البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{وَقَالَ ٱلَّذِينَ لَا يَعۡلَمُونَ لَوۡلَا يُكَلِّمُنَا ٱللَّهُ أَوۡ تَأۡتِينَآ ءَايَةٞۗ كَذَٰلِكَ قَالَ ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِهِم مِّثۡلَ قَوۡلِهِمۡۘ تَشَٰبَهَتۡ قُلُوبُهُمۡۗ قَدۡ بَيَّنَّا ٱلۡأٓيَٰتِ لِقَوۡمٖ يُوقِنُونَ} (118)

لولا : حرف تحضيض ، وجاء ذلك في القرآن كثيراً ، وحكمها حكم هلا ، وتأتي أيضاً حرف امتناع لوجود ، وأحكامها بمعنييها مذكورة في كتب النحو ، ومنها أن التحضيضية لا يليها إلا الفعل ظاهراً أو مضمراً ، وتلك لا يليها إلا الاسم ، على خلاف في إعرابه .

{ وقال الذين لا يعلمون لولا يكلمنا الله أو تأتينا آية } : قال ابن عباس ، والحسن ، والربيع ، والسدي : نزلت في كفار العرب حين ، طلب عبد الله بن أمية وغيره ذلك .

وقال مجاهد : في النصارى ، ورجحه الطبري ، لأنهم المذكورون في الآية أولاً .

وقال ابن عباس أيضاً : اليهود الذين كانوا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم .

قال رافع بن خزيمة ، من اليهود : إن كنت رسولاً من عند الله ، فقل لله يكلمنا حتى نسمع كلامه ، فأنزل الله الآية .

وقال قتادة : مشركو مكة .

وقيل : الإشارة بقوله : { الذين لا يعلمون } إلى جميع هذه الطوائف ، لأنهم كلهم قالوا هذه المقالة ، واختلافهم في الموصول مبني على اختلافهم في السبب .

فإن كان الموصول الجهلة من العرب ، فنفى عنهم العلم ، لأنهم لم يكن لهم كتاب ، ولا هم أتباع نبوّة ، وإن كان الموصول اليهود والنصارى ، فنفى عنهم العلم ، لانتفاء ثمرته ، وهو الاتباع له والعمل بمقتضاه .

وحذف مفعول العلم هنا اقتصاراً ، لأن المقصود إنما هو نفي نسبة العلم إليهم ، لا نفي علمهم بشيء مخصوص ، فكأنه قيل : وقال الذين ليسوا ممن له سجية في العلم لفرط غباوته ، فهي مقالة صدرت ممن لا يتصف بتمييز ولا إدراك .

ومعمول القول ، الجملة التحضيضية وهي : { لولا يكلمنا الله } ؛ كما يكلم الملائكة ، وكما كلم موسى عليه السلام ، قالوا ذلك على طريقة الاستكبار والعتو ، { أو تأتينا آية } ، أي هلا يكون أحد هذين ، إما التكلم ، وإما إتيان آية ؟ قالوا ذلك جحوداً لأن يكون ما أتاهم آية واستهانة بها .

ولما حكى عنهم نسبة الولد إلى الله تعالى ، أعقب ذلك بمقالة أخرى لهم تدل على تعنتهم وجهلهم بما يجب لله تعالى من التعظيم وعدم الاقتراح على أنبيائه .

{ كذلك قال الذين من قبلهم مثل قولهم } : تقدم الكلام في إعراب كذلك ، وفي تبيين وقوع من قبلهم صلة للذين في قوله : { والذين من قبلكم لعلكم تتقون } والذين من قبلهم .

إن فسر الموصول في الذين لا يعلمون بكفار العرب ، أو مشركي مكة ، فالذين من قبلهم هم الأمم المكذبة من أسلافهم وغيرهم .

وإن فسر باليهود أو النصارى ، فالذين من قبلهم أسلافهم ، وانتصاب مثل قولهم على البدل من موضع الكاف .

ولا تدل المثلية على التماثل في نفس المقول ، يل يحتمل أن من قبلهم اقترحوا غير ذلك ، وأن المثلية وقعت في اقتراح ما لا يليق سؤاله ، وإن لم تكن نفس تلك المقالة ، إذ المثلية تصدق بهذا المعنى .

{ تشابهت قلوبهم } : الضمير عائد على { الذين لا يعلمون } ، { والذين من قبلهم } .

لما ذكر تماثل المقالات ، وهي صادرة عن الأهواء والقلوب ، ذكر تماثل قلوبهم في العمى والجهل ، كقوله تعالى : { أتواصوا به } قيل : تشابهت قلوبهم في الكفر .

وقيل : في القسوة .

وقيل : في التعنت والاقتراح .

وقيل : في المحال .

وقرأ ابن أبي إسحاق ، وأبو حيوة : تشابهت ، بتشديد الشين .

وقال أبو عمرو الداني : وذلك غير جائز ، لأنه فعل ماض ، يعني أن اجتماع التاءين المزيدتين لا يكون في الماضي ، إنما يكون في المضارع نحو : تتشابه ، وحينئذ يجوز فيه الإدغام .

أما الماضي فليس أصله تتشابه .

وقد مر نظير هذه القراءة في قوله : { إن البقر تشابه علينا } وخرجنا ذلك على تأويل لا يمكن هنا ، فيتطلب هنا تأويل لهذه القراءة .

{ قد بينا الآيات لقوم يوقنون } : أي أوضحنا الآيات ، فاقتراح آية مع تقدم مجيء آيات وإيضاحها ، إنما هو على سبيل التعنت .

هذا ، وهي آيات مبينات ، لا لبس فيها ، ولا شبهة ، لشدة إيضاحها .

لكن لا يظهر كونها آيات إلا لمن كان موقناً ، أما من كان في ارتياب ، أو شك ، أو تغافل ، أو جهل ، فلا ينفع فيه الآيات ، ولو كانت في غاية الوضوح .

ألا ترى إلى قولهم : { إنما سكِّرت أبصارنا بل نحن قوم مسحورون } وقول أبي جهل ، وقد سأل أهل البوادي الوافدين إلى مكة عن انشقاق القمر ، فأخبروه به ، فقال بعد ذلك : هذا سحر مستمر .

ولما ذكر أن اقتراح ما تقدم إنما هو من أهواء الذين لا يعلمون ، قال في آخرها : { لقوم يوقنون } .

والإيقان : وصف في العلم يبلغ به نهاية الوثاقة في العلم ، أي من كان موقناً ، فقد أوضحنا له الآيات ، فآمن بها ، ووضحت عنده ، وقامت به الحجة على غيره .

وفي جميع الآيات رد على من اقتراح آية ، إذ الآيات قد بينت ، فلم يكن آية واحدة ، فيمكن أن يدعي الالتباس فيها ، بل ذلك جمع آيات بينات ، لكن لا ينتفع بها إلا من كان من أهل العلم والتبصر واليقين .

/خ123