فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{۞هَٰذَانِ خَصۡمَانِ ٱخۡتَصَمُواْ فِي رَبِّهِمۡۖ فَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ قُطِّعَتۡ لَهُمۡ ثِيَابٞ مِّن نَّارٖ يُصَبُّ مِن فَوۡقِ رُءُوسِهِمُ ٱلۡحَمِيمُ} (19)

{ هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِّن نَّارٍ يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُؤُوسِهِمُ الْحَمِيمُ ( 19 ) يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ ( 20 ) وَلَهُم مَّقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ ( 21 ) كُلَّمَا أَرَادُوا أَن يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ ( 22 ) إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ ( 23 ) وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيد ( 24 ) } .

وهذه السجدة من عزائم السجود ، فيسن للقارئ والمستمع أن يسجدا عند تلاوتها أو سماعها { هَذَانِ خَصْمَانِ } أحدهما أنجس الفرق اليهود والنصارى والصابئون والمجوس والذين أشركوا ، والخصم الآخر المسلمون فهما فريقان يختصمان قاله الفراء وغيره ، وقيل المراد بالخصمين الجنة والنار ، قالت الجنة خلقني لرحمته ، وقالت النار : خلقني لعقوبته وهو ضعيف ، وقيل المراد بالخصمين هم الذين برزوا يوم بدر فمن المؤمنين حمزة وعلي وعبيدة ، ومن الكافرين عتبة وشيبة ابنا ربيعة والوليد بن عتبة ، وقد كان أبو ذر يقسم أن هذه الآية نزلت في هؤلاء المتبارزين كما ثبت عنه في الصحيحين وغيرهما ، وقال بمثل هذا جماعة من الصحابة والتابعين وهم أعرف من غيرهم بأسباب النزول .

وقد ثبت في صحيح البخاري وغيره أيضا عن علي أنه قال : فينا نزلت هذه الآية ، وأنا أول من يجثو في الخصومة على ركبتيه بين يدي الله يوم القيامة : وقال سبحانه . { اخْتَصَمُوا } ولم يقل اختصما لأنهم جمع ، ولو قال اختصما لجاز ، قاله الفراء { فِي } شأن { رَبِّهِمْ } أي في دينه أو في ذاته أو في صفاته أو في شريعته لعباده أو في جميع ذلك .

قال أبو حيان : الظاهر أن الاختصام هو في الآخرة ، بدليل التقسيم بالفاء الدالة على التعقيب في قوله ، فالذين كفروا ، وإن قلنا هذا في الدنيا فالجواب أنه لما كان تحقيق مضمونه في ذلك اليوم صح جعل يوم القيامة ظرفا له بهذا الاعتبار ثم فصل سبحانه ما أجمله في قوله يفصل بينهم فقال :

{ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِّن نَّارٍ } أي قدرت لهم على قدر جثثهم لأن الثياب الجدد تقطع على مقدار بدن من يلبسها ، فالتقطيع مجاز عن التقدير بذكر المسبب وهو التقطيع وإرادة السبب وهو التقدير والتخمين ، والظاهر أنه بعد ذلك جعل تقطيعها استعارة تمثيلية تهكمية شبه إعداد النار وإحاطتها بهم بتفصيل ثياب لهم وجمع الثياب لأن النار لتراكمها عليهم كالثياب الملبوس بعضها فوق بعض وهذا أبلغ من جعلها من مقابلة الجمع بالجمع .

قال الأزهري : المعنى سويت وجعلت لبوسا لهم ، وإنما شبهت النار بالثياب لأنها مشتملة عليهم كاشتمال الثياب وعبر بالماضي عن المستقبل تنبيها على تحقق وقوعه .

وقيل إن هذه الثياب من نحاس قد أذيت فصار كالنار وهي السرابيل المذكورة في آية أخرى ، قاله سعيد بن جبير ، وزاد ليس من الآنية شيء إذا حمي أشد حرا منه ، وقيل المعنى في الآية أحاطت النار بهم ، والحق إجراء النظم القرآني على ظاهره ولا نرتضي تأويله بما يخالف لفظه ومعناه ، وقرئ قطعت بالتخفيف .

{ يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُؤُوسِهِمُ الْحَمِيمُ } هو الماء الحار المغلي بنار جهنم انتهت حرارته ، والجملة مستأنفة ، قال النحاس : يذاب على رؤوسهم