فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{قُلۡ أَرَءَيۡتُم مَّآ أَنزَلَ ٱللَّهُ لَكُم مِّن رِّزۡقٖ فَجَعَلۡتُم مِّنۡهُ حَرَامٗا وَحَلَٰلٗا قُلۡ ءَآللَّهُ أَذِنَ لَكُمۡۖ أَمۡ عَلَى ٱللَّهِ تَفۡتَرُونَ} (59)

ثم أشار سبحانه بقوله { قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراما وحلالا } على طريق أخرى غير ما تقدم في إثبات النبوة وتقرير ذلك ما حاصله إنكم تحكمون بتحليل البعض وتحريم البعض ، فإن كان بمجرد التشهي والهوى فهو مهجور باتفاق العقلاء مسلمهم وكافرهم ، وإن كان لاعتقادكم أنه حكم الله فيكم وفيما رزقكم فلا تعرفون ذلك إلا بطريق موصلة إلى الله ولا طريق يتبين بها الحلال من الحرام إلا من جهة الرسل الذين أرسلهم الله إلى عباده .

والمعنى أخبروني الذي أنزل الله إليكم من رزق أي زرع وضرع وغيرهما فجعلتم بعضه حراما كالبحيرة والسائبة وبعضه حلالا كالميتة وذلك كما كانوا يفعلونه في الأنعام والحرث حسبما سبق حكاية ذلك عنهم في سورة الأنعام من الكتاب العزيز وقيل ما استفهامية وإليه ذهب الحوفي والزمخشري والظاهر أنها موصولة كما تقدم لأن فيه إبقاء أرأيت على بابها ومعنى إنزال الرزق كون المطر ينزل من جهة العلو .

وقال الزجاج : أنزل بمعنى خلق كما قال { وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد } { قل الله أذن لكم } في هذا التحليل والتحريم والهمزة للإنكار { أم على الله تفترون } أم منقطعة بمعنى بل كما في الكشاف والظاهر أنها متصلة كما قال السفاقسي : أي الله أذن لكم أم تكذبون عليه في نسبة الأذن إليه .

قال الكرخي : وكفى به زاجرا لمن أفتى بغير إتقان كبعض فقهاء هذا الزمان 1 ه وإظهار الاسم الشريف وتقديمه على الفعل للدلالة على كمال قبح الافتراء .

قلت في هذه الآية الشريفة ما يصك مسامع المتصدرين للإفتاء لعباد الله في شريعته بالتحليل والتحريم والجواز وعدمه ، مع كونهم من المقلدين الذين لا يعقلون حجج الله ولا يفهمونها ولا يدرون ما هي ، ومبلغهم من العلم الحكاية لقول قائل من هذه الأمة قد قلدوه في دينهم وجعلوه شارعا مستقلا ، ما عمل به من الكتاب والسنة فهو المعمول به عندهم وما لم يبلغه أو بلغه ولم يفهمه حق فهمه وأخطأ الصواب في اجتهاده وترجيحه فهو في حكم المنسوخ عندهم المرفوع حكمه عن العباد مع كون من قلدوه متعبدا بهذه الشريعة كما هم متعبدون بها ومحكوما عليه بأحكامها كما هم محكوم عليهم بها ، وقد اجتهد رأيه وأدى ما عليه وفاز بأجرين مع الإصابة وأجر مع الخطأ إنما الشأن في جعلهم لرأيه الذي أخطأ فيه شريعة مستقلة ودليلا معمولا به .

وقد أخطئوا في هذا خطأ بينا وغلطوا غلطا فاحشا فإن الترخيص للمجتهد في اجتهاد رأيه يخصه وحده ، ولا قائل من أهل الإسلام المعتد بأقوالهم إنه يجوز لغيره أن يعمل به تقليدا له واقتداء به ، وما جاء به المقلدة في تقويم هذا الباطل فهو من الجهل العاطل ، اللهم كما رزقتنا من العلم ما نميز به الحق والباطل فارزقنا من الإنصاف ما نظفر عنده بما هو الحق عندك يا واهب الخير .

قال النسفي : الآية زاجرة عن التجوز فيما يسأل من الأحكام وباعثة على وجوب الاحتياط فيه وأن لا يقول أحد في شيء جائز أو غير جائز إلا بعد إيقان وإتقان وإلا فهو مفتر على الديان .