قوله - تعالى - { قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَّآ أَنزَلَ الله لَكُمْ مِّن رِّزْقٍ } الآية .
قال ابن الخطيب : ذكر النَّاسُ في تعلُّقِ هذه الآية بما قبلها وجوهاً ، ولا أستحسن واحداً منها . والذي يخطر بالبال وجهان :
الأول : أنَّ المقصود من هذا الكلام ذكر طريق ثالث في إثبات النبوة ، وذلك أنَّه - عليه الصلاة والسلام - قال للقوم : " إنَّكُم تحكُمُون بحلِّ بعض الأشياء ، وحرمة بعضها ، فهذا الحكم تقولونه افتراءً على الله ، أم تعلمُون أنَّهُ حكمٌ حَكَمَ اللهُ به " {[18506]} ؛ والأول باطلٌ بالاتِّفاق ، فلم يبقَ إلاَّ الثَّاني ، ومن المعلُوم أنَّه - تعالى - ما خاطبكم به من غير واسطةٍ ، ولمَّا بطل هذا ، ثبتَ أنَّ هذه الأحكام إنَّما وصلتْ إليكم بقول رسولٍ أرسله الله إليكم ، ونبيِّ بعثهُ الله إليكم ، وذلك يدلُّ على اعترافكم بصحَّةِ النبوة والرِّسالة ، فكيف تُبالغُوا هذه المبالغاتِ العظيمةِ في إنكار النبوة ؟ .
الوجه الثاني : أنه - عليه الصلاة والسلام - لمَّا ذكر الدَّلائل الكثيرة على صحَّة نبوَّة نفسه ، وبيَّن فساد سؤالاتهم ، وشبهاتهم في إنكارها ، أتبع ذلك ببيان فساد طريقتهم في شرائعهم وأحكامهم ، وبيَّن أنَّ التمييز بين هذه الأشياء بالحلِّ والحرمةِ ، مع أنَّه لم يشهد بذلك لا عقلٌ ولا نقلٌ ، فدل على أنَّه طريق باطلٌ ، وأنَّهم ليسُوا على شيءٍ .
قوله : " أَرَأَيْتُمْ " : هذه بمعنى : " أخْبرُوني " . وقوله : " ما أنزلَ " يجُوز أن تكُون " مَا " موصولةً بمعنى : " الَّذي " ، والعائد محذوفٌ ، أي : ما أنزله ، وهي في محلِّ نصبٍ مفعولاً أولاً ، والثاني هو الجملة من قوله : { آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ } ؟ والعائدُ من هذه الجملة على المفعول الأولِ محذوفٌ ، تقديره : آلله أذن لكم فيه ؛ واعترض على هذا : بأنَّ قولهُ " قُلْ " يمنع من وقوع الجملة بعده مفعولاً ثانياً .
وأجيب عنه : بأنَّه كُرِّرَ توكيداً ، ويجوز أن تكون " مَا " استفهاميَّة منصوبة المحلِّ ب " أنزل " وهي حينئذٍ معلَّقةٌ ل " أرأيْتُم " وإلى هذا ذهب الحوفيُّ ، والزمخشريُّ ، ويجوز أن تكون " ما " الاستفهاميَّةُ في محلِّ رفع بالابتداء ، والجملةُ من قوله : { آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ } خبره ، والعائدُ محذوفٌ كما تقدَّم ، أي : أذن لكم فيه ، وهذه الجملة الاستفهاميةُ معلِّقةٌ ل " أرَأيْتُم " ، والظاهرُ من هذه الأوجه هو الأول ؛ لأنَّ فيه إبقاءاً ل " أرَأيْتَ " على بابها من تعدِّيها إلى اثنين ، وأنَّها مؤثِّرةٌ في أولهما بخلاف جعل " ما " استفهامية ، فإنَّها مُعلِّقةٌ ل " أرأيت " وسادَّةٌ مسدَّ المفعولين .
قوله : " مِنْ رزقٍ " : يجوز أن يكون حالاً من الموصولٍ ، وأن تكون " مِنْ " : لبيان الجنس ، و " أنْزَلَ " على بابها ، وهو على حذف مضافٍ ، أي : أنزله من سبب رزقٍ وهو المطرُ ، وقيل : تُجوِّز بالإنزال علن الخلق ، كقوله : { وَأَنزْلْنَا الحديد } [ الحديد : 25 ] { وَأَنزَلَ لَكُمْ مِّنَ الأنعام } [ الزمر : 6 ] .
قوله : { أَمْ عَلَى الله تَفْتَرُونَ } في " أم " هذه وجهان :
أحدهما : أنها متصلةٌ عاطفةٌ ، تقديره : أخبروني : آللهُ أذِنَ لكم في التحليل والتحريم ، فإنكم تفعلون ذلك بإذنه ، أم تكذبُون على الله في نسبة ذلك إليه .
قال الزمخشري{[18507]} : " ويجوز أن تكون الهمزةُ للإنكارِ ، و " أمْ " منقطعةٌ بمعنى : بل أتَفْتَرُونَ على الله ، تقريراً للافتراء " والظَّاهرُ هو الأولُ ؛ إذ المعادلةُ بين الجملتين اللتين بمعنى المفرد واضحةٌ ، إذ التقدير : أيُّ الأمرين وقع إذن الله لكم في ذلك ، أم افتراؤكم عليه ؟ .
المراد بالشَّيء الذي جعلوه حراماً : ما ذكروه من تحريم السائبة ، والوصيلة ، والحام ، وقولهم { هذه أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ } [ الأنعام : 138 ] { وَجَعَلُواْ للَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الحرث والأنعام نَصِيباً } [ الأنعام : 36 ] ، وقولهم : { مَا فِي بُطُونِ هذه الأنعام خَالِصَةٌ لِّذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ على أَزْوَاجِنَا } [ الأنعام : 139 ] وقولهم : { ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مَّنَ الضأن اثنين } [ الأنعام : 143 ] ويدلُّ على ذلك : أنَّ قوله : { فَجَعَلْتُمْ مِّنْهُ حَرَاماً وَحَلاَلاً } إشارة إلى أمر تقدَّم منهم ، ولمْ يحكِ الله - تعالى - عنهم إلاَّ هذا ؛ فوجب توجيه الكلام إليه ، ثم لمَّا حكى تعالى ذلك عنهم ، قال لرسوله : { قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى الله تَفْتَرُونَ } وهذه قسمةٌ صحيحةٌ ؛ لأنَّ هذه الأحكام : إمَّا أن تكون من الله - تعالى - ، أو لم تكن ، فإن كانت من الله فهو المراد بقوله : { آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ } وإنْ كانت ليست من الله ، فهو المراد بقوله : { أَمْ عَلَى الله تَفْتَرُونَ } .
استدلَّ نفاةُ القياس بهذه الآية على بُطلان القياس .
قال القرطبيُّ : " وهو بعيدٌ ؛ لأنَّ القياس دليلُ قول الله - تعالى - ؛ فيكون التَّحْليل والتَّحريم من الله - تعالى - ، عند وجود دلالة نصبها الله تعالى على الحكم ، فإن خالف في كون القياس دليلاً لله - تعالى - ، فهو خروجٌ عن هذا الغرض ، ورجوعٌ إلى غيره " .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.