قوله تعالى : { وإن نكثوا أيمانهم } ، نقضوا عهودهم .
قوله تعالى : { من بعد عهدهم } ، عقدهم ، يعني مشركي قريش .
قوله تعالى : { وطعنوا } . قدحوا .
قوله تعالى : { في دينكم } عابوه ، فهذا دليل على أن الذمي إذا طعن في دين الإسلام ظاهرا لا يبقى له عهد .
قوله تعالى : { فقاتلوا أئمة الكفر } . قرأ أهل الكوفة والشام : أئمة بهمزتين حيث كان ، وقرأ الباقون بتليين الهمزة الثانية ، وأئمة الكفر : رؤوس المشركين وقادتهم من أهل مكة . قال ابن عباس : نزلت في أبي سفيان بن حرب ، و أبي جهل بن هشام ، و سهيل بن عمرو ، و عكرمة بن أبي جهل ، وسائر رؤساء قريش يومئذ الذين نقضوا العهد ، وهم الذين هموا بإخراج الرسول . وقال مجاهد : هم أهل فارس والروم ، وقال حذيفة بن اليمان : ما قوتل أهل هذه الآية ولم يأت أهلها بعد .
قوله تعالى : { إنهم لا أيمان لهم } ، أي لا عهود لهم ، جمع يمين .
قال قطرب : لا وفاء لهم بالعهد ، وقرأ ابن عامر : { لا أيمان لهم } بكسر الألف ، أي لا تصديق لهم ولا دين لهم . وقيل : هو من الأمان ، أي لا تؤمنوهم واقتلوهم حيث وجدتموهم .
قوله تعالى : { لعلهم ينتهون } . أي لكي ينتهوا عن الطعن في دينكم والمظاهرة عليكم . وقيل : عن الكفر .
{ وإن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم } وإن نكثوا ما بايعوا عليه من الإيمان أو الوفاء بالعهود . { وطعنوا في دينكم } بصريح التكذيب وتقبيح الأحكام . { فقاتلوا أئمة الكفر } أي فقاتلوهم ، فوضع أئمة الكفر موضع الضمير للدلالة على أنهم صاروا بذلك ذوي الرئاسة والتقدم في الكفر أحقاء بالقتل . وقبل المراد بالأئمة رؤساء المشركين فالتخصيص إما لأن قتلهم أهم وهم أحق به أو للمنع من مراقبتهم . وقرأ عاصم وابن عامر وحمزة والكسائي وروح عن يعقوب أئمة بتحقيق الهمزتين على الأصل والتصريح بالياء لحن . { إنهم لا أيمان لهم } أي لا أيمان لهم على الحقيقة وإلا لما طعنوا ولم ينكثوا ، وفيه دليل على أن الذمي إذا طعن في الإسلام فقد نكث عهده ، واستشهد به الحنفية على أن يمين الكافر ليست يمينا وهو ضعيف لأن المراد نفي الوثوق عليها لا أنها ليست بأيمان لقوله تعالى : { وإن نكثوا أيمانهم } وقرأ ابن عامر لا أيمان لهم بمعنى لا أمان أو لا إسلام ، وتشبث به من لم يقبل توبة المرتد وهو ضعيف لجواز أن يكون بمعنى لا يؤمنون على الإخبار عن قوم معينين أو ليس لهم إيمان فيراقبوا لأجله . { لعلهم ينتهون } متعلق ب " قاتلوا " أي ليكن غرضكم في المقاتلة أن ينتهوا عما هم عليه لا إيصال الأذية بهم كما هو طريقة المؤذين .
لمّا استوفى البيان لأصناف المشركين الذين أمر الله بالبراءة من عهدهم بقوله : { أن الله بريء من المشركين إلى قوله { وبشر الذين كفروا بعذاب أليم } [ التوبة : 3 ] وإنّما كان ذلك لإبطانهم الغدر ، والذين أمر بإتمام عهدهم إلى مدّتهم ما استقاموا على العهد بقوله : { إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم } [ التوبة : 4 ] الآيات ، والذين يستجيبون عَطَف على أولئك بيان الذين يعلنون بنكث العهد ، ويعلنون بما يسخطُ المسلمين من قولهم ، وهذا حال مضادّ لحال قوله : { وإن يظهروا عليكم لا يرقبوا فيكم إلاّ ولا ذمة يرضونكم بأفواههم وتأبى قلوبهم } [ التوبة : 8 ] .
والنكث تقدّم عند قوله تعالى : { فلما كشفنا عنهم الرجز إلى أجل هم بالغوه إذا هم ينكثون } في الأعراف ( 135 ) .
وعبَر عن نقض العهد بنكث الأيمان تشنيعاً للنكث ، لأنّ العهد كان يقارنه اليمين على الوفاء ولذلك سمّي العهد حلفا .
وزيد قوله : { من بعد عهدهم } زيادة في تسجيل شناعة نكثهم : بتذكير أنّه غدْر لعهد ، وحنث باليمين .
والطعن حقيقته خرق الجسم بشيء محددٍ كالرمح ، ويستعمل مجازاً بمعنى الثلب . والنسبة إلى النقص ، بتشبيه عِرض المرء ، الذي كان ملتئما غير منقوص ، بالجسد السليم . فإذا أظهرت نقائصه بالثلب والشتم شُبّه بالجِلد الذي أفسِد التحامُه .
والأمر ، هنا : للوجوب ، وهي حالة من أحوال الإذن المتقدّم في قوله تعالى : { فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين } [ التوبة : 5 ] ففي هذه الحالة يجب قتالهم ذبّاً عن حرمة الدين ، وقمعا لشرّهم من قبل أن يتمرّدوا عليه .
و { أئِمّة } جمع إمام ، وهو ما يجعل قدوة في عمل يُعمل على مثاله ، أو على مثال عمله ، قال تعالى : { ونجعلهم أئمة } [ القصص : 5 ] أي مقتدى بهم ، وقال لبيد :
والإمام المثال الذي يصنع على شكله ، أو قدره ، مصنوع ، فأئمّة الكفر ، هنا : الذين بلغوا الغاية فيه ، بحيث صاروا قدوة لأهل الكفر .
والمراد بأئِمّة الكفر : المشركون الذين نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم ، فوضع هذا الاسم موضع الضمير حين لم يُقل : فقاتلوهم ، لزيادة التشنيع عليهم ببلوغهم هذه المنزلة من الكفر ، وهي أنّهم قدوة لغيرهم ، لأنّ الذين أضمروا النكث يبقون متردّدين بإظهاره ، فإذا ابتدأ بعضهم بإظهار النقض اقتدى بهم الباقون ، فكان الناقضون أئِمّة للباقين .
وجملة : { إنهم لا أيمان لهم } تعليل لقتالهم بأنّهم استحقّوه لأجل استخفافهم بالأيمان التي حلفوها على السلم ، فغدروا ، وفيه بيان للمسلمين كيلا يشرعوا في قتالهم غير مطّلعين على حكمة الأمر به ، فيكون قتالهم لمجرّد الامتثال لأمر الله ، فلا يكونُ لهم من الغيظ على المشركين ما يشحّذ شدّتهم عليهم .
ونفي الأيمان لَهم : نفي للماهية الحقّ لليمين ، وهي قصد تعظيمه والوفاء به ، فلمّا لم يوفوا بأيمانهم ، نزلت أيمانهم منزلة العدم لفقدان أخصّ أخواصّها وهو العمل بما اقتضته .
وقرأ نافع ، وابن كثير ، وأبو عمرو ، ورويس عن يعقوب .
{ أيّمة } بتسهيل الهمزة الثانية بين الهمزة والياء . وقرأ البقية : بتحقيق الهمزتين . وقرأ هشام عن عامر ، وأبو جعفر : بمَدّ بين الهمزتين .
وقرأ الجمهور { لا أيمان لهم } بفتح همزة { أيمان } على أنّه جمع يمين . وقرأه ابن عامر بكسر الهمزة ، أي ليسوا بمؤمنين ، ومن لا إيمان له لا عهد له لانتفاء الوازع .
وعطف { وطعنوا في دينكم } عطف قسيم على قسيمه ، فالواو فيه بمعنى ( أو ) . فإنّه إذا حصل أحد هذين الفعلين : الذين هما نكث الأيمان ، والطعن في الدين ، كان حصول أحدهما موجباً لقتالهم ، أي دون مصالحة ، ولا عهد ، ولا هُدنة بعد ذلك .
وذكر طعنهم في دين المسلمين ينبىء بأنّ ذلك الطعن كان من دأبهم في مدّة المعاهدة ، فأريد صدّهم عن العَود إليه . ولم أقف على أنّه كان مشروطاً على المشركين في عقود المصالحة والمعاهدة مع المسلمين أن لا يطعنوا في الإسلام ، في غير هذه الآية ، فكانَ هذا شرطاً عليهم من بعد ، لأنّ المسلمين أصبحوا في قوة .
وقوله : { فقاتلوا أئمة الكفر } أمر للوجوب .
وجملة { لعلهم ينتهون } يجوز أن تكون تعليلاً للجملة { فقاتلوا أئمة الكفر } أي قتالهم لرجاء أن ينتهوا ، وظاهر أنّ القتال يُفني كثيراً منهم ، فالانتهاء المرجو انتهاء الباقين أحياء بعد أن تضع الحرب أوزارها .
ولم يذكر متعلِّق فعل { ينتهون } ولا يحتمل أن يكون الانتهاء عن نكث العهد ، لأنّ عهدهم لا يقبل بعدَ أن نكثوا لقول الله تعالى : { إنهم لا أيمان لهم } ، ولا أن يكون الانتهاء عن الطعن في الدين ، لأنّه إن كان طعنهم في ديننا حاصلاً في مدّة قتالهم فلا جدوى لرجاء انتهائهم عنه ، وإن كان بعدَ أن تضع الحرب أوزارها فإنّه لا يستقيم إذ لا غاية لتنهية القتل بين المسلمين وبينهم ، فتعيّن أنّ المراد : لعلهم ينتهون عن الكفر .
ويجوز أن تكون الجملة استئنافاً ابتدائياً لا اتّصال لها بجملة { وإن نكثوا أيمانهم } الآية ، بل ناشئة عن قوله : { فإن تابوا وأقاموا الصلاة إلى قوله { أئمة الكفر } [ التوبة : 5 12 ] .
والمعنى : المرجو أنّهم ينتهون عن الشرك ويسلمون ، وقد تحقّق ذلك فإنّ هذه الآية نزلت بعد فتح مكة ، وبعدَ حُنين ، ولم يقع نكث بعد ذلك ، ودخل المشركون في الإسلام أفواجاً في سنة الوفود .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: فإن نقض هؤلاء المشركون الذين عاهدتموهم من قريش عهودهم من بعد ما عاقدوكم، أن لا يقاتلوكم ولا يظاهروا عليكم أحدا من أعدائكم "وَطَعَنُوا فِي دينِكُمْ "يقول: وقدحوا في دينكم الإسلام، فثلموه وعابوه. "فَقاتِلُوا أئمّةَ الكُفْرِ" يقول: فقاتلوا رؤساء الكفر بالله. "إنّهُمْ لا أيمَانَ لَهُمْ" يقول: إن رؤساء الكفر لا عهد لهم. "لَعَلّهُمْ يَنْتَهُونَ" لكي ينتهوا عن الطعن في دينكم والمظاهرة عليكم...
عن حذيفة في قوله: "فَقاتِلُوا أئمّةَ الكُفْرِ إنّهُمْ لا أيمَانَ لَهُمْ" قال: لا عهد لهم.
وأما النكث فإن أصله: النقض... والأيمان: جمع اليمين...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
قوله تعالى: (فقاتلوا أئمة الكفر) وتخصيص الأمر بمقاتلة الأئمة، لما أن الأتباع أبدا يقلدون الأئمة ويصدرون عن آرائهم وتدبيرهم، فإذا قاتلوهم اتبع الأتباع فلهم.والثاني: لنفي الشبه أن ليس الأئمة منهم كأصحاب الصوامع، وإن كانوا هم أئمة في العبادة، فلا يترك مقاتلتهم كما يترك مقاتلة أصحاب الصوامع قد عزلوا أنفسهم عن الناس عن جميع المنافع، وحبسوها للعبادة، والأئمة ليسوا كذلك. والثالث: خص الأئمة بالقتال لأنهم إذا قتلوهم لم يبق لهم إمام في الكفر، فيذهب الكفر رأسا...
فيه دلالة على أن أهل العهد متى خالفوا شيئاً مما عُوهِدُوا عليه وطعنوا في ديننا فقد نقضوا العهد؛ وذلك لأن نَكْثَ الأيمان يكون بمخالفة بعض المحلوف عليه إذا كانت اليمين فيه على وجه النفي، ثم لما ضم إلى ذلك الطعن في الدين دل على أن أهل العهد من شروط بقاء عهدهم تركهم للطعن في ديننا وأن أهل الذمّة ممنوعون من إظهار الطعن في دين المسلمين، وهو يشهد لقول من يقول من الفقهاء إن من أظهر شَتْمَ النبي صلى الله عليه وسلم من أهل الذمة فقد نقض عهده ووجب قتله.
آراء ابن حزم الظاهري في التفسير 456 هـ :
أمر الله تعالى بقتالهم إذا نكثوا عهدهم حتى ينتهوا. وهذا عموم يوجب الانتهاء عن كل ما هم عليه من الضلال، وهذا يقتضي – ولا بد – أن لا يقبل منهم إلا الإسلام وحده، ولا يجوز أن يخص بقوله تعالى: {لعلهم ينتهون} انتهاء دون انتهاء، فيكون فاعل ذلك قائلا على الله تعالى ما لا علم له به، وهذا حرام، قال الله تعالى: {وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون} [الأعراف: 33] ).
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
وقوله "وطعنوا في دينكم "فالطعن هو: الاعتماد بالعيب...
أحكام القرآن لإلكيا الهراسي 504 هـ :
يدل على أن المعاهد لا يقتل في عهده ما لم ينكث، وذكر الأمرين لا يقتضي توقف قتالهم على وجودهما، فان النكث يقتضي ذلك بانفراده عقلاً وشرعاً. فالمراد به على هذا الوجه التمييز في الجمع، وتقديره: فإن نكثوا حل قتالهم وإن لم ينكثوا وطعنوا في الدين مع الوفاء بالعهد حل قتالهم. فإن قيل: فلم قال: فقاتلوا أئمة الكفر؟ ولم خصصهم بذلك مع وجود القتال من جميعهم؟ الجواب: أن من المحتمل أن يكون المراد به أن المقدم على الطعن في الدين ونكث العهد صار أصلاً ورأساً في الكفر، فهو من أئمة الكفر على هذا التأويل، أو عنى به المقدمين والرؤساء منهم، وأن قتالهم قتال أتباعهم، وأبان أنهم لا يحترمون ولا يهابون. قوله تعالى: {لَعَلّهُم يَنْتَهُون}: أبان به أن الغرض من قتال الكفار يجب أن يكون طلب إسلامهم، فمن رجا منهم الإسلام وتطلب تعريف الحق يجب السعي في بيان ذلك، لأن قوله: {لعلّهُم يَنْتَهُون}، أي كي ينتهوا عن كفرهم وباطلهم وأذيتهم للمسلمين، وذلك يقتضي أن يكون الغرض من قتالهم، إما دفع ضررهم فينتهون عن قتالنا، وإما الانتهاء عن كفرهم بإظهار الإسلام.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{وَطَعَنُواْ فِى دِينِكُمْ} وثلبوه وعابوه {فقاتلوا أَئِمَّةَ الكفر} فقاتلوهم، فوضع أئمة الكفر موضع ضميرهم: إشعاراً بأنهم إذا نكثوا في حال الشرك تمرّداً وطغياناً وطرحاً لعادات الكرام الأوفياء من العرب، ثم آمنوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وصاروا إخواناً للمسلمين في الدين، ثم رجعوا فارتدوا عن الإسلام ونكثوا ما بايعوا عليه من الإيمان والوفاء بالعهود، وقعدوا يطعنون في دين الله ويقولون ليس دين محمد بشيء، فهم أئمة الكفر وذوو الرياسة والتقدم فيه، لا يشق كافر غبارهم. وقالوا: إذا طعن الذمي في دين الإسلام طعناً ظاهراً، جاز قتله؛ لأن العهد معقود معه على أن لا يطعن، فإذا طعن فقد نكث عهده وخرج من الذمّة. {إِنَّهُمْ لا أيمان لَهُمْ}... فإن قلت: كيف أثبت لهم الأيْمان في قوله: {وَإِن نَّكَثُواْ أيْمانهم} ثم نفاها عنهم؟ قلت: أراد أيْمانهم التي أظهروها، ثم قال لا إيمان لهم على الحقيقة، وأيْمانهم ليست بأيْمان.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
وقوله {وطعنوا في دينكم} أي بالاستنقاص والحرب وغير ذلك مما يفعله المشرك...
أحكام القرآن لابن العربي 543 هـ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْله تَعَالَى {وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ}: دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الطَّاعِنَ فِي الدِّينِ كَافِرٌ، وَهُوَ الَّذِي يَنْسِبُ إلَيْهِ مَا لَا يَلِيقُ بِهِ، أَوْ يَعْتَرِضُ بِالِاسْتِخْفَافِ عَلَى مَا هُوَ من الدِّينِ؛ لِمَا ثَبَتَ من الدَّلِيلِ الْقَطْعِيِّ عَلَى صِحَّةِ أُصُولِهِ وَاسْتِقَامَةِ فُرُوعِهِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: إذَا طَعَنَ الذِّمِّيُّ فِي الدِّينِ انْتَقَضَ عَهْدُهُ لِقَوْلِهِ: {وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ...} إلَى: {فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ}؛ فَأَمَرَ اللَّهُ بِقَتْلِهِمْ وَقِتَالِهِمْ إذَا طَعَنُوا فِي دِينِكُمْ.
فَإِنْ قِيلَ: إنَّمَا أُمِرْنَا بِقِتَالِهِمْ بِشَرْطَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: نَكْثُهُمْ لِلْعَهْدِ.
وَالثَّانِي: طَعْنُهُمْ فِي الدِّينِ.
قُلْنَا: الطَّعْنُ فِي الدِّينِ نَكْثٌ لِلْعَهْدِ، بَلْ قَالَ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ: إنْ عَمِلُوا مَا يُخَالِفُ الْعَهْدَ انْتَقَضَ عَهْدُهُمْ. فَقَدْ رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ رُفِعَ إلَيْهِ أَنَّ ذِمِّيًّا نَخَسَ دَابَّةً عَلَيْهَا امْرَأَةٌ مُسْلِمَةٌ، فَرَمَحَتْ، فَأَسْقَطَتْهَا، فَانْكَشَفَ بَعْضُ عَوْرَتِهَا، فَأَمَرَ بِصَلْبِهِ فِي الْمَوْضِعِ...
{وإن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم وطعنوا في دينكم} يقال نكث فلان عهده إذا نقضه بعد إحكامه كما ينكث خيط الصوف بعد إبرامه، ومنه قوله تعالى: {من بعد قوة أنكاثا}. والأيمان جمع يمين بمعنى الحلف والقسم. وقيل: للحلف يمين، وهو اسم اليد لأنهم كانوا يبسطون أيمانهم إذا حلفوا أو تحالفوا. وقيل: سمي القسم يمينا ليمين البر فيه. فقوله: {وإن نكثوا أيمانهم} أي نقضوا عهودهم. وفيه قولان:
الأول: هو قول الأكثرين إن المراد نكثهم لعهد رسول الله صلى الله عليه وسلم. والثاني: أن المراد حمل العهد على الإسلام بعد الإيمان، فيكون المراد ردتهم بعد الإيمان، ولذلك قرأ بعضهم {وإن نكثوا إيمانهم من بعد عهدهم} والأول أولى للقراءة المشهورة، ولأن الآية وردت في ناقضي العهد لأنه تعالى صنفهم صنفين، فإذا ميز منهم من تاب لم يبق إلا من أقام على نقض العهد.
وقوله: {وطعنوا في دينكم} يقال طعنه بالرمح يطعنه، وطعن بالقول السيئ يطعن. قال الليث: وبعضهم يقول: يطعن بالرمح، ويطعن بالقول: فيفرق بينهما، والمعنى أنهم عابوا دينكم، وقدحوا فيه.
ثم قال: {فقاتلوا أئمة الكفر} أي متى فعلوا ذلك فافعلوا هذا...
قال الزجاج: هذه الآية توجب قتل الذمي إذا أظهر الطعن في الإسلام، لأن عهده مشروط بأن لا يطعن، فإن طعن فقد نكث ونقض عهدهم.
ثم قال تعالى: {إنهم لا أيمان لهم} قرأ ابن عامر {لا إيمان لهم} بكسر الألف ولها وجهان: أحدها: لا أمان لهم، أي لا تؤمنوهم. فيكون مصدرا من الإيمان الذي هو ضد الإخافة، والثاني: أنهم كفرة لا إيمان لهم، أي لا تصديق ولا دين لهم، والباقون بفتح الهمزة وهو جمع يمين، ومعناه لا أيمان لهم على الحقيقة. وأيمانهم ليست بأيمان، وبه تمسك أبو حنيفة رحمه الله في أن يمين الكافر لا يكون يمينا، وعند الشافعي رحمه الله يمينهم يمين، ومعنى هذه الآية عنده: أنهم لما لم يفوا بها صارت أيمانهم كأنها ليست بأيمان. والدليل على أن أيمانهم أيمان، أنه تعالى وصفها بالنكث في قوله: {وإن نكثوا أيمانهم} ولو لم يكن منعقدا لما صح وصفها بالنكث.
ثم قال تعالى: {لعلهم ينتهون} وهو متعلق بقوله: {فقاتلوا أئمة الكفر} أي ليكن غرضكم في مقاتلتهم بعدما وجد منهم ما وجد من العظائم أن تكون المقاتلة سببا في انتهائهم عما هم عليه من الكفر، وهذا من غاية كرم الله وفضله على الإحسان.
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
...الآية عامة، وإن كان سبب نزولها مشركي قريش فهي عامة لهم ولغيرهم، والله أعلم.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
المعنى: وإن نكث هؤلاء المشركون ما أبرمته أيمانهم أو ما أقسموا عليه أيمانهم من الوفاء بعد عهدهم الذي عقدوه معكم.
{وطعنوا في دينكم} أي عابوه وثلبوه بالاستهزاء به وصد الناس عنه وهو الذي عابه عليهم في الآيات المقابلة لهذه، ومنه الطعن في القرآن وفي النبي صلى الله عليه وسلم كما كان يفعل شعراؤهم الذين أهدر النبي صلى الله عليه وسلم دماءهم، فهذا العطف بيان للواقع وإيذان بأن الطعن في الإسلام ضرب من ضروب نكث الأيمان، ونقض السلم والولاء، كالقتال ومظاهرة الأعداء، فهو من عطف الخاص على العام، وليس المراد به تقييد حل قتالهم بالجمع بين الأمرين، بل هو كقوله: {ثم لم ينقصوكم شيئا ولم يظاهروا عليكم أحدا} [التوبة: 4].
{فقاتلوا أئمة الكفر} أي قادة أهله وحملة لوائه، فوضع الاسم الظاهر المبين لشر صفاتهم موضع ضميرهم، وقيل: إن المراد بأئمة الكفر رؤساء المشركين وصناديدهم الذين كانوا يغرونهم بعداوة النبي صلى الله عليه وسلم ويقوونهم لقتاله، وذكر بعض من قال هذا منهم أبا سفيان وأبا جهل وعتبة وشيبة وأمية بن خلف ممن كان قتل في بدر أو بعدها، وذلك من الغفلة بمكان لأن السورة نزلت بعد غزوة تبوك وبعد فتح مكة وفي أثنائه أسلم أبو سفيان، وهذه الأحكام إنما تثبت بعد أربعة أشهر من تاريخ تبليغها في يوم النحر من سنة تسع كما تقدم. وحملها بعضهم على الخوارج، وبعضهم على فارس والروم، وبعضهم على المرتدين بجعل الضمائر فيها راجعة إلى الذين تابوا وأقاموا الصلاة الخ، واختاره الزمخشري إذ قال في تفسير {فقاتلوا أئمة الكفر}: فقاتلوهم، فوضع أئمة الكفر موضع ضميرهم إشعارا بأنهم إذا نكثوا في حال الشرك تمردا وطغيانا وطرحا لعادات الكرام الأوفياء من العرب ثم آمنوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وصاروا إخوانا للمسلمين في الدين، ثم رجعوا فارتدوا عن الإسلام ونكثوا ما بايعوا عليه من الإيمان والوفاء بالعهود، وقعدوا يطعنون في دين الله ويقولون ليس دين محمد بشيء، فهم أئمة الكفر وذوو الرياسة والتقدم فيه، لا يشق كافر غبارهم، وقالوا: إذا طعن الذمي في دين الإسلام طعنا ظاهرا جاز قتله؛ لأن العهد معقود معه على أن لا يطعن، فإذا طعن فقد نكث عهده وخرج من الذمة اه.
ولا أدري ما الذي حمل هؤلاء المفسرين على إخراج الآية عن ظاهرها حتى إنهم رووا عن علي وحذيفة رضي الله عنهما أنهما قالا: ما قوتل أهل هذه الآية بعد، يعنون أنها نزلت في قوم يأتون بعد، وزعم بعضهم أنهم الدجال وقومه من اليهود، والحق أنها صريحة في مشركي العرب أصحاب العهود مع المؤمنين من بقي منهم، ويدخل في حكمها كل من كانت حاله مع المؤمنين كحالهم. فكل من يجمع بين عداوتهم بنكث عهودهم والطعن في دينهم فيجب عده من أئمة الكفر ولهم حكمهم، ومن لم يرهم أهلا لعقد العهد معه على قاعدة المساواة فهو أعدى وأظلم ممن ينكثون الأيمان، وذلك ما نشاهده من الجامعين بين الاعتداء على شعوبنا وبلادنا وبث الدعاة فيها للطعن في ديننا لصدنا عنه واستبدال دينهم به، أو جعلنا معطلين لا دين لهم.
وقد علل تعالى الأمر بقتالهم بقوله: {إنهم لا أيمان لهم} أي إن عهودهم كلا عهود، لأنها مخادعة لسانية لم يقصدوا الوفاء بها {يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم} [الفتح: 11] فهم ينقضونها في أول وهلة يستطيعون فيها ذلك بالظهور أو المظاهرة عليكم...
{لعلهم ينتهون} أي قاتلوهم راجين بقتالكم إياهم أن ينتهوا عن كفرهم وشركهم وما يحملهم عليه من نكث أيمانهم ونقض عهودهم والضراوة بقتالكم كلما قدروا عليه، وهو يتضمن النهي عن القتال اتباعا لهوى النفس أو إرادة منافع الدنيا من سلب وكسب وانتقام محض بالأولى، وتقدم نظيره في تفسير {فشرد بهم من خلفهم لعلهم يذكرون} [الأنفال: 57] وهذا مما امتاز به الإسلام على جميع شرائع الأمم وقوانينها من جعل الحرب ضرورة مقيدة بإرادة منع الباطل، وتقرير الحق والفضائل.
واستدل الحنفية بالآية على أن يمين الكافر لا تنعقد، ولو كان كذلك لما وجب علينا الوفاء لمن وفى بها منهم واستقام على وفائه، والآيات صريحة في الوجوب، وإنما نفاها عن الناكثين، وأعلمنا أنهم كانوا عازمين على النكث من أول وهلة وهو علام الغيوب، ولو لم يكن لهم أيمان على الإطلاق لما كان لهم نكث، وقد أثبتتهما لهم الآية التالية.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وإما نكث لما يبايعون عليه من الإيمان بعد الدخول فيه، وطعن في دين المسلمين. فهم إذن أئمة في الكفر، لا أيمان لهم ولا عهود. وعندئذ يكون القتال لهم؛ لعلهم حينئذ أن يثوبوا إلى الهدى.. كما سبق أن قلنا: إن قوة المعسكر المسلم وغلبته في الجهاد قد ترد قلوبا كثيرة إلى الصواب؛ وتريهم الحق الغالب فيعرفونه؛ ويعلمون أنه إنما غلب لأنه الحق؛ ولأن وراءه قوة الله؛ وأن رسول الله [ص] صادق فيما أبلغهم من أن الله غالب هو ورسله. فيقودهم هذا كله إلى التوبة والهدى. لا كرها وقهرا، ولكن اقتناعا بالقلب بعد رؤية واضحة للحق الغالب. كما وقع وكما يقع في كثير من الأحايين.
وبعد.. فما المدى الذي تعمل فيه هذه النصوص؟ ما المدى التاريخي والبيئي؟ أهي خاصة بأهل الجزيرة العربية في ذلك الزمان المحدد؟ أم إن لها أبعادا أخرى في الزمان والمكان؟
إن هذه النصوص كانت تواجه الواقع في الجزيرة العربية بين المعسكر الإسلامي ومعسكرات المشركين. وما من شك أن الأحكام الواردة بها مقصود بها هذا الواقع. وأن المشركين المعنيين فيها هم مشركو الجزيرة..
هذا حق في ذاته.. ولكن ترى هذا هو المدى النهائي لهذه النصوص؟
إن علينا أن نتتبع موقف المشركين -على مدى التاريخ- من المؤمنين. ليتكشف لنا المدى الحقيقي لهذه النصوص القرآنية؛ ولنرى الموقف بكامله على مدار التاريخ:
فأما في الجزيرة العربية فلعل ذلك معلوم من أحداث السيرة المشهورة. ولعل في هذا الجزء من الظلال وحده ما يكفي لتصوير مواقف المشركين من هذا الدين وأهله منذ الأيام الأولى للدعوة في مكة حتى هذه الفترة التي تواجهها نصوص هذه السورة.
وحقيقة إن المعركة الطويلة الأمد لم تكن بين الإسلام والشرك بقدر ما كانت بين الإسلام وأهل الكتاب من اليهود والنصارى. ولكن هذا لا ينفي أن موقف المشركين من المسلمين كان دائما هو الذي تصوره آيات هذا المقطع من السورة:
(كيف وإن يظهروا عليكم لا يرقبوا فيكم إلا ولا ذمة! يرضونكم بأفواههم وتأبى قلوبهم، وأكثرهم فاسقون. اشتروا بآيات الله ثمنا قليلا فصدوا عن سبيله، إنهم ساء ما كانوا يعملون. ولا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة، وأولئك هم المعتدون)..
لقد كان هذا هو الموقف الدائم للمشركين وأهل الكتاب من المسلمين. فأما أهل الكتاب فندع الحديث عنهم إلى موعده في المقطع الثاني من السورة؛ وأما المشركون فقد كان هذا دأبهم من المسلمين على مدار التاريخ..
وإذا نحن اعتبرنا أن الإسلام لم يبدأ برسالة محمد [ص] إنما ختم بهذه الرسالة. وأن موقف المشركين من كل رسول ومن كل رسالة من قبل إنما يمثل موقف الشرك من دين الله على الإطلاق؛ فإن أبعاد المعركة تترامى؛ ويتجلى الموقف على حقيقته؛ كما تصوره تلك النصوص القرآنية الخالدة، على مدار التاريخ البشري كله بلا استثناء!
ماذا صنع المشركون مع نوح، وهود، وصالح، وإبراهيم، وشعيب، وموسى، وعيسى، عليهم صلوات الله وسلامه والمؤمنين بهم في زمانهم؟ ثم ماذا صنع المشركون مع محمد [ص] والمؤمنين به كذلك؟.. إنهم لم يرقبوا فيهم إلا ولا ذمة متى ظهروا عليهم وتمكنوا منهم..
وماذا صنع المشركون بالمسلمين أيام الغزو الثاني للشرك على أيدي التتار؟ ثم ما يصنع المشركون والملحدون اليوم بعد أربعة عشر قرنا بالمسلمين في كل مكان؟... إنهم لا يرقبون فيهم إلا ولا ذمة، كما يقرر النص القرآني الصادق الخالد...
إنها لم تكن حالة طارئة ولا وقتية في الجزيرة العربية...
إنها الحالة الدائمة الطبيعية الحتمية؛ حيثما وجد مؤمنون يدينون بالعبودية لله وحده؛ ومشركون أو ملحدون يدينون بالعبودية لغير الله. في كل زمان وفي كل مكان.
ومن ثم فإن تلك النصوص -وإن كانت قد نزلت لمواجهة حالة واقعة في الجزيرة، وعنت بالفعل تقرير أحكام التعامل مع مشركي الجزيرة- إلا أنها أبعد مدى في الزمان والمكان. لأنها تواجه مثل هذه الحالة دائما في كل زمان وفي كل مكان. والأمر في تنفيذها إنما يتعلق بالمقدرة على التنفيذ في مثل الحالة التي نفذت فيها في الجزيرة العربية، ولا يتعلق بأصل الحكم ولا بأصل الموقف الذي لا يتبدل على الزمان..
... وقول الحق سبحانه وتعالى: {فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ}، أي: أن القتل يأتي أولا [على] زعماء الكفار الذين يحرضون أتباعهم على محاربة دين الله، فالأتباع ليسوا هم الأصل، ولكن أئمة الكفر؛ لأنهم هم الذين يخططون وينفذون ويحرضون وهم- كما يقال في العصر الحديث- مجرمو حرب؛ والعالم كله يعرف أن الحرب تنتهي متى تخلص من مجرمي الحرب؛ لأن هؤلاء هم الذين يضعون الخطط ويديرون المعارك ويقودون الناس إلى ميادين القتال، تماما كأئمة الكفر، هؤلاء الذين اجترأوا على أساليب القرآن الكريم، ومنعوا القبائل التي تأتي للحج من الاستماع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحاربوا الدين بكل السبل من إغراء وتحريض، وتهديد ووعيد...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
ويستمر الموقف في مواجهة القضية بطريقة الحسم، فهناك خطرٌ مباشرٌ يواجه الواقع الإسلامي آنذاك، من خلال هؤلاء الذين ينقضون العهد، ويتحدَّون الإسلام في فكره وشريعته، ما يخلق للمسيرة الإسلامية الكثير من حالة الإرباك والفوضى والقلق، ولذلك كانت التعليمات واضحة، بردّ الاعتداء الصادر من هؤلاء، وذلك بإعلان الحرب عليهم من جديد، واعتبار المعاهدات لاغيةً بسبب تصرفاتهم السلبية ضد الإسلام والمسلمين، والإيحاء بأن القضية لا تحتمل المهادنة والتأخير، لأن الخلفيات الكامنة وراء تصرفاتهم، تمثل الخطر الكبير على المستقبل، من جرّاء الروحيّة الحاقدة التي تتحرك في داخلهم في الحاضر، كما كانت في تاريخهم القريب، في الماضي، وهذا هو ما حاولت الآيات أن تثيره في وجه هذه التصرفات، في أسلوب يعتمد على توعية المسلمين، وتوجيههم نحو التأكيد على دراسة القضايا من جميع وجوهها، لا من وجهٍ واحد...