اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{قُلۡ أَرَءَيۡتُم مَّآ أَنزَلَ ٱللَّهُ لَكُم مِّن رِّزۡقٖ فَجَعَلۡتُم مِّنۡهُ حَرَامٗا وَحَلَٰلٗا قُلۡ ءَآللَّهُ أَذِنَ لَكُمۡۖ أَمۡ عَلَى ٱللَّهِ تَفۡتَرُونَ} (59)

قوله - تعالى - { قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَّآ أَنزَلَ الله لَكُمْ مِّن رِّزْقٍ } الآية .

قال ابن الخطيب : ذكر النَّاسُ في تعلُّقِ هذه الآية بما قبلها وجوهاً ، ولا أستحسن واحداً منها . والذي يخطر بالبال وجهان :

الأول : أنَّ المقصود من هذا الكلام ذكر طريق ثالث في إثبات النبوة ، وذلك أنَّه - عليه الصلاة والسلام - قال للقوم : " إنَّكُم تحكُمُون بحلِّ بعض الأشياء ، وحرمة بعضها ، فهذا الحكم تقولونه افتراءً على الله ، أم تعلمُون أنَّهُ حكمٌ حَكَمَ اللهُ به " {[18506]} ؛ والأول باطلٌ بالاتِّفاق ، فلم يبقَ إلاَّ الثَّاني ، ومن المعلُوم أنَّه - تعالى - ما خاطبكم به من غير واسطةٍ ، ولمَّا بطل هذا ، ثبتَ أنَّ هذه الأحكام إنَّما وصلتْ إليكم بقول رسولٍ أرسله الله إليكم ، ونبيِّ بعثهُ الله إليكم ، وذلك يدلُّ على اعترافكم بصحَّةِ النبوة والرِّسالة ، فكيف تُبالغُوا هذه المبالغاتِ العظيمةِ في إنكار النبوة ؟ .

الوجه الثاني : أنه - عليه الصلاة والسلام - لمَّا ذكر الدَّلائل الكثيرة على صحَّة نبوَّة نفسه ، وبيَّن فساد سؤالاتهم ، وشبهاتهم في إنكارها ، أتبع ذلك ببيان فساد طريقتهم في شرائعهم وأحكامهم ، وبيَّن أنَّ التمييز بين هذه الأشياء بالحلِّ والحرمةِ ، مع أنَّه لم يشهد بذلك لا عقلٌ ولا نقلٌ ، فدل على أنَّه طريق باطلٌ ، وأنَّهم ليسُوا على شيءٍ .

قوله : " أَرَأَيْتُمْ " : هذه بمعنى : " أخْبرُوني " . وقوله : " ما أنزلَ " يجُوز أن تكُون " مَا " موصولةً بمعنى : " الَّذي " ، والعائد محذوفٌ ، أي : ما أنزله ، وهي في محلِّ نصبٍ مفعولاً أولاً ، والثاني هو الجملة من قوله : { آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ } ؟ والعائدُ من هذه الجملة على المفعول الأولِ محذوفٌ ، تقديره : آلله أذن لكم فيه ؛ واعترض على هذا : بأنَّ قولهُ " قُلْ " يمنع من وقوع الجملة بعده مفعولاً ثانياً .

وأجيب عنه : بأنَّه كُرِّرَ توكيداً ، ويجوز أن تكون " مَا " استفهاميَّة منصوبة المحلِّ ب " أنزل " وهي حينئذٍ معلَّقةٌ ل " أرأيْتُم " وإلى هذا ذهب الحوفيُّ ، والزمخشريُّ ، ويجوز أن تكون " ما " الاستفهاميَّةُ في محلِّ رفع بالابتداء ، والجملةُ من قوله : { آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ } خبره ، والعائدُ محذوفٌ كما تقدَّم ، أي : أذن لكم فيه ، وهذه الجملة الاستفهاميةُ معلِّقةٌ ل " أرَأيْتُم " ، والظاهرُ من هذه الأوجه هو الأول ؛ لأنَّ فيه إبقاءاً ل " أرَأيْتَ " على بابها من تعدِّيها إلى اثنين ، وأنَّها مؤثِّرةٌ في أولهما بخلاف جعل " ما " استفهامية ، فإنَّها مُعلِّقةٌ ل " أرأيت " وسادَّةٌ مسدَّ المفعولين .

قوله : " مِنْ رزقٍ " : يجوز أن يكون حالاً من الموصولٍ ، وأن تكون " مِنْ " : لبيان الجنس ، و " أنْزَلَ " على بابها ، وهو على حذف مضافٍ ، أي : أنزله من سبب رزقٍ وهو المطرُ ، وقيل : تُجوِّز بالإنزال علن الخلق ، كقوله : { وَأَنزْلْنَا الحديد } [ الحديد : 25 ] { وَأَنزَلَ لَكُمْ مِّنَ الأنعام } [ الزمر : 6 ] .

قوله : { أَمْ عَلَى الله تَفْتَرُونَ } في " أم " هذه وجهان :

أحدهما : أنها متصلةٌ عاطفةٌ ، تقديره : أخبروني : آللهُ أذِنَ لكم في التحليل والتحريم ، فإنكم تفعلون ذلك بإذنه ، أم تكذبُون على الله في نسبة ذلك إليه .

والثاني : أن تكون منقطعةً .

قال الزمخشري{[18507]} : " ويجوز أن تكون الهمزةُ للإنكارِ ، و " أمْ " منقطعةٌ بمعنى : بل أتَفْتَرُونَ على الله ، تقريراً للافتراء " والظَّاهرُ هو الأولُ ؛ إذ المعادلةُ بين الجملتين اللتين بمعنى المفرد واضحةٌ ، إذ التقدير : أيُّ الأمرين وقع إذن الله لكم في ذلك ، أم افتراؤكم عليه ؟ .

فصل

المراد بالشَّيء الذي جعلوه حراماً : ما ذكروه من تحريم السائبة ، والوصيلة ، والحام ، وقولهم { هذه أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ } [ الأنعام : 138 ] { وَجَعَلُواْ للَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الحرث والأنعام نَصِيباً } [ الأنعام : 36 ] ، وقولهم : { مَا فِي بُطُونِ هذه الأنعام خَالِصَةٌ لِّذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ على أَزْوَاجِنَا } [ الأنعام : 139 ] وقولهم : { ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مَّنَ الضأن اثنين } [ الأنعام : 143 ] ويدلُّ على ذلك : أنَّ قوله : { فَجَعَلْتُمْ مِّنْهُ حَرَاماً وَحَلاَلاً } إشارة إلى أمر تقدَّم منهم ، ولمْ يحكِ الله - تعالى - عنهم إلاَّ هذا ؛ فوجب توجيه الكلام إليه ، ثم لمَّا حكى تعالى ذلك عنهم ، قال لرسوله : { قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى الله تَفْتَرُونَ } وهذه قسمةٌ صحيحةٌ ؛ لأنَّ هذه الأحكام : إمَّا أن تكون من الله - تعالى - ، أو لم تكن ، فإن كانت من الله فهو المراد بقوله : { آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ } وإنْ كانت ليست من الله ، فهو المراد بقوله : { أَمْ عَلَى الله تَفْتَرُونَ } .

فصل

استدلَّ نفاةُ القياس بهذه الآية على بُطلان القياس .

قال القرطبيُّ : " وهو بعيدٌ ؛ لأنَّ القياس دليلُ قول الله - تعالى - ؛ فيكون التَّحْليل والتَّحريم من الله - تعالى - ، عند وجود دلالة نصبها الله تعالى على الحكم ، فإن خالف في كون القياس دليلاً لله - تعالى - ، فهو خروجٌ عن هذا الغرض ، ورجوعٌ إلى غيره " .


[18506]:ذكره بهذا اللفظ الرازي في "تفسيره" (17/96).
[18507]:ينظر: الكشاف 2/354.