القول في تأويل قوله تعالى : { هََذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُواْ فِي رَبّهِمْ فَالّذِينَ كَفَرُواْ قُطّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مّن نّارِ يُصَبّ مِن فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ * يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ * وَلَهُمْ مّقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ * كُلّمَآ أَرَادُوَاْ أَن يَخْرُجُواْ مِنْهَا مِنْ غَمّ أُعِيدُواْ فِيهَا وَذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ } .
اختلف أهل التأويل في المعنيّ بهذين الخصمين اللذين ذكرهما الله ، فقال بعضهم : أحد الفريقين : أهل الإيمان ، والفريق الاَخر : عبدة الأوثان من مشركي قريش الذين تبارزوا يوم بدر . ذكر من قال ذلك :
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا أبو هاشم عن أبي مجاز ، عن قيس بن عبادة قال : سمعت أبا ذرّ يُقْسم قَسَما أن هذه الاَية : هَذَان خَصْمان اخْتَصَمُوا فِي رَبّهِمْ نزلت في الذين بارزوا يوم بدر : حمزة وعليّ وعبيدة بن الحارث ، وعتبة وشيبة ابني ربيعة والوليد بن عتبة . قال : وقال عليّ : إني لأوّل أو من أوّل من يجثو للخصومة يوم القيامة بين يدي الله تبارك وتعالى .
حدثنا عليّ بن سهل ، قال : حدثنا مؤمل ، قال : حدثنا سفيان ، عن أبي هاشم ، عن أبي مجاز ، عن قيس بن عباد ، قال : سمعت أبا ذرّ يقسم بالله قسما لنزلت هذه الاَية في ستة من قريش : حمزة بن عبد المطلب وعليّ بن أبي طالب وعبيدة بن الحارث رضي الله عنهم ، وعتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة والوليد بن عتبة هَذَان خَصْمان اخْتَصَمُوا في رَبّهِمْ . . . إلى آخر الاَية : إنّ اللّهَ يُدْخِلُ الّذِينَ آمَنُوا وَعملُوا الصّالحاتِ . . . إلى آخر الاَية .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن أبي هاشم ، عن أبي مجاز ، عن قيس بن عباد ، قال : سمعت أبا ذرّ يقسم ، ثم ذكر نحوه .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا محمد بن محبب ، قال : حدثنا سفيان ، عن منصور بن المعتمر ، عن هلال بن يساف ، قال : نزلت هذه الاَية في الذين تبارزوا يوم بدر : هَذَانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبّهِمْ .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة بن الفضل ، قال : ثني محمد بن إسحاق ، عن بعض أصحابه ، عن عطاء بن يسار ، قال : نزلت هؤلاء الاَيات : هَذَان خَصْمان اخْتَصَمُوا فِي رَبّهِمْ في الذين تبارزوا يوم بدر : حمزة وعلي وعبيدة بن الحارث ، وعتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة والوليد بن عتبة . إلى قوله : وَهُدُوا إلى صِرَاطِ الحَمِيدِ .
قال : حدثنا جرير ، عن منصور ، عن أبي هاشم ، عن أبي مُجَلّز ، عن قيس بن عباد ، قال : والله لأُنزلت هذه الاَية : هَذَانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبّهِمْ في الذين خرج بعضهم إلى بعض يوم بدر : حمزة وعليّ وعُبيدة رحمة الله عليهم ، وشيبة وعتبة والوليد بن عتبة .
وقال آخرون ممن قال أحد الفرقين فريق الإيمان : بل الفريق الاَخر أهل الكتاب . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : هَذَانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبّهِمْ قال : هم أهل الكتاب ، قالوا للمؤمنين : نحن أولى بالله ، وأقدم منكم كتابا ، ونبينا قبل نبيكم . وقال المؤمنون : نحن أحقّ بالله ، آمنا بمحمد صلى الله عليه وسلم ، وآمنا بنبيكم وبما أنزل الله من كتاب ، فأنتم تعرفون كتابنا ونبينا ، ثم تركتموه وكفرتم به حسدا . وكان ذلك خصومتهم في ربهم .
وقال آخرون منهم : بل الفريق الاَخر الكفار كلهم من أيّ ملة كانوا . ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، قال : حدثنا أبو تُمَيلة ، عن أبي حمزة ، عن جابر ، عن مجاهد وعطاء بن أبي رَياح وأبي قَزَعة ، عن الحسين ، قال : هم الكافرون والمؤمنون اختصموا في ربهم .
قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد : مثل الكافر والمؤمن قال ابن جُرَيج : خصومتهم التي اختصموا في ربهم ، خصومتهم في الدنيا من أهل كل دين ، يرون أنهم أولى بالله من غيرهم .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا أبو بكر بن عياش ، قال : كان عاصم والكلبي يقولان جميعا في : هَذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبّهِمْ قال : أهل الشرك والإسلام حين اختصموا أيهم أفضل ، قال : جعل الشرك ملة .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى . وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : هَذَانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبّهِمْ قال : مثل المؤمن والكافر اختصامهما في البعث .
وقال آخرون : الخصمان اللذان ذكرهما الله في هذه الاَية : الجنة والنار . ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا أبو تميلة ، عن أبي حمزة ، عن جابر ، عن عكرِمة : هَذَانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبّهِمْ قال : هما الجنة والنار اختصمتا ، فقالت النار : خلقني الله لعقوبته وقالت الجنة : خلقني الله لرحمته فقد قصّ الله عليك من خبرهما ما تسمع .
وأولى هذه الأقوال عندي بالصواب وأشبهها بتأويل الاَية ، قول من قال : عُني بالخصمين جميع الكفار من أيّ أصناف الكفر كانوا وجميع المؤمنين . وإنما قلت ذلك أولى بالصواب ، لأنه تعالى ذكره ذكر قبل ذلك صنفين من خلقه : أحدهما أهل طاعة له بالسجود له ، والاَخر : أهل معصية له ، قد حقّ عليه العذاب ، فقال : ألَمْ تَرَ أنّ اللّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأرْضِ والشّمْسُ والقَمَرُ ثم قال : وكَثِيرٌ مِنَ النّاسِ وكَثِيرٌ حَقّ عَلَيْهِ العَذَابُ ، ثم أتبع ذلك صفة الصنفين كليهما وما هو فاعل بهما ، فقال : فالذين كَفرُوا قُطّعتْ لهُمْ ثيابٌ منْ نارٍ وقال الله : إنّ اللّهَ يُدْخِلُ الّذِينَ آمَنُوا وَعمِلُوا الصّالِحاتِ جَنّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِها الأنهارُ فكان بيّنا بذلك أن ما بين ذلك خبر عنهما .
فإن قال قائل : فما أنت قائل فيما رُوي عن أبي ذرّ في قوله : إنّ ذَلكَ نزل في الذين بارزوا يوم بدر ؟ قيل : ذلك إن شاء الله كما رُوي عنه ولكن الاَية قد تنزل بسبب من الأسباب ، ثم تكون عامة في كل ما كان نظير ذلك السبب . وهذه من تلك ، وذلك أن الذين تبارزوا إنما كان أحد الفريقين أهل شرك وكفر بالله ، والاَخر أهل إيمان بالله وطاعة له ، فكل كافر في حكم فريق الشرك منهما في أنه لأهل الإيمان خصم ، وكذلك كل مؤمن في حكم فريق الإيمان منهما في أنه لأهل الشرك خصم .
فتأويل الكلام : هذان خصمان اختصموا في دين ربهم ، واختصامهم في ذلك معاداة كل فريق منهما الفريق الاَخر ومحاربته إياه على دينه .
وقوله : فالّذِينَ كَفَرُوا قُطّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ يقول تعالى ذكره : فأما الكافر بالله منهما فإنه يقطع له قميص من نحاس من نار . كما :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد : فالّذِينَ كَفَرُوا قُطّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ قال : الكافر قطعت له ثياب من نار ، والمؤمن يدخله الله جنات تجري من تحتها الأنهار .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يعقوب ، عن جعفر ، عن سعيد ، في قوله : فالّذِينَ كَفَرُوا قُطّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ قال : ثياب من نحاس ، وليس شيء من الاَنية أحمى وأشد حرّا منه .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قال : الكفار قطعت لهم ثياب من نار ، والمؤمن يدخل جنات تجري من تحتها الأنهار .
وقوله : يُصَبّ مِنْ فَوْقِ رؤسِهِمُ الحَمِيمُ يقول : يصبّ على رؤسهم ماء مُغْلًي . كما :
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا إبراهيم بن إسحاق الطَالقاني ، قال : حدثنا ابن المبارك ، عن سعيد بن زيد ، عن أبي السّمْح ، عن ابن حجيرة ، عن أبي هريرة ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم ، قال : «إنّ الحَمِيمَ لَيُصَبّ عَلى رُؤُسِهِمْ ، فَيَنْفُذُ الجُمْجَمَةَ حتى يَخْلُصَ إلى جَوْفِهِ ، فَيَسْلُتَ ما فِي جَوْفِهِ حتى يَبْلُغَ قَدَمَيْهِ ، وَهِيَ الصّهْرُ ، ثُمّ يُعادُ كَما كانَ » .
حدثني محمد بن المثنى ، قال : حدثنا يعمر بن بشر ، قال : حدثنا ابن المبارك ، قال : أخبرنا سعيد بن زيد ، عن أبي السمح ، عن ابن حجيرة ، عن أبي هريرة ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم بمثله ، إلا أنه قال : «فَيَنْفُذُ الجُمْجُمَةَ حَى يَخْلُصَ إلى جَوْفِهِ فَيَسْلُتَ مَا في جَوْفِهِ » .
وكان بعضهم يزعم أن قوله : ولَهُمْ مَقامِعُ مِنْ حَدِيدٍ من المؤخّر الذي معناه التقديم ، ويقول : وجه الكلام : فالذين كفروا قطعت لهم ثياب من نار ولهم مقامع من حديد يصبّ من فوق رؤسهم الحميم ويقول : إنما وجب أن يكون ذلك كذلك ، لأن الملك يضربه بالمقمع من الحديد حتى يثقب رأسه ، ثم يصبّ فيه الحميم الذي انتهى حرّه فيقطع بطنه . والخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي ذكرنا ، يدلّ على خلاف ما قال هذا القائل وذلك أنه صلى الله عليه وسلم أخبر أن الحميم إذا صبّ على رؤسهم نفذ الجمجمة حتى يخلص إلى أجوافهم ، وبذلك جاء تأويل أهل التأويل ، ولو كانت المقامع قد تثقب رؤوسهم قبل صبّ الحميم عليها ، لم يكن لقوله صلى الله عليه وسلم : «إنّ الحَميمَ يَنْفُذُ الجُمْجُمَةَ » معنى ولكن الأمر في ذلك بخلاف ما قال هذا القائل .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.