فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني - الشوكاني  
{قُلۡ أَرَءَيۡتُم مَّآ أَنزَلَ ٱللَّهُ لَكُم مِّن رِّزۡقٖ فَجَعَلۡتُم مِّنۡهُ حَرَامٗا وَحَلَٰلٗا قُلۡ ءَآللَّهُ أَذِنَ لَكُمۡۖ أَمۡ عَلَى ٱللَّهِ تَفۡتَرُونَ} (59)

أشار سبحانه بقوله : { قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنزَلَ الله } إلخ إلى طريق أخرى غير ما تقدّم في إثبات النبوّة ، وتقرير ذلك ما حاصله أنكم تحكمون بتحليل البعض ، وتحريم البعض ، فإن كان بمجرد التشهي والهوى فهو مهجور باتفاق العقلاء ، مسلمهم وكافرهم ، وإن كان لاعتقادكم أنه حكم الله فيكم وفيما رزقكم ، فلا تعرفون ذلك إلا بطريق موصلة إلى الله ، ولا طريق يتبين بها الحلال من الحرام إلا من جهة الرسل الذين أرسلهم الله إلى عباده ، ومعنى أرأيتم : أخبروني ، و { مَا } في محل نصب بأرأيتم المتضمن لمعنى أخبروني ، وقيل : إن { ما } في محل الرفع بالابتداء وخبرها { آلله أذن لكم } و { قل } في قوله : { قُلِ آلله أَذِنَ لَكُمْ } تكرير للتأكيد والرابط محذوف ، ومجموع المبتدأ والخبر في محل نصب بأرأيتم والمعنى : أخبروني الذي أنزل الله إليكم من رزق ، فجعلتم منه حراماً وحلالاً ، آلله أذن لكم في تحليله وتحريمه { أَمْ عَلَى الله تَفْتَرُونَ } وعلى الوجهين ، فمن في { منه حراماً } للتبعيض ، والتقدير : فجعلتم بعضه حراماً وجعلتم بعضه حلالاً ، وذلك كما كانوا يفعلونه في الأنعام حسبما سبق حكاية ذلك عنهم في الكتاب العزيز ؛ ومعنى إنزال الرزق : كون المطر ينزل من جهة العلوّ ، وكذلك يقضي الأمر في أرزاق العباد في السماء على ما قد ثبت في اللوح المحفوظ من ذكره سبحانه وتعالى ، لكل شيء فيه . وروي عن الزجاج أن { ما } في موضع نصب بأنزل ، وأنزل بمعنى خلق ، كما قال : { وَأَنزَلَ لَكُمْ مّنَ الأنعام ثمانية أزواج } { وَأَنزْلْنَا الحديد فِيهِ بَأْس شَدِيد } وعلى هذا القول والقول الأوّل يكون قوله : { قُلِ الله أَذِنَ لَكُمْ } مستأنفاً ، قيل : ويجوز أن تكون الهمزة في { الله أَذِنَ لَكُمْ } للإنكار ، وأم منقطعة بمعنى : بل أتفترون على الله ، وإظهار الإسم الشريف وتقديمه على الفعل للدلالة على كمال الافتراء .

وفي هذه الآية الشريفة ما يصكّ مسامع المتصدرين للإفتاء لعباد الله في شريعته ، بالتحليل والتحريم والجواز وعدمه ، مع كونهم من المقلدين الذين لا يعقلون حجج الله ، ولا يفهمونها ولا يدرون ما هي . ومبلغهم من العلم الحكاية لقول قائل من هذه الأمة قد قلدوه في دينهم ، وجعلوه شارعاً مستقلاً . ما عمل به من الكتاب والسنة ، فهو المعمول به عندهم . وما لم يبلغه أو بلغه ولم يفهمه حق فهمه ، أو فهمه وأخطأ الصواب في اجتهاده وترجيحه ، فهو في حكم المنسوخ عندهم المرفوع حكمه عن العباد ، مع كون من قلدوه متعبّداً بهذه الشريعة ، كما هم متعبدون بها ومحكوماً عليه بأحكامها ، كما هو محكوم عليهم بها ، وقد اجتهد رأيه وأدّى ما عليه ، وفاز بأجرين مع الإصابة وأجر مع الخطأ ، إنما الشأن في جعلهم لرأيه الذي أخطأ فيه شريعة مستقلة ، ودليلاً معمولاً به .

وقد أخطأوا في هذا خطأ بيناً . وغلطوا غلطاً فاحشاً . فإن الترخيص للمجتهد في اجتهاد رأيه يخصه وحده ، ولا قائل من أهل الإسلام المعتدّ بأقوالهم أنه يجوز لغيره أن يعمل به تقليداً له واقتداء به ، وما جاء به المقلدة في تقوّم هذا الباطل ، فهو من الجهل العاطل ، اللهمّ كما رزقتنا من العلم ما نميز به بين الحق والباطل ، فارزقنا من الإنصاف ما نظفر عنده بما هو الحق عندك يا واهب الخير .

/خ64