قوله تعالى : { وقال الذين لا يعلمون } . قال ابن عباس رضي الله عنهما : اليهود ، وقال مجاهد : النصارى ، وقال قتادة : مشركو العرب .
قوله تعالى : { يكلمنا الله } . عياناً بأنك رسوله وكل ما في القرآن لولا فهو بمعنى هلا ، إلا واحداً ، وهو قوله : ( فلولا أنه كان من المسبحين ) معناه فلو لم يكن .
قوله تعالى : { أو تأتينا آية } . دلالة وعلامة على صدقك .
قوله تعالى : { كذلك قال الذين من قبلهم } . أي كفار الأمم الخالية .
قوله تعالى : { مثل قولهم تشابهت قلوبهم } . أي أشبه بعضها بعضاً في الكفر والقسوة وطلب المحال .
{ وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آَيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ( 118 )
قوله تعالى : { وقال الذين لا يعلمون } الآية ، قال الربيع والسدي : هم كفار العرب }( {[1184]} ) .
قال القاضي أبو محمد : وقد طلب عبد الله بن أبي أمية وغيره من النبي صلى الله عليه نحو هذا ، فنفى عنهم العلم لأنهم لا كتاب عندهم ولا اتباع نبوة ، وقال مجاهد : هم النصارى( {[1185]} ) لأنهم المذكورون في الآية أولاً ، ورجحه الطبري ، وقال ابن عباس : المراد من كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من اليهود ، لأن رافع بن حريملة قال للنبي صلى الله عليه وسلم : أسمعنا كلام الله ، وقيل : الإشارة بقوله { لا يعلمون } إلى جميع هذه الطوائف ، لأن كلهم قال هذه المقالة أو نحوها ، ويكون { الذين من قبلهم } قوم نوح وعاد وثمود وغيرهم ، و { لولا } تحضيض بمعنى هلا( {[1186]} ) ، كما قال الأشهب بن رميلة : [ الطويل ]
تَعُدُّونَ عَقْرَ النِّيبِ أفضلَ مجدِكُمْ . . . بني ضَوْطَرى لولا الكميّ المقنعا( {[1187]} )
وليست هذه { لولا } التي تعطي منع الشيء لوجوب غيره ، وفرق بينهما أنها في التحضيض لا يليها إلا الفعل مظهراً أو مقدراً ، وعلى بابها في المنع للوجوب( {[1188]} ) يليها الابتداء ، وجرت العادة بحذف الخبر ، والآية هنا العلامة الدالة ، وقد تقدم القول في لفظها( {[1189]} ) ، و { الذين من قبلهم } اليهود والنصارى في قول من جعل { الذين لا يعلمون } كفار العرب ، وهم الأمم السالفة في قول من جعل { الذين لا يعلمون } كفار العرب والنصارى واليهود ، وهم اليهود في قول من جعل { الذين لا يعلمون } النصارى ، والكاف الأولى من { كذلك } نعت لمصدر مقدر ، و { مثل } نعت لمصدر محذوف ، ويصح أن يعمل فيه ، { قال } : وتشابه القلوب هنا في طلب ما لا يصح أو في الكفر وإن اختلفت ظواهرهم ، وقرأ ابن أبي إسحاق وأبو حيوة «تَشَّابهت » بشد الشين ، قال أبو عمرو الداني : وذلك غير جائز لأنه فعل ماض .
وقوله تعالى : { قد بينا الآيات لقوم يوقنون } لما تقدم ذكر الذين أضلهم الله حتى كفروا بالأنبياء وطلبوا ما لا يجوز لهم أتبع ذلك الذين بين لهم ما ينفع وتقوم به الحجة ، لكن البيان وقع وتحصل للموقنين ، فلذلك خصهم بالذكر ، ويحتمل أن يكون المعنى قد بينا البيان الذي هو خلق الهدى ، فكأن الكلام قد هدينا من هدينا ، واليقين إذا اتصف به العلم خصصه وبلغ به نهاية الوثاقة( {[1190]} ) ، وقوله تعالى { بينا } قرينة تقتضي أن اليقين صفة لعلمهم ، وقرينة أخرى ، وهي أن الكلام مدح لهم ، وأما اليقين في استعمال الفقهاء إذا لم يتصف به العلم فإنه أحط من العلم ، لأن العلم عندهم معرفة المعلوم على ما هو به واليقين معتقد يقع للموقن في حقه والشيء على خلاف معتقده ، ومثال ذلك تيقن المقلد ثبوت الصانع ، ومنه قول مالك - رحمه الله - في «الموطأ » في مسألة الحالف على الشيء يتيقنه الشيء في نفسه على غير ذلك . ( {[1191]} )
قال القاضي أبو محمد : وأما حقيقة الأمر فاليقين هو الأخص وهو ما علم على الوجه الذي لا يمكن أن يكون إلا عليه .
عطف على قوله : { وقالوا اتخذ الله ولداً } [ البقرة : 116 ] المعطوف على قوله : { وقالت اليهود ليست النصارى } [ البقرة : 113 ] . لمناسبة اشتراك المشركين واليهود والنصارى في الأقوال والعقائد الضالة إلا أنه قدم قول أهل الكتاب في الآية الماضية وهي { وقالت اليهود } لأنهم الذين ابتدأوا بذلك أيام مجادلتهم في تفاضل أديانهم ويومئذ لم يكن للمشركين ما يوجب الاشتغال بذلك إلى أن جاء الإسلام فقالوا مثل قول أهل الكتاب .
وجمع الكل في { وقالوا اتخذ الله ولداً } إلا أنه لم يكن فريق من الثلاثة فيه مقتبساً من الآخر بل جميعه ناشىء من الغلو في تقديس الموجودات الفاضلة ومنشؤه سوء الفهم في العقيدة سواء كانت مأخوذة من كتاب كما تقدم في منشأ قول أهل الكتابين { اتخذ الله ولداً } أم مأخوذة من أقوال قادتهم كما قالت العرب : الملائكة بنات الله .
وقدم قول المشركين هنا لأن هذا القول أعلق بالمشركين إذ هو جديد فيهم وفاشٍ بينهم ، فلما كانوا مخترعي هذا القول نسب إليهم ، ثم نظر بهم الذين من قبلهم وهم اليهود والنصارى ، إذ قالوا مثل ذلك لرسلهم .
و { لولا } هنا حرف تحضيض قصد منه التعجيز والاعتذار عن عدم الإصغاء للرسول استكباراً بأن عدوا أنفسهم أحرياء بالرسالة وسماع كلام الله تعالى وهذا مبالغة في الجهالة لا يقولها أهل الكتاب الذين أثبتوا الرسالة والحاجة إلى الرسل .
وقوله : { أو تأتينا آية } أرادوا مطلق آية فالتنكير للنوعية وحينئذ فهو مكابرة وجحود لما جاءهم من الآيات وحسبك بأعظمها وهو القرآن وهذا هو الظاهر من التنكير وقد سألوا آيات مقترحات { وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعاً } [ الإسراء : 90 ] الآيات وهم يحسبون أن الآيات هي عجائب الحوادث أو المخلوقات وما دروا أن الآية العلمية العقلية أوضح المعجزات لعمومها ودوامها وقد تحداهم الرسول بالقرآن فعجزوا عن معارضته وكفاهم بذلك آية لو كانوا أهل إنصاف .
وقوله : { كذلك قال الذين من قبلهم مثل قولهم } أي كمثل مقالتهم هذه قال الذين من قبلهم من الأمم مثل قولهم . والمراد بالذين من قبلهم اليهود والنصارى فقد قال اليهود لموسى : { لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة } [ البقرة : 55 ] وسأل النصارى عيسى { هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء } [ المائدة : 112 ] .
وفي هذا الكلام تسلية للنبيء صلى الله عليه وسلم بأن ما لقيه من قومه مثل ما لاقاه الرسل قبله ولذلك أردفت هذه الآية بقوله : { إنا أرسلناك بالحق } [ البقرة : 119 ] الآية . ثم يجوز أن تكون جملة { كذلك قال الذين من قبلهم مثل قولهم } واقعة موقع الجواب لمقالة الذين لا يعلمون وهو جواب إجمالي اقتصر فيه على تنظير حالهم بحال من قبلهم فيكون ذلك التنظير كناية عن الإعراض عن جواب مقالهم وأنه لا يستأهل أن يجاب لأنهم ليسوا بمرتبة من يكلمهم الله وليست أفهامهم بأهل لإدراك ما في نزول القرآن من أعظم آية وتكون جملة { تشابهت قلوبهم } تقريراً أي تشابهت عقولهم في الأفن وسوء النظر ، وتكون جملة { قد بينا الآيات لقوم يوقنون } تعليلاً للإعراض عن جوابهم بأنهم غير أهل للجواب لأن أهل الجواب هم القوم الذين يوقنون وقد بينت لهم آيات القرآن بما اشتملت عليه من الدلائل ، وأما هؤلاء فليسوا أهلاً للجواب لأنهم ليسوا بقوم يوقنون بل ديدنهم المكابرة .
ويجوز أن تكون جملة { كذلك قال } إلى آخرها معترضة بين جملة { وقال الذين لا يعلمون } وبين جملة { قد بيَّنَّا الآيات } وتجعل جملة { قد بينا الآيات } هي الجواب عن مقالتهم . والمعنى لقد أتتكم الآية وهي آيات القرآن ولكن لا يعقلها إلا الذين يوقنون أي دونكم فيكون على وزان قوله تعالى : { أو لم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم } [ العنكبوت : 51 ] . ووقع الإعراض عن جواب قولهم { لولا يكلمنا الله } لأنه بديهي البطلان كما قال تعالى : { وقال الذين لا يرجون لقاءنا لولا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا لقد استكبروا في أنفسهم وعتو عتواً كبيراً } [ الفرقان : 21 ] .
والقول في مرجع التشبيه والمماثلة من قوله { كذلك قال الذين من قبلهم مثل قولهم } على نحو القول في الآية الماضية { كذلك قال الذين لا يعلمون مثل قولهم } [ البقرة : 113 ] .
وقوله : { تشابهت قلوبهم } تقرير لمعنى { قال الذين من قبلهم مثل قولهم } ، أي كانت عقولهم متشابهة في الأفن وسوء النظر فلذا اتحدوا في المقالة . فالقلوب هنا بمعنى العقول كما هو المتعارف في اللغة العربية .
وقوله { تشابهت } صيغة من صيغ التشبيه وهي أقوى فيه من حروفه وأقرب بالتشبيه البليغ ، ومن محاسن ما جاء في ذلك قول الصابىء :
تشابه دمعي إذ جرى ومُدامتي *** فمِن مثل ما في الكأس عيني تسكُب
وفي هذه الآية جعلت اليهود والنصارى مماثلين للمشركين في هذه المقالة لأن المشركين أعرق فيها إذ هم أشركوا مع الله غيره فليس ادعاؤهم ولداً لله بأكثر من ادعائهم شركة الأصنام مع الله في الإلاهية فكان اليهود والنصارى ملحقين بهم لأن دعوى الابن لله طرأت عليهم ولم تكن من أصل ملتهم وبهذا الأسلوب تأتى الرجوع إلى بيان أحوال أهل الكتابين الخاصة بهم وذلك من رد العجز على الصدر .
وجيء بالفعل المضارع في { يوقنون } لدلالته على التجدد والاستمرار كناية عن كون الإيمان خُلقاً لهم فأما الذين دأبهم الإعراض عن النظر والمكابرة بعد ظهور الحق فإن الإعراض يحول دون حصول اليقين والمكابرة تحول عن الانتفاع به فكأنه لم يحصل فأصحاب هذين الخلقين ليسوا من الموقنين .
وتبيين الآيات هو ما جاء من القرآن المعجز للبشر الذي تحدى به جميعهم فلم يستطيعوا الإتيان بمثله كما تقدم ، وفي الحديث : " ما من الأنبياء نبيء إلا أوتي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر وإنما كان الذي أوتيت وحياً أوحى الله إليَّ فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة " فالمعنى قد بينا الآيات لقوم من شأنهم أن يوقنوا ولا يشككوا أنفسهم أو يعرضوا حتى يحول ذلك بينهم وبين الإيقان أو يكون المعنى قد بينا الآيات لقوم يظهرون اليقين ويعترفون بالحق لا لقوم مثلكم من المكابرين .