اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَإِن نَّكَثُوٓاْ أَيۡمَٰنَهُم مِّنۢ بَعۡدِ عَهۡدِهِمۡ وَطَعَنُواْ فِي دِينِكُمۡ فَقَٰتِلُوٓاْ أَئِمَّةَ ٱلۡكُفۡرِ إِنَّهُمۡ لَآ أَيۡمَٰنَ لَهُمۡ لَعَلَّهُمۡ يَنتَهُونَ} (12)

قوله { وَإِن نكثوا أَيْمَانَهُم } نقضوا عهودهم ، " الأيمان " جمع " يمين " بمعنى : الحلف . " مِّن بَعْدِ عَهْدِهِمْ " عقدهم . يعني : مشركي قريش . قال الأكثرون : المرادُ : نكثهم لعهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وقيل : المرادُ : حمل العهد على الإسلام ، ويؤيدهُ قراءة من قرأ " وإن نكثُوا إيمانَهُم " بكسر الهمزة والأول أولى ، للقراءة المشهورة ؛ ولأنَّ الآية وردت في ناقضي العهد ، وقوله : { وَطَعَنُواْ فِي دِينِكُمْ } أي : عابوه ، وهذا دليلٌ على أنَّ الذِّمِّي إذا طعن في دين الإسلام ظاهراً لا يَبْقَى له عهد .

قوله : { فقاتلوا أَئِمَّةَ الكفر } أي : متى فعلوا ذلك فافعلوا هذا . قرأ نافع{[17626]} وابن كثير وأبو عمرو " أئِمَّة " بهمزتين ثانيتهما مُسهَّلة بَيْنَ بَيْنَ ، ولا ألف بينهما .

والكوفيون{[17627]} وابن ذكوان عن ابن عامر بتحقيقهما ، من غير إدخال ألف بينهما ، وهشام كذلك ، إلاَّ أنَّه أدخل بينهما ألفاً ، هذا هو المشهور بين القراء السبعة ، وفي بعضها كلامٌ يأتي إن شاء الله تعالى ، ونقل أبو حيان عن نافع ومن معه ، أنَّهم يبدلون الثانية ياء صريحة ، وأنَّهُ قد نُقِلَ عن نافعٍ المدُّ بينهما ، أي : بين الهمزة والياء . فأمَّا قراءةُ التحقيق ، وبينَ بينَ ، فقد ضعَّفها جماعةٌ من النحويين ، كأبي علي الفارسي ، وتابعيه ، ومن القرَّاء أيضاً من ضعَّف التَّحقيق مع روايته له وقراءتِهِ به لأصحابه ، ومنهم من أنكر التسهيل بينَ بينَ ، فلم يقرأ به لأصحاب التخفيف ، وقرءوا بياء خفيفة الكسر ، نَصُّوا على ذلك في كتبهم ، وأمَّا القراءةُ بالياء فهي التي ارتضاها الفارسيُّ ، وهؤلاء الجماعة ؛ لأنَّ النُّطقَ بالهمزتين في كلمة واحدة ثقيل ، وهمزة بينَ بينَ بزنة المخففة .

والزمخشري جعل القراءة بصريح الياء لَحْناً ، وتحقيق الهمزتين غير مقبولٍ عند البصريين ، قال : " فإن قلت : كيف لفظ " أئمة " ؟ قلت : بهمزة بعدها همزةُ بين بين ، أي : بين مخرج الهمزة والياء وتحقيق الهمزتين قراءة مشهورة ، وإن لم تكنْ مقبولةً عند البصريين ، وأمَّا التصريحُ بالياء فلا يجوزُ أن تكون ، ومن قرأ بها فهو لاحن مُحرِّفٌ " .

قال أبُو حيَّان{[17628]} : " وذلك دَأبه في تلحين المقرئين ، وكيف يكون لحناً ، وقد قرأ بها رَأسُ النُّحاة البصريين أبو عمرو بن العلاءِ ، وقارىءُ أهْلِ مكة ابنُ كثير ، وقارىءُ أهل المدينة نافعٌ " ؟

قال شهابُ الدِّين{[17629]} : " لا يُنقَمُ على الزمخشريُّ شيءٌ ، فإنه إنَّما قال : إنَّها غيرُ مقبولة عند البصريين ، ولا يلزم من ذلك أنه لا يقبلها ، غاية ما في الباب أنَّه نقل عن غيره ، وأمَّا التصريحُ بالياء فإنَّه معذورٌ فيه ، لما تقدَّم من أنه اشتُهِر بين القراء التسهيل بين بين ، لا الإبدال المحض ، حتَّى إنَّ الشَّاطبي جعل ذلك مذهباً للنحويين ، لا للقراء ، فالزمخشري إنما اختار مذهب القراء لا مذهب النُّحاة في هذه اللَّفظة " .

وقد رَدَّ أبو البقاء قراءة التَّسهيل بينَ بينَ ، فقال : " ولا يجوزُ هنا أن تجعل بين بين ، كما جعلت همزة " أئذا " ؛ لأنَّ الكسرة هنا منقولة ، وهناك أصليةٌ ، ولو خُفِّفت الهمزةُ الثانية على القياس لقُلبت ألفاً ، لانفتاح ما قبلها ، ولكن تُرِكَ ذلك لتتحرك بحركةِ الميم في الأصل " .

قال شهابُ الدِّين " قوله " منقولةٌ " لا يُفيد ؛ لأنَّ النقل هنا لازم ، فهو كالأصل ، وقوله " ولوْ خُفِّفَتْ على القياس " إلى آخره ، لا يُفيد أيضاً ؛ لأنَّ الاعتناء بالإدغام سابقٌ على الاعتناء بتخفيف الهمزة " .

ووزن " أئِمَّة " " أفْعِلة " ، لأنَّها جمع " إمام " ك " حمار وأحْمِرة " والأصل : " أأمِمَة " فالتقى ميمان ، فأريد إدغامهما فنُقلت حركةُ الميم الأولى للسَّاكن قبلها ، وهو الهمزة الثانية ، فأدَّى ذلك إلى اجتماع همزتين ثانيتهما مكسورة ، فالنحويون البصريون يوجبون إبدال الثانية ياء ، وغيرهم يحقق ، أو يسهِّل بين بين ، ومنْ أدخلَ الألف فللخفَّة حتى يُفَرِّق بين الهمزتين ، والأحسنُ أن يكون ذلك في التحقيق ، كما قرأ هشام ، وأمَّا ما رواه أبو حيان عن نافع من المدِّ مع نقله عنه أنَّه يصرِّح بالياء فللمبالغة في الخفة .

قوله : " لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ " قرأ ابنُ{[17630]} عامر " لا إيمان " بكسر الهمزة ، وهو مصدرُ آمَن يُؤمن إيمانً . هل هو من الأمان ؟ وفي معناه حينئذٍ وجهان :

أحدهما : أنهم لا يؤمنون في أنفسهم ، أي : لا يُعطون أماناً بعد نُكثهم وطعنهم ، ولا سبيل إلى ذلك .

والثاني : الإخبار بأنهم لا يُوفُون لأحدٍ بعهدٍ يعقدُونَه له ، أو من التصديق أي : إنَّهم لا إسلام لهم ، واختار مكيٌّ التأويل الأوَّل ، لما فيه من تجديد فائدة لمْ يتقدَّم لها ذكرٌ ؛ لأنَّ وصفهم بالكفر وعدم الإيمان قد سَبَقَ وعُرِف .

وقرأ الباقون بالفتح ، وهو جمعُ يمين وهذا مناسب للنكث ، وقد أُجمع على فتح الثَّانية ، ويعني نفي الأيمان عن الكُفَّارِ ، أنَّهم لا يُوفُون بها وإن صدرتْ منهم وثَبتَتْ ؛ وهذا كقول الآخر : [ الطويل ]

وإِنْ حَلَفْتَ لا يَنْقُضُ النَّأيُ عَهْدَهَا *** فَليْسَ لِمخْضُوبِ البَنَانِ يَمِينُ{[17631]}

وبذلك قال الشَّافعي ، وحمله أبو حنيفةَ على حقيقته أنَّ يمين الكافرِ لا تكونُ يميناً شرعيةً ، وعند الشافعي يمينٌ شرعيةٌ .

فصل في المراد من الآية

معنى الآية : قاتلوا الكفار بأسرهم ، وإنَّما خصَّ الأئمة ، والسَّادة بالذِّكر ، لأنهم هم الذين يحرضون الأتباع على الأفعال الباطلة .

قال ابنُ عبَّاسٍ : " نزلت في أبي سفيان بن حربٍ ، والحارث بن هشام ، وسهل بن عمرو ، وعكرمة بن أبي جهل ، وسائر رؤساء قريش يومئذٍ ، والذين نقضُوا العهد ، وهم الذين همُّوا بإخراج الرسول " {[17632]} ، وقال مجاهدٌ " هم أهل فارس والروم " وقال حذيفة بن اليمان " ما قُوتل أهل هذه الآية ، ولم يأت أهلها بعد " {[17633]} .

{ إِنَّهُمْ لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ } أي : لا عهود لهم . ثم قال : { لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ } وهو متعلق بقوله : { فقاتلوا أَئِمَّةَ الكفر } أي : ليكن غرضكم في مقاتلتهم بعد ما وجد منهم من العظائم أن تكون المقاتلة سبباً في انتهائهم عن الكفر .


[17626]:ينظر: السبعة ص (312)، الحجة 4/167-176، حجة القراءات ص (315)، إعراب القراءات 1/235، النشر 1/378، إتحاف 2/87.
[17627]:انظر السابق.
[17628]:ينظر: البحر المحيط 5/17.
[17629]:ينظر: الدر المصون 3/450.
[17630]:ينظر: السبعة (312)، الحجة للقراء السبعة 4/177-178 حجة القراءات ص (315)، إعراب القراءات 1/235.
[17631]:البيت لكثير في ديوانه (176) شرح الحماسة 3/1309، وفي تفسير القرطبي 8/81 والدر المصون 3/451 والقرافي في الاستغناء (237).
[17632]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (6/329) عن قتادة وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (3/388) وزاد نسبته إلى عبد الرزاق وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ عن قتادة. وذكره البغوي في "تفسيره" (2/272) عن ابن عباس.
[17633]:ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (3/388) وعزاه إلى ابن أبي شيبة وابن أبي حاتم وأبي الشيخ وابن مردويه.