معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَٰبَ ءَامِنُواْ بِمَا نَزَّلۡنَا مُصَدِّقٗا لِّمَا مَعَكُم مِّن قَبۡلِ أَن نَّطۡمِسَ وُجُوهٗا فَنَرُدَّهَا عَلَىٰٓ أَدۡبَارِهَآ أَوۡ نَلۡعَنَهُمۡ كَمَا لَعَنَّآ أَصۡحَٰبَ ٱلسَّبۡتِۚ وَكَانَ أَمۡرُ ٱللَّهِ مَفۡعُولًا} (47)

قوله تعالى : { يا أيها الذين أوتوا الكتاب } . يخاطب اليهود .

قوله تعالى : { آمنوا بما نزلنا } يعني : القرآن .

قوله تعالى : { مصدقاً لما معكم } . يعني : التوراة ، ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم كلم أحبار اليهود ، عبد الله بن صوريا ، وكعب بن الأشرف فقال : يا معشر اليهود : " اتقوا الله وأسلموا ، والله إنكم لتعلمون أن الذي جئتكم به لحق " قالوا : ما نعرف ذلك ، وأصروا على الكفر فنزلت هذه الآية .

قوله تعالى : { من قبل أن نطمس وجوهاً } ، قال ابن عباس : نجعلها كخف البعير ، وقال قتادة والضحاك : نعميها ، والمراد بالوجه العين .

قوله تعالى : { فنردها على أدبارها } . أي : نطمس الوجوه ، فنردها على القفا ، وقيل : نجعل الوجوه منابت الشعر كوجوه القردة لأن منابت شعور الآدميين في أدبارهم دون وجوههم ، وقيل معناه : نمحو آثارها وما فيها من أنف ، وعين ، وفم ، وحاجب ، ونجعلها كالأقفاء . وقيل : نجعل عينيه على القفا فيمشي القهقري .

روي أن عبد الله بن سلام رضي الله عنه لما سمع هذه الآية جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يأتي أهله ، ويده على وجهه ، وأسلم ، قال : يا رسول الله ما كنت أرى أن أصل إليك حتى يتحول وجهي في قفاي ، وكذلك كعب الأحبار لما سمع هذه الآية أسلم في زمن عمر رضي الله عنه ، فقال : يا رب آمنت ، يا رب أسلمت ، مخافة أن يصيبه وعيد هذه الآية .

فإن قيل : قد أوعدهم بالطمس إن لم يؤمنوا ، ثم لم يؤمنوا ولم يفعل بهم ذلك ؟ قيل : هذا الوعيد باق ، ويكون طمس ومسخ في اليهودية قبل قيام الساعة ، وقيل : هذا كان وعيداً بشرط ، فلما أسلم عبد الله بن سلام وأصحابه دفع ذلك عن الباقين ، وقيل : أراد به القيامة ، وقال مجاهد : أراد بقوله : { نطمس وجوهاً } أي : نتركهم في الضلالة ، فيكون المراد طمس وجه القلب ، والرد عن بصائر الهدى على أدبارها في الكفر والضلالة . وأصل الطمس : المحو ، والإفساد ، والتحويل ، وقال ابن زيد : نمحو آثارهم من وجوههم ونواصيهم ، التي هم بها فنردها على أدبارها ، حتى يعودوا إلى حيث جاؤوا منه ، وهو الشام . وقال : قد مضى ذلك ، وتأوله في إجلاء بني النضير إلى أذرعات وأريحاء من الشام .

قوله تعالى : { أو نلعنهم كما لعنا أصحاب السبت } . فنجعلهم قردة وخنازير .

قوله تعالى : { وكان أمر الله مفعولاً } .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَٰبَ ءَامِنُواْ بِمَا نَزَّلۡنَا مُصَدِّقٗا لِّمَا مَعَكُم مِّن قَبۡلِ أَن نَّطۡمِسَ وُجُوهٗا فَنَرُدَّهَا عَلَىٰٓ أَدۡبَارِهَآ أَوۡ نَلۡعَنَهُمۡ كَمَا لَعَنَّآ أَصۡحَٰبَ ٱلسَّبۡتِۚ وَكَانَ أَمۡرُ ٱللَّهِ مَفۡعُولًا} (47)

هذا خطاب لليهود والنصارى ، و { لما معكم } معناه من شرع وملة ، لا لما كان معهم من مبدل ومغير ، و «الطامس » : الدائر المغير الأعلام ، كما قال ذو الرمة : [ البسيط ]

من كل نضّاخَةِ الذّفرى إذا عَرِقَتْ . . . عُرْضَتُها طامسُ الأعلامِ مجهولُ{[4093]}

ومن ذلك قيل للأعمى المسدودة عيناه : أعمى مطموس ، وقالت طائفة : «طمس الوجوه » هنا : أن تعفى أثر الحواس فيها ، وتزال الخلقة منه فيرجع كسائر الأعضاء في الخلو من أعضاء الحواس ، فيكون أرد على «الأدبار » في هذا الموضع بالمعنى ، أي خلوه من الحواس دبراً لكونه عامراً بها ، وقال ابن عباس وعطية العوفي : «طمس الوجوه » أن تزال العينان خاصة منها وترد العينان في القفا فيكون ذلك رداً على الدبر ويمشى القهقرى ، وحكى الطبري عن فرقة : أن طمس الوجوه أن تتغير أعلامها وتصير منابت للشعر ، فذلك هو الرد على الدبر ، ورد على هذا القول الطبري ، وقال مالك رحمه الله : كان أول إسلام كعب أنه مر برجل من الليل وهو يقرأ هذه الآية : { يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا مصدقاً لما معكم } فوضع كفيه على وجهه ورجع القهقرى إلى بيته ، فأسلم مكانه ، وقال : والله لقد خفت أن لا أبلغ بيتي حتى يطمس وجهي ، وقال مجاهد والحسن والسدي والضحاك : ذلك تجوز ، وإنما المراد به وجوه الهدى والرشد ، وطمسها حتم الإضلال والصد عنها والتصيير إلى الكفر ، وهو الرد على الأدبار ، وقال ابن زيد : الوجوه هي أوطانهم وسكناهم في بلادهم التي خرجوا إليها ، وطمسها : إخراجهم منها ، والرد على الأدبار : هو رجوعهم إلى الشام من حيث أتوا أولاً ، و { أصحاب السبت } : هم أهل أيلة الذين اعتدوا في السبت في الصيد ، حسبما تقدم ، وكانت لعنتهم أن مسخوا خنازير وقردة ، قاله قتادة والحسن والسدي : وأمر الله في هذا الموضع واحد الأمور ، دال على جنسها ، لا واحد الأوامر ، فهي عبارة عن المخلوقات كالعذاب واللعنة هنا ، أو ما اقتضاه كل موضع مما يختص به .


[4093]:- هذا البيت لكعب بن زهير من قصيدته المعروفة: "بانت سعاد" ونضاخة: كثيرة النضخ، وهو سيلان الشيء بدرجة أكثر من النضح، والذفرى من كل حيوان: العظم الشاخص خلف الأذن، وجمعه: ذفريات وذفارى، وهو أول ما يعرق من الحيوان عند الجري. والعرضة كما جاء في اللسان: "وفلانة عرضة للأزواج، أي: قوية على الزوج، وفلان عرضة للشر، أي: قوي عليه، قال كعب بن زهير: من كل نضاخة...إلخ البيت". ثم قال: "وكذلك الاثنان والجمع". وكأن المعنى أن هذه الناقعة قوية على هذا الطريق المجهول الذي طمست فيه الأعلام، وضاعت الآثار التي يهتدي بها المسافرون.