أشار سبحانه بقوله : { قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنزَلَ الله } إلخ إلى طريق أخرى غير ما تقدّم في إثبات النبوّة ، وتقرير ذلك ما حاصله أنكم تحكمون بتحليل البعض ، وتحريم البعض ، فإن كان بمجرد التشهي والهوى فهو مهجور باتفاق العقلاء ، مسلمهم وكافرهم ، وإن كان لاعتقادكم أنه حكم الله فيكم وفيما رزقكم ، فلا تعرفون ذلك إلا بطريق موصلة إلى الله ، ولا طريق يتبين بها الحلال من الحرام إلا من جهة الرسل الذين أرسلهم الله إلى عباده ، ومعنى أرأيتم : أخبروني ، و { مَا } في محل نصب بأرأيتم المتضمن لمعنى أخبروني ، وقيل : إن { ما } في محل الرفع بالابتداء وخبرها { آلله أذن لكم } و { قل } في قوله : { قُلِ آلله أَذِنَ لَكُمْ } تكرير للتأكيد والرابط محذوف ، ومجموع المبتدأ والخبر في محل نصب بأرأيتم والمعنى : أخبروني الذي أنزل الله إليكم من رزق ، فجعلتم منه حراماً وحلالاً ، آلله أذن لكم في تحليله وتحريمه { أَمْ عَلَى الله تَفْتَرُونَ } وعلى الوجهين ، فمن في { منه حراماً } للتبعيض ، والتقدير : فجعلتم بعضه حراماً وجعلتم بعضه حلالاً ، وذلك كما كانوا يفعلونه في الأنعام حسبما سبق حكاية ذلك عنهم في الكتاب العزيز ؛ ومعنى إنزال الرزق : كون المطر ينزل من جهة العلوّ ، وكذلك يقضي الأمر في أرزاق العباد في السماء على ما قد ثبت في اللوح المحفوظ من ذكره سبحانه وتعالى ، لكل شيء فيه . وروي عن الزجاج أن { ما } في موضع نصب بأنزل ، وأنزل بمعنى خلق ، كما قال : { وَأَنزَلَ لَكُمْ مّنَ الأنعام ثمانية أزواج } { وَأَنزْلْنَا الحديد فِيهِ بَأْس شَدِيد } وعلى هذا القول والقول الأوّل يكون قوله : { قُلِ الله أَذِنَ لَكُمْ } مستأنفاً ، قيل : ويجوز أن تكون الهمزة في { الله أَذِنَ لَكُمْ } للإنكار ، وأم منقطعة بمعنى : بل أتفترون على الله ، وإظهار الإسم الشريف وتقديمه على الفعل للدلالة على كمال الافتراء .
وفي هذه الآية الشريفة ما يصكّ مسامع المتصدرين للإفتاء لعباد الله في شريعته ، بالتحليل والتحريم والجواز وعدمه ، مع كونهم من المقلدين الذين لا يعقلون حجج الله ، ولا يفهمونها ولا يدرون ما هي . ومبلغهم من العلم الحكاية لقول قائل من هذه الأمة قد قلدوه في دينهم ، وجعلوه شارعاً مستقلاً . ما عمل به من الكتاب والسنة ، فهو المعمول به عندهم . وما لم يبلغه أو بلغه ولم يفهمه حق فهمه ، أو فهمه وأخطأ الصواب في اجتهاده وترجيحه ، فهو في حكم المنسوخ عندهم المرفوع حكمه عن العباد ، مع كون من قلدوه متعبّداً بهذه الشريعة ، كما هم متعبدون بها ومحكوماً عليه بأحكامها ، كما هو محكوم عليهم بها ، وقد اجتهد رأيه وأدّى ما عليه ، وفاز بأجرين مع الإصابة وأجر مع الخطأ ، إنما الشأن في جعلهم لرأيه الذي أخطأ فيه شريعة مستقلة ، ودليلاً معمولاً به .
وقد أخطأوا في هذا خطأ بيناً . وغلطوا غلطاً فاحشاً . فإن الترخيص للمجتهد في اجتهاد رأيه يخصه وحده ، ولا قائل من أهل الإسلام المعتدّ بأقوالهم أنه يجوز لغيره أن يعمل به تقليداً له واقتداء به ، وما جاء به المقلدة في تقوّم هذا الباطل ، فهو من الجهل العاطل ، اللهمّ كما رزقتنا من العلم ما نميز به بين الحق والباطل ، فارزقنا من الإنصاف ما نظفر عنده بما هو الحق عندك يا واهب الخير .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.