قوله تعالى : { قل } يا محمد لكفار مكة ، { أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق } ، عبر عن الخلق بالإنزال ، لأن ما في الأرض من خير ، فمما أنزل من السماء من رزق ، من زرع وضرع ، { فجعلتم منه حراما وحلالا } ، هو ما حرموا من الحرث ومن الأنعام كالبحيرة ، والسائبة ، والوصيلة ، والحام . قال الضحاك : هو قوله تعالى : { وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيباً } [ الإنعام-136 ] .
قوله تعالى : { قل آلله أذن لكم } ، في هذا التحريم والتحليل ، { أم } بل ، { على الله تفترون } ، وهو قولهم : والله أمرنا بها .
{ قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق } جعل الرزق منزلا لأنه مقدر في السماء محصل بأسباب منها ، وما في موضع النصب ب { أنزل } أو ب { أرأيتم } فإنه بمعنى أخبروني ، ولكم دل على أن المراد منه ما حل ولذلك وبخ على التبعيض فقال : { فجعلتم منه حراما وحلالا } مثل : { هذه أنعام وحرث حجر } [ وعند قوله تعالى ] { ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا ومحرم على أزواجنا } { قل ءآلله أذن لكم } في التحريم والتحليل فتقولون ذلك بحكمه . { أم على الله تفترون } في نسبة ذلك إليه ويجوز أن تكون المنفصلة متصلة ب { أرأيتم } وقل مكرر للتأكيد وأن يكون الاستفهام للإنكار ، و { أم } منقطعة ومعنى الهمزة فيها تقرير لافترائهم على الله .
استئناف أمر النبي صلى الله عليه وسلم بأن يقوله للمشركين . وافتتاحه ب { قل } لقصد توجه الأسماع إليه . ومناسبة وقوعه عقب ما تقدم أن الكلام المتقدم حكى تكذيبهم بالقرآن وادعاءهم أنه مفترى وأنه ليس بحق ، ثم إبطال أن يكون القرآن مفترى على الله لأنه اشتمل على تفصيل الشريعة وتصديق الكتب السالفة ، ولأنه أعجز مكذبيه عن معارضته . فلما استوفى ذلك بأوضح حجة ، وبانت لِقاصد الاهتداء المَحجة ، لا جرم دالت النوبة إلى إظهار خطل عقولهم واختلال تكذيبهم ، فإنه بعد أن كان تكذيباً بما لم يحيطوا بعلمه فقد ارتبكوا في دينهم بما يلزمهم منه مماثلة الحالة التي أنكروها ، فإنهم قد وضعوا ديناً فجعلوا بعض أرزاقهم حلالاً لهم وبعضها حراماً عليهم فإن كان ذلك حقاً بزعمهم فمن الذي أبلغهم تلك الشرائع عن الله ولماذا تقبلوها عمن شرعها لهم ولم يكذبوه وهم لا يستطيعون أن يلتزموا ذلك ، وإن كان ذلك من تلقاء أنفسهم فقد افتَروا على الله فلزمهم ما ألصقوه بالنبي صلى الله عليه وسلم فعلق بهم وبرأ الله منه رسوله ، فهذا الاستدلال من الطريق المسمى بالقلب في علم الجدل .
ثم إن اختيار الاستدلال عليهم بشيء من تشريعهم في خصوص أرزاقهم يزيد هذا الاستدلال مناسبة بآخر الكلام الذي قبله ليظهر ما فيه من حسن التخلص إليه وذلك أن آخر الكلام المتقدم جملة { هو خير مما يجمعون } [ يونس : 58 ] ، أي من أموالهم . وتلك الأموال هي التي رزقهم الله إياها فجعلوا منها حلالاً ومنها حراماً وكَفروا نعمة الله إذ حرموا على أنفسهم من طيبات ما أعطاهم ربهم ، وحسبهم بذلك شناعة بهم ملصقة ، وأبواباً من الخير في وجوههم مغلقة .
والاستفهام في { أرأيتم } و { ءَالله أذن لكم أم على الله تفترون } تقريري باعتبار إلزامهم بأحد الأمرين : إما أن يكون الله أذن لهم ، أو أن يكونوا مفترين على الله ، وقد شيب التقرير في ذلك بالإنكار على الوجهين .
والرؤية علمية ، و { ما أنزل الله لكم من رزق } هو المفعول الأول ل ( رأيتم ) ، وجملة { فجعلتم منه } الخ معطوفة على صلة الموصول بفاء التفريع ، أي الذي أنزل الله لكم فجعلتم منه . والاستفهام في { آلله أذن لكم أم على الله تفترون } مفعول ثان ل ( رأيتم ) ، ورابط الجملة بالمفعول محذوف ، تقديره : أذنكم بذلك ، دل عليه قوله : { فجعلتم منه حراماً وحلالاً } .
و { قل } الثاني تأكيد ل { قل } الأول معترض بين جملة الاستفهام الأولى وجملة الاستفهام الثانية لزيادة إشراف الأسماع عليه . وهي معادلة بهمزة الاستفهام لأنها بين الجملتين المعمولتين لفعل { أرأيتم } . وفعل الرؤية معلق عن العمل في المفعول الثاني ؛ لأن الأصح جواز التعليق عن المفعول الثاني . وزعم الرضي أن الرؤية بصرية . وقد بسطت القول في ذلك عند قوله :
{ أفرأيتم ما تمنون أأنتم تخلقونه } الآية في سورة [ الواقعة : 58 ، 59 ] .
و { أم } متصلة وهي معادلة لهمزة الاستفهام لأن الاستفهام عن أحد الأمرين .
والرزق : ما ينتفع به . وتقدم في قوله تعالى : { ومما رزقناهم ينفقون } في سورة [ البقرة : 3 ] وفي قوله : { أو مما رزقكم الله } في [ الأعراف : 50 ] .
وعبر عن إعطاء الرزق بالإنزال ؛ لأن معظم أموالهم كانت الثمار والأعناب والحبوب ، وكلها من آثار المطر الذي هو نازل من السحاب بتكوين الله ، فأسند إنزاله إلى الله بهذا الاعتبار ، ومعظم أموالهم الأنعام ، وحياتها من العشب والكلأ وهي من أثر المطر ، قال تعالى : { فلينظر الإنسان إلى طعامه أنا صببنا الماء صباً ثم شققنا الأرض شقاً فأنبتنا فيها حباً وعنباً وقضباً وزيتوناً ونخلاً وحدائق غلباً وفاكهة وأباً متاعاً لكم ولأنعامكم } [ عبس : 24 ، 32 ] . وقال : { وفي السماء رزقكم } [ الذاريات : 22 ] أي سبب رزقكم وهو المطر . وقد عُرف العرب بأنهم بنو ماء السماء . وهو على المجاز في كلمة ( بني ) لأن الابن يطلق مجازاً على الملازم للشيء . وقد عبر عن إعطاء الأنعام بالإنزال في قوله : { وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج } [ الزمر : 6 ] بهذا الاعتبار .
والمجعول حراماً هو ما حكى الله بعضه عنهم في قوله : { وقالوا هذه أنعام وحرث حِجر لا يطعمها إلا من نشاء بزعمهم وأنعام حُرمت ظهورها } وقوله : { وقالوا ما في بطون هذه الأنعام خالصةٌ لذكورنا ومُحرَّم على أزواجنا } في سورة [ الأنعام : 138 ، 139 ] .
ومحل الإنكار ابتداءً هو جعلهم بعض ما رزقهم الله حراماً عليهم . وأما عطف { حلالاً } على { حراماً } فهو إنكار بالتبع لأنهم لما عمدوا إلى بعض ما أحل الله لهم فجعلوه حراماً ومَيَّزوه من جملة الرزق فقد جعلوا الحلال أيضاً حلالاً ، أي بجعل جديد إذ قالوا هو حلال فجعلوا أنفسهم مهيمنين على أحكام الله إذ عمدوا إلى الحلال منها فقلبوه حراماً وأبقَوا بعض الحلال على الحل ، فلولا أنهم أبقوه على الحل لما بقي عندهم حلالاً ولتعطل الانتفاع به فلذلك أنكر عليهم جعل بعض الرزق حراماً وبعضه حلالاً ، وإلا فإنهم لم يجعلوا ما كان حراماً حلالاً إذ لم يكن تحريم في الجاهلية .
وقوله : { حلالاً } عطف على { حراماً } والتقدير : ومنه حلالاً ، لأن جميع ما رزقهم الله لا يعدو بينهم هذين القسمين ، وليس المعنى فجعلتم بعضه حراماً وحلالاً ، وبعضه ليس بحرام ولا حلال لأن ذلك لا يستقيم .
وتقديم اسم الجلالة وهو مسند إليه على خبره الفعلي في قوله : { آلله أذن لكم } لتقوية الحكم مع الاهتمام . وتقديم المجرور على عامله في قوله : { أم على الله تفترون } للاهتمام بهذا المتعلق تشنيعاً لتعليق الافتراء به . وأظهر اسم الجلالة لتهويل الافتراء عليه .
وحذف متعلق { أذن } لظهوره . والتقدير : آلله أذن لكم بذلك الجعل .
ابن عبد البر: ذكر ابن وهب وعتيق بن يعقوب أنهما سمعا مالكا يقول: لم يكن من أمر الناس ولا من مضى من سلفنا ولا أدركت أحدا أقتدي به يقول في شيء هذا حلال وهذا حرام، ما كانوا يجترئون على ذلك، وإنما كانوا يقولون: نكره هذا ونرى هذا حسنا ونتقي هذا ولا نرى هذا – وزاد عتيق بن يعقوب- ولا يقولون حلال ولا حرام، الحلال ما أحله الله ورسوله، والحرام ما حرمه الله ورسوله.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره لنبيه صلى الله عليه وسلم:"قُلْ" يا محمد لهؤلاء المشركين: "أرَأيْتُمْ "أيها الناس "ما أنْزَلَ الله لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ" يقول: ما خلق الله لكم من الرزق فخوّلكموه، وذلك ما تتغذّون به من الأطعمة، "فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَاما وَحَلالاً" يقول: فحللتم بعض ذلك لأنفسكم، وحرّمتم بعضه عليها وذلك كتحريمهم ما كانوا يحرّمونه من حروثهم التي كانوا يجعلونها لأوثانهم، كما وصفهم الله به فقال: "وَجَعَلُوا لِلّهِ مِمّا ذَرَأَ مِنَ الحَرْثِ والأنْعامِ نَصِيبا فَقالُوا هَذَا لِلّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكائِنا...". ومن الأنعام ما كانوا يحرّمونه بالتبحير والتسييب ونحو ذلك، مما قدمناه فيما مضى من كتابنا هذا. يقول الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل يا محمد: "آللّهُ أذِنَ لَكُمْ" بأن تحرّموا ما حرّمتم منه "أمْ على اللّهِ تَفْتَرونَ": أي تقولون الباطل وتكذبون؟...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
قوله تعالى: (قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ) يحتمل (مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ) إذ أضاف إنزاله إلى السماء، وإن كانت الأرزاق إنما تخرج من الأرض لما كانت أسبابها متعلقة بالسماء؛ بها يكون نضج الأنزال وينع الأعشاب وإصلاح الأشياء كلها؛ يعني أسباب الأرزاق من نحو المطر الذي به تنبت الأرض النبات، وبه تخرج جميع أنواع الخرج مما يكون فيه غذاء البشر والدواب، ومن نحو الشمس التي بها تنضج الأنزال، وبها تينع الأعناب وجميع الفواكه، ونحوه.
أضاف ذلك إلى السماء لما ذكرنا، وكذلك قوله (وفي السماء رزقكم وما توعدون) [الذاريات: 22] أي أسباب ذلك في السماء لا أن عين ذلك في السماء.
ويحتمل قوله: (ما أنزل لكم من رزق) أي ما خلق الله، وكذلك جميع ما يضاف إلى الله إنما يضاف إليه بحق الخلق؛ أي خلقه منزلا كقوله: (وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج) [الزمر: 6] ونحو ذلك أي خلق لكم من الأنعام ما ذكر، والله أعلم...
وقوله تعالى: (قُلْ أَاللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ) أي (آلله أذن لكم) في تحريم ما حرمتم وتحليل ما حللتم (أم على الله تفترون) وذلك أن هذه السورة نزلت في محاجة أهل مكة وهم لم يكونوا مؤمنين بالرسل والكتب. وإنما يوصل إلى معرفة المحرم والمحلل بالرسل والكتب والخبر عن الله، وهم لم يكونوا مؤمنين بواحد مما ذكرنا، فكيف جعلتم منه حراما وحلالا وأنتم لا تؤمنون بما به يعرف الحلال والحرام؟ فكيف حرمتم ما أحل لكم أو أحللتم ما حرم عليكم، يخبر عن سفههم وعنادهم وافترائهم على الله فإذا اجترأوا أن يفتروا على الله فهم على غيره أجرأ، والله أعلم.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
" آلله أذن لكم أم على الله تفترون؟ "معناه أنه لم يأذن لكم في شيء من ذلك بل أنتم تكذبون في ذلك على الله، والرزق منسوب كله إلى الله لأنه لا سبيل للعبد إليه إلا بإطلاقه بفعله له أو إذنه فيه إما عقلا أو سمعا. ولا يكون الشيء رزقا بمجرد التمكين لأنه لو كان كذلك لكان الحرام رزقا، لأن الله مكن فيه. قال الرماني: التحريم عقد بمعنى النهي عن الفعل. والتحليل حل معنى النهي بالإذن.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
يعَنِّفُهم ويُقَرِّعهُم على ما ابتدعوه من التحليل والتحريم، ويُظْهِر كذبهم فيما تقوَّلُوه من نسبتهم ذلك إلى إذن وشرع.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{أَرَأَيْتُمْ} أخبروني... {فَجَعَلْتُمْ مّنْهُ حَرَامًا وَحَلاَلاً} أي أنزله الله رزقاً حلالاً كله فبعضتموه وقلتم: هذا حلال وهذا حرام، كقولهم: {هذه أنعام وَحَرْثٌ حِجْرٌ}، {مَا فِي بُطُونِ هذه الانعام خَالِصَةٌ لِّذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ على أزواجنا}. {الله أَذِنَ لَكُمْ} متعلق بأرأيتم. و"قل": تكرير للتوكيد. والمعنى: أخبروني آلله أذن لكم في التحليل والتحريم فأنتم تفعلون ذلك بإذنه، أم تتكذبون على الله في نسبة ذلك إليه. ويجوز أن تكون الهمزة للإنكار، وأم منقطعة بمعنى: بل أتفترون على الله، تقريراً للافتراء.
وكفى بهذه الآية زاجرة زجراً بليغاً عن التجوز فيما يسئل عنه من الأحكام. وباعثة على وجوب الاحتياط فيه، وأن لا يقول أحد في شيء جائز أو غير جائز إلاّ بعد إيقان وإتقان، ومن لم يوقن فليتق الله وليصمت، وإلاّ فهو مفتر على الله.
أحكام القرآن لابن العربي 543 هـ :
وَهِيَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ التَّحْرِيمَ وَالتَّحْلِيلَ لَا يَكُونَانِ عَقْلًا وَلَا تَشَهِّيًا؛ وَإِنَّمَا الْمُحَرِّمُ وَالْمُحَلِّلُ هُوَ اللَّهُ حَسْبَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْآيَةِ.
المسألة الأولى: اعلم أن الناس ذكروا في تعلق هذه الآية بما قبلها وجوها، ولا أستحسن واحدا منها. والذي يخطر بالبال والعلم عند الله تعالى وجهان: الأول: أن المقصود من هذا الكلام ذكر طريق ثالث في إثبات النبوة. وتقريره أنه عليه الصلاة والسلام قال للقوم: « إنكم تحكمون بحل بعض الأشياء وحرمة بعضها فهذا الحكم تقولونه على سبيل الافتراء على الله تعالى، أو تعلمون أنه حكْم حكَم الله به» والأول طريق باطل بالاتفاق، فلم يبق إلا الثاني، ثم من المعلوم أنه تعالى ما خاطبكم به من غير واسطة، ولما بطل هذا، ثبت أن هذه الأحكام إنما وصلت إليكم بقول رسول أرسله الله إليكم ونبي بعثه الله إليكم، وحاصل الكلام أن حكمهم بحل بعض الأشياء وحرمة بعضها مع اشتراك الكل في الصفات المحسوسة والمنافع المحسوسة، يدل على اعترافكم بصحة النبوة والرسالة وإذا كان الأمر كذلك، فكيف يمكنكم أن تبالغوا هذه المبالغات العظيمة في إنكار النبوة والرسالة وحمل الآية على هذا الوجه الذي ذكرته طريق حسن معقول.
الطريق الثاني: في حسن تعلق هذه الآية بما قبلها هو أنه عليه الصلاة والسلام، لما ذكر الدلائل الكثيرة على صحة نبوة نفسه. وبين فساد سؤالاتهم وشبهاتهم في إنكارها، أتبع ذلك ببيان فساد طريقتهم في شرائعهم وأحكامهم وبين أن التمييز بين هذه الأشياء بالحل والحرمة، مع أنه لم يشهد بذلك لا عقل ولا نقل طريق باطل ومنهج فاسد، والمقصود إبطال مذاهب القوم في أديانهم وفي أحكامهم، وأنهم ليسوا على شيء في باب من الأبواب...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما وصف القرآن العظيم بالشفاء وما معه المقتضي لاستقامة المناهج وسداد الشرائع ووضوح المذاهب، وأشار إلى أن العاقل ينبغي له أن يخصه بالفرح لبقاء آثاره وما يدعو إليه وزهده فيما يجمعون لفنائه ولأنه يدعو إلى رذائل الأخلاق فيحط من أوج المعالي، أشار إلى أنهم كما خبطوا في الفرح فخصوه بما يفني معرضين عما يبقى فكذلك خبطوا في طريق الجمع فوعدوها على أنفسهم بأن حرموا بعض ما أحله، فمنعوا أنفسهم ما هم به فرحون دون أمر من الله تعالى فنقصوا بذلك حظهم في الدنيا بهذا المنع وفي الآخرة بكذبهم على ربهم في تحريمه حيث جعلوه شرعاً مرضياً وهو في غاية الفساد والبعد عن الصواب والقصور عن مراقي السداد فقال تعالى: {قل} أي لهؤلاء الذين يستهزئون بك استهزاء قاضياً عليهم بأنهم لا عقول لهم مستهزئاً بهم وموبخاً لهم توبيخاً هو في أحكم مواضعه، وساقه على طريق السؤال بحيث إنهم لا يقدرون على الجواب أصلاً بغير الإقرار بالافتراء فقال: {أرءيتم} أي أخبروني، وعبر عن الخلق بالإنزال تنبيهاً على أنه شيء لا يمكن ادعاءه لأصنامهم لنزول أسبابه من موضع لا تعلق لهم به بوجه فقال: {ما أنزل الله} أي الذي له صفات الكمال التي منها الغنى المطلق {لكم} أي خاصاً بكم {من رزق} أي أيّ رزق كان {فجعلتم منه} أي ذلك الرزق الذي خصكم به} حراماً وحلالاً {على النحو الذي تقدم في الأنعام وغيرها قصته وبيان فساده على أنه جلي الفساد ظاهر العوج؛ ثم ابتدأ أمراً آخر تأكيداً للإنكار عليهم فقال: {قل} أي من أذن لكم في ذلك؟ {الله} أي الملك الأعلى {أذن لكم} فتوضحوا المستند به {أم} لم يأذن لكم فيه مع نسبتكم إياه إليه لأنكم فصلتموه إلى حرام وحلال ولا محلل ومحرم إلا الله، فأنتم {على الله} أي المحيط بكل شيء عظمة وعلماً {تفترون} مع نسبتكم الافتراء إلي في هذا القرآن الذي أعجز الأفكار والشرع الذي بهر العقول وادعائكم أنكم أبعد الناس عن مطلق الكذب وأطهرهم ذيولاً منه، وتقديم الجار للإشارة إلى زيادة التشنيع عليهم من حيث إنهم أشد الناس تبرؤاً من الكذب وقد خصوا الله -على تقدير التسليم لهم- بأن تعمدوا الكذب عليه.
فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني 1250 هـ :
وفي هذه الآية الشريفة ما يصكّ مسامع المتصدرين للإفتاء لعباد الله في شريعته، بالتحليل والتحريم والجواز وعدمه، مع كونهم من المقلدين الذين لا يعقلون حجج الله، ولا يفهمونها ولا يدرون ما هي. ومبلغهم من العلم الحكاية لقول قائل من هذه الأمة قد قلدوه في دينهم، وجعلوه شارعاً مستقلاً.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
هاتان الآيتان في إقامة الحجة على منكري الوحي من المشركين بفعل من أفعالهم لا ينكرونه ولا يجادلون فيه، تعزيزا لما تقدم من أنواع الحجج العقلية على إثباته، ودفع شبهاتهم عليه، وهذه الحجة مبنية على قاعدة كون التشريع العملي في التحريم والتحليل هو حق الله تعالى وحده، وقاعدة كون الأصل في الأرزاق وسائر الأشياء التي ينتفع بها الخلق الإباحة، وقاعدة كون انتحال العبيد حق التشريع الخاص بربهم افتراء عليه وكفرا به، يستحق فاعلوه أشد عقابه، وهو يتضمن الشهادة على صدق رسوله صلى الله عليه وسلم في كونه مبلغا لهذا القرآن عنه تعالى، مؤكدا لما تقدم من الحجج على صدقه، وعلى كون القرآن كلام الله المعجز لجميع خلقه.
قال عزّ وجلّ لنبيه صلى الله عليه وسلم {قُلْ أَرَأَيْتُم} أي أخبروني أيها الجاحدون للوحي والتشريع الإلهي {مَّا أَنزَلَ اللّهُ لَكُم مِّن رِّزْقٍ} أي هذا الذي أفاضه الله عليكم من سماء فضله وإحسانه من رزق تعيشون به من نبات وحيوان، وكل عطاء منه تعالى يعبر عنه بالإنزال كقوله: {وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج} [الزمر: 6] وقوله: {وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس} [الحديد: 25].
{فَجَعَلْتُم مِّنْهُ حَرَاماً وحَلاَلاً} أي فترتب على إنزاله لمنفعتكم أن جعلتم بعضه حراما وبعضه حلالا. وقد تقدم تفصيل هذا في سورة الأنعام من قوله تعالى: {وَجَعَلُواْ لِلّهِ مِمِّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ والأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُواْ هَذَا لِلّهِ بِزَعْمِهِمْ وهَذَا لِشُرَكَآئِنَا} [الأنعام: 136] إلى قوله {قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللّهَ حَرَّمَ هَذَا} [الأنعام: 150]، وفي معناها قوله من سورة المائدة {مَا جَعَلَ اللّهُ مِن بَحِيرَةٍ وَلاَ سَآئِبَةٍ ولاَ وصِيلَةٍ ولاَ حَامٍ ولَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ وأَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ} [المائدة: 103] أي يفترون عليه بتحريم ما لم يحرمه، وقال هنا وهو المراد من الاستخبار:
{قُلْ آاللّهُ أَذِنَ لَكُمْ} هذا الاستفهام للتقرير، ومدت همزته لدخولها على ألف اسم الجلالة. أي إنه ليس لأحد حق أن يحرم على الناس ويحل لهم إلا ربهم الله، فهل الله هو الذي أذن لكم بذلك بوحي أنزله إليكم؟
{أَمْ عَلَى اللّهِ تَفْتَرُونَ} بزعمكم أنه حرمها عليكم؟ أي لا مندوحة لكم عن الإقرار بأحد الأمرين: إما دعوى الإذن من الله لكم بالتحليل والتحريم، وهو اعتراف بالوحي، وأنتم تنكرونه وتلحون وتلجون في الإنكار، وتزعمون أنه محال عليه تعالى أن يوحي إلى أحد من الناس، وإما الافتراء على الله؟ وهو الذي يلزمكم بإنكار الأول؛ إذ لا واسطة بينهما. ويحتمل أن يكون الاستفهام للإنكار وأم متصلة، فيكون المعنى إن الله لم يأذن لكم؛ بل أنتم تفترون على الله تعالى، والغاية واحدة، وأصل الفري قطع الجلد لمصلحة، والافتراء تكلفة، وغلب في تعمد الكذب.
قال الكرخي في هذا الاستفهام: وكفى به زاجرا لمن أفتى بغير إتقان، كبعض فقهاء هذا الزمان.
وقال العماد ابن كثير في تفسيره: وقد أنكر الله على من حرم ما أحل الله، أو أحل ما حرم، بمجرد الآراء والأهواء التي لا مستند لها، ولا دليل عليها،اه.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وفي ظل هذا الحديث عن فضل اللّه ورحمته، المتمثلين فيما جاء للناس من موعظة وهدى وشفاء لما في الصدور، يتعرض السياق للجاهلية، وهي تزاول حياتها العملية، لا وفق ما جاء من عند اللّه؛ ولكن وفق أهواء البشر، واعتدائهم على خصائص اللّه سبحانه، ومزاولتهم أمر التحليل والتحريم فيما رزقهم اللّه:
(قل: أرأيتم ما أنزل اللّه لكم من رزق فجعلتم منه حراماً وحلالاً! قل: آللّه أذن لكم؟ أم على اللّه تفترون؟ وما ظن الذين يفترون على اللّه الكذب يوم القيامة؟ إن الله لذو فضل على الناس، ولكن أكثرهم لا يشكرون)..
قل: ماذا ترون في رزق اللّه الذي أنزله إليكم؟ -وكل ما جاء من عند اللّه في عليائه إلى البشر فهو منزل من ذلك المقام الأعلى- ماذا ترون في هذا الرزق الذي أعطاه لكم، لتتصرفوا فيه وفق إذنه وشرعه، فإذا أنتم -من عند أنفسكم ودون إذن من اللّه لكم- تحرمون منه أنواعاً وتحلون منه أنواعاً. والتحريم والتحليل تشريع. والتشريع حاكمية. والحاكمية ربوبية. وأنتم تزاولونها من عند أنفسكم:
(قل: آللّه أذن لكم؟ أم على اللّه تفترون؟).
إنها القضية التي يتكرر ذكرها في القرآن الكريم؛ وتواجه بها الجاهلية بين الحين والحين.. ذلك أنها القضية الكبرى التالية لشهادة أن لا إله إلا اللّه. بل إنها هي هي في حالة التطبيق الواقعي في الحياة.
إن الاعتراف بأن اللّه هو الخالق الرازق يستتبعه حتماً أن يكون اللّه هو الرب المعبود؛ وأن يكون هو الذي يحكم في أمر الناس كله.. ومنه أمر هذه الأرزاق التي أعطاها اللّه للبشر، وهي تشمل كل ما يرزقهم من السماء والأرض.. والجاهليون العرب كانوا يعترفون بوجود اللّه -سبحانه- وبأنه الخالق الرازق -كما يعترف اليوم ناس يسمون أنفسهم "المسلمين!". ثم كانوا مع هذا الاعتراف يزاولون التحريم والتحليل لأنفسهم فيما رزقهم اللّه- كما يزاول ذلك اليوم ناس يسمون أنفسهم "المسلمين! "- وهذا القرآن يواجههم بهذا التناقض بين ما يعترفون به من وجود اللّه ومن أنه الخالق الرازق؛ وما يزاولونه في حياتهم من ربوبية لغير اللّه تتمثل في التشريع الذي يزاوله نفر منهم! وهو تناقض صارخ يدمغهم بالشرك؛ كما يدمغ كل من يزاول هذا التناقض اليوم وغداً وإلى آخر الزمان. مهما اختلفت الأسماء واللافتات. فالإسلام حقيقة واقعة لا مجرد عنوان!
ولقد كان الجاهليون العرب يزعمون -كما يزعم اليوم ناس ممن يسمون أنفسهم" المسلمين "- أن هذا الذي يزاولونه من التحريم والتحليل إنما أذن لهم به اللّه. أو كانوا يقولون عنه: شريعة اللّه!
وقد ورد في سورة الأنعام ادعاؤهم أن هذا الذي يحرمونه وهذا الذي يحلونه شرعه اللّه.. وذلك في قوله تعالى: (وقالوا هذه أنعام وحرث حجر لا يطعمها إلا من نشاء- بزعمهم -وأنعام حرمت ظهورها، وأنعام لا يذكرون اسم اللّه عليها افتراء عليه. سيجزيهم بما كانوا يفترون).. فهم كانوا يقولون: إن اللّه يشاء هذا، ولا يشاء هذا.. افتراء على اللّه.. كما أن ناساً اليوم يدعون أنفسهم" مسلمين "يشرعون من عند أنفسهم ثم يقولون: شريعة اللّه!
فالمراد هنا بالإنزال، أي: الإيجاد ممن هو أعلى منك لصالحك أيها الإنسان. وما دام الحق سبحانه هو الذي أنزل الرزق، وبين الحلال والحرام، فلماذا تدخلون أنوفكم في الحلال والحرام، وتجعلون بعض الحلال حراما، وبعض الحرام أو كل الحرام حلالا؟ لماذا لا تتركون الجعل لمن خلق وهو سبحانه أدرى بمصلحتكم؟... وقد جاء الحق سبحانه بالحلال والحرام ليبيّن لنا مدى قبح السلوك في تحريم ما أحلّ الله، وتحليل ما حرّم الله...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
كان الحديث في الآيات السابقة عن القرآن، والموعظة الإِلهية والهداية والرحمة في هذا الكتاب السماوي، وتتحدث هذه الآيات عن قوانين المشركين المبتدعة والخرافية وأحكامهم الكاذبة، لأنّ الذي يؤمن بالله ويعلم أن كل المواهب والأرزاق منه، يجب أن يقبل هذه الحقيقة أيضاً، وهي أنّ بيان حكم هذه المواهب من حيث الحلية والحرمة بيده، وإِنّ التدخل في هذا العمل بدون إِذنه عمل غير صحيح.
الآية الأُولى وجهت الخطاب إِلى النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وقالت: (قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراماً وحلالا) إِذا أنّهم طبقاً لسننهم الخرافية حرموا قسماً من الدواب باسم «السائبة» و«البحيرة» و«الوصيلة»، وكذلك حرّموا جزءاً من محاصيلهم الزراعية، وحرموا أنفسهم من هذه النعم الطاهرة المحلّلة، إِضافةً إِلى ذلك فإِن كون الشيء حراماً أو حلالا ليس مرتبطاً بكم، بل هو مختص بأمر الله خالق تلك الموجودات.
ثمّ تقول: (قل الله أذن لكم أم على الله تفترون)، أي إِنّ لهذا العمل صورتين لا ثالث لهما: فإمّا أن يكون بإِذن الله، أو أنّه تهمة وافتراء، ولما كان الاحتمال الأوّل منتفياً، فلم يبق إلاّ الثّاني.