اقتتلوا{[30571]} } [ الحجرات : 9 ] فالجمع مراعاة للمعنى{[30572]} وقرأ ابن أبي عبلة «اختصما »{[30573]} مراعاة للفظ وهي مخالفة للسواد . وقال أبو البقاء : وأكثر الاستعمال توحيده فيمن ثناه{[30574]} وجمعه حمله على الصفات والأسماء . و «اخْتَصَمُوا » إنما جمع حملاً على المعنى لأن كل خصم{[30575]} تحته أشخاص{[30576]} .

وقال الزمخشري : الخَصْم صفة وصف بها الفوج أو الفريق ، فكأنه قيل : هذان فوجان أو فريقان يختصمان ، وقوله : «هَذَانِ » للفظ ، و «اختَصَمُوا » للمعنى ، كقوله : { وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حتى إِذَا خَرَجُواْ{[30577]} } [ محمد : 16 ] ، ولو قيل : هؤلاء خصمان أو{[30578]} اختصما جاز أن يراد المؤمنون والكافرون{[30579]} . قال شهاب الدين : إن عنى بقوله : أن{[30580]} خصماً صفة بطريق الاستعمال المجازي فمسلم ، لأن المصدر يكثر الوصف به ، وإن أراد أنه صفة حقيقية فخطأه ظاهر لتصريحهم بأن نحو رجل خَصْم مثل رجل عَدْل{[30581]} ، وقوله : «هذان » للفظ{[30582]} . أي : إنما أشير إليهم إشارة المثنى ، وإن كان في الحقيقة المراد الجمع باعتبار لفظ الفوجين والفريقين ونحوهما . وقوله : كقوله{[30583]} : { وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ } [ محمد : 16 ] إلى آخره فيه نظر ، لأن في تيك الآية تقدم شيء له لفظ ومعنى وهو «من » ، وهنا لم يتقدم شيء له لفظ ومعنى{[30584]} .

وقوله تعالى : { فِي رَبِّهِمْ } أي : في دين ربهم{[30585]} ، فلا بد من حذف مضاف أي جادلوا في دينه وأمره . وقرأ الكسائي في رواية عنه «خصمان » بكسر الخاء{[30586]} . واحتج من قال أقل الجمع اثنان بقوله{[30587]} : { هذان خَصْمَانِ اختصموا } . وأجيب بأن المعنى جمع كما تقدم {[30588]} .

فصل{[30589]}

اختلفوا في تفسير الخَصْمَيْن ، فقيل : المراد طائفة المؤمنين وجماعتهم ، وطائفة الكفار وجماعتهم ، وأن كل الكفار يدخلون في ذلك ، قال ابن عباس : رجع أهل الأديان الستة «في رَبِّهِم » أي في ذاته وصفاته . وقيل : إنّ أهل الكتاب قالوا : نحن أحق بالله ، وأقدم منكم كتاباً ، ونبينا قبل نبيكم . وقال المؤمنون : نحن أحق بالله آمنا بمحمد وآمنا بنبيكم وما أنزل الله من كتاب ، وأنتم تعرفون كتابنا ونبينا ثم تكتمونه ، وكفرتم به حسداً ، فهذه خصومتهم في ربهم . وقيل : هو ما روى قيس بن عباد{[30590]} عن أبي ذر الغفاري{[30591]} أنه كان يحلف بالله أن هذه الآية نزلت في ستة نفر من قريش تبارزوا يوم بدر : حمزة وعلي وعبيدة بن الحارث ، وعتبة وشيبة ابني ربيعة والوليد بن المغيرة . وقال علي - رضي الله عنه - أنا أول من يجثو{[30592]} للخصومة بين يدي الله{[30593]} . وقال عكرمة : هما الجنة والنار . قالت النار : خلقني الله لعقوبته ، وقالت الجنة : خلقني الله لرحمته ، فقص الله على محمد خبرهما . والأقرب هو الأول ؛ لأن السبب وإن كان خاصاً فالواجب حمل الكلام على ظاهره .

وقوله : «هَذَانِ »{[30594]} كالإشارة إلى ما تقدم ذكره ، وهم الأديان الستة المذكورون في قوله : { إِنَّ الذين آمَنُواْ والذين هَادُواْ والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا إِنَّ الله يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ القيامة }{[30595]} [ الحج : 17 ] .

وأيضاً ذكر صنفين أهل طاعته وأهل معصيته ممن حق عليه العذاب ، فوجب رجوع ذلك إليهما ، فمن خص به مشركي العرب واليهود من حيث قالوا في نبيهم وكتابهم{[30596]} ما حكينا فقد أخطأ ، وهذا هو الذي يدل على أن قوله : { إِنَّ الله يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ }{[30597]} [ الحج : 17 ] أراد به الحكم ، لأن ذلك التخاصم يقتضي أن الواقع بعده حكماً{[30598]} . فبين تعالى حكمه في الكفار ، وذكر من أحوالهم ثلاثة أمور :

أحدها : قوله : { فالذين كَفَرُواْ قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِّن نَّارِ } ، وهذه الجملة تفصيل{[30599]} وبيان لفصل الخصومة المعني{[30600]} بقوله تعالى : { إِنَّ الله يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ }{[30601]} [ الحج : 17 ] قاله الزمخشري {[30602]} .

وعلى هذا فيكون «هَذَانِ خَصْمَانِ » معترضاً ، والجملة من «اخْتَصَمُوا » حالية وليست مؤكدة لأنها أخص من مطلق الخصومة المفهومة من «خَصْمَان » وقرأ الزعفراني في اختياره «قُطِعَتْ » مخفف الطاء{[30603]} ، والقراءة المشهورة تفيد التكثير وهذه تحتمله . والمراد بالثياب إحاطة النار بهم كقوله { لَهُمْ مِّن جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ{[30604]} }{[30605]} [ الأعراف : 41 ] ، وقال سعيد بن جبير : ثياب من نحاس مذاب{[30606]} . وقال بعضهم : يلبس أهل النار مقطعات من النار .

قوله : «يُصَبُّ » هذه الجملة تحتمل أن تكون خبراً ثانياً للموصول ، وأن تكون حالاً من الضمير في «لَهُمْ » ، وأن تكون مستأنفة{[30607]} . والحميم الماء الحار الذي انتهت حرارته ، قال ابن عباس : لو قطرت منه قطرة على جبال الدنيا لأذابتها {[30608]} .


[30570]:في ب: تور. وهو تحريف. من قوله تعالى: {وهل أتاك نبؤا الخصم إذ تسوروا المحراب} [ص 21].
[30571]:[الحجرات: 9].
[30572]:انظر البحر المحيط 6/360.
[30573]:المرجع السابق.
[30574]:في ب: ثنى. وهو تحريف.
[30575]:في الأصل: شخص. وهو تحريف.
[30576]:التبيان 2/937.
[30577]:[محمد: 16].
[30578]:في ب: و.
[30579]:الكشاف 3/29.
[30580]:أن: سقط من ب.
[30581]:في ب: عد. وهو تحريف.
[30582]:في ب: اللفظ. وهو تحريف.
[30583]:في النسختين: كقولهم. والصواب ما أثبته.
[30584]:الدر المصون: 5/68.
[30585]:انظر الكشاف 3/29، والبحر المحيط 6/360.
[30586]:المختصر (94) البحر المحيط 6/360.
[30587]:بقوله: سقط من ب.
[30588]:انظر الفخر الرازي 23/22.
[30589]:هذا الفصل نقله ابن عادل عن الفخر الرازي 23/22.
[30590]:هو قيس بن عباد، القيسي الضبعي أو عبد الله البصري، مخضرم، عن عمر وعلي وعمار، وعنه ابنه عبد الله، والحسن البصري وابن سيرين. مات سنة 80 هـ. خلاصة تذهيب تهذيب الكمال 2/357.
[30591]:هو جندب بن جنادة، أبو ذر الغفاري، أحد النجباء، عنه ابن عباس، وأنس والأحنف وأبو عثمان النهدي وغيرهم. مات سنة 32 هـ. خلاصة تذهيب تهذيب الكمال 3/315.
[30592]:جثا يجثو ويجثي جثوا وجثيا، على فعول فيهما: جلس على ركبتيه للخصومة ونحوها، اللسان (جثا).
[30593]:أخرجه البخاري "تفسير" 3/161، وانظر الدر المنثور 4/348.
[30594]:من هنا نقله ابن عادل عن الفخر الرازي 23/23.
[30595]:[الحج: 17].
[30596]:في ب: وكتابنا. وهو تحريف.
[30597]:[الحج: 17].
[30598]:آخر ما نقله هنا عن الفخر الرازي 23/23.
[30599]:في ب: تفصل. وهو تحريف.
[30600]:في ب: لمعنى. وهو تحريف.
[30601]:[الحج: 17].
[30602]:الكشاف 3/29.
[30603]:البحر المحيط 6/360.
[30604]:[الأعراف: 41].
[30605]:انظر الفخر الرازي 23/23.
[30606]:انظر البحر المحيط 6/360.
[30607]:هذه الأوجه الثلاثة ذكرها أبو البقاء. التبيان 2/937.
[30608]:انظر الفخر الرازي 23/23 البحر المحيط 6/360.