البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{وَإِن نَّكَثُوٓاْ أَيۡمَٰنَهُم مِّنۢ بَعۡدِ عَهۡدِهِمۡ وَطَعَنُواْ فِي دِينِكُمۡ فَقَٰتِلُوٓاْ أَئِمَّةَ ٱلۡكُفۡرِ إِنَّهُمۡ لَآ أَيۡمَٰنَ لَهُمۡ لَعَلَّهُمۡ يَنتَهُونَ} (12)

{ وإن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم وطعنوا في دينكم فقاتلوا أئمة الكفر إنهم لا أيمان لهم لعلهم ينتهون } أي : وإنْ نقضوا إقسامهم من بعدما تعاهدوا وتحالفوا على أنْ لا ينكثوا .

وطعنوا : أي عابوه وثلبوه واستنقصوه .

والطعن هنا مجاز ، وأصله الإصابة بالرمح أو العود وشبهه ، وهو هنا بمعنى العيب كما جاء في حديث إمارة أسامة : « إنْ تطعنوا في إمارته فقد طعنتم في إمارة أبيه من قبل » أي عبتموها واستنقصتموها .

والظاهر أنّ هذا الترديد في الشرطين هو في حق الكفار أصلاً ، لأنّ من أسلم ثم ارتد فيكون قوله : فقاتلوا أئمة الكفر ، أي رؤساء الكفر وزعماءه .

والمعنى : فقاتلوا الكفار ، وخص الأئمة بالذكر لأنهم هم الذين يحرضون الأتباع على البقاء على الكفر .

وقال الكرماني : كل كافر إما نفسه ، فالمعنى فقاتلوا كل كافر .

وقيل : من أقدم على نكث العهد والطعن في الدين صار رأساً في الكفر ، فهو من أئمة الكفر .

وقال ابن عباس : أئمة الكفر زعماء قريش .

وقال القرطبي : هو بعيد ، لأن الآية في سورة براءة ، وحين نزلت كان الله قد استأصل شأفة قريش ولم يبق منهم إلا مسلم أو مسالم .

وقال قتادة : المراد أبو جهل بن هشام وعتبة بن ربيعة ، وغيرهم ، وهذا ضعيف إن لم يؤخذ على جهة المثال ، لأن الآية نزلت بعد بدر بكثير .

وروي عن حذيفة أنه قال : لم يجىء هؤلاء بعدُ ، يريد لم ينقرضوا فهم يجيئون أبداً ويقاتلون .

وقال ابن عطية : أصوب ما في هذا أن يقال : إنه لا يعني بها معين ، وإنما دفع الأمر بقتال أئمة الناكثين العهود من الكفرة إلى يوم القيامة دون تعيين ، واقتضت حال كفار العرب ومحاربي رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكون الإشارة إليهم أولاً بقوله : أئمة الكفر ، وهم حصلوا حينئذ تحت اللفظة ، إذ الذي يتولى قتال النبي صلى الله عليه وسلم والدفع في صدر شريعته هو إمام كل من يكفر بذلك الشرع إلى يوم القيامة ، ثم يأتي في كل جيل من الكفار أئمة خاصة بجيل جيل انتهى .

وقيل : المراد بالعهد الإسلام ، فمعناه كفروا بعد إسلامهم .

ولذلك قرأ بعضهم : وإنْ نكثوا إيمانهم بالكسر ، وهو قول الزمخشري ، قال : فقاتلوا أئمة الكفر فقاتلوهم ، فوضع أئمة الكفر موضع ضميرهم ، إشعاراً بأنهم إذا نكثوا في حالة الشرك تمرداً وطغياناً وطرحاً لعادات الكرام الأوفياء من العرب ، ثم آمنوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وصاروا إخواناً للمسلمين في الدين ، ثم رجعوا فارتدوا عن الإسلام ونكثوا ما بايعوا عليه من الإيمان والوفاء بالعهد ، وقعدوا يطعنون في دين الله تعالى ويقولون ليس دين محمد بشيء ، فهم أئمة الكفر وذوو الرئاسة والتقدم فيه ، لا يشق كافر غبارهم .

والمشهور من مذهب مالك أنّ الذمي إذا طعن في الدين ففعل شيئاً مثل تكذيب الشريعة والسب للنبي صلى الله عليه وسلم ونحوه قتل .

وقيل : إنْ أعلن بشيء مما هو معهود من معتقده وكفره أدب على الإعلان وترك ، وإنْ كفر بما هو ليس من معتقده كالسب ونحوه قتل .

وقال أبو حنيفة : يستتاب ، واختلف إذا سب الذمي ثم أسلم تقية القتل .

فالمشهور من مذهب مالك أنه يترك ، لأن الإسلام يجبّ ما قبله ، وفي العتبية أنه يقتل ، ولا يكون أحسن حالاً من المسلم .

وقرأ الحرميان وأبو عمرو : بإبدال الهمزة الثانية ياء .

وروي عن نافع مد الهمزة .

وقرأ باقي السبعة وابن أبي أويس عن نافع : بهمزتين ، وأدخل هشام بينهما ألفاً وأصله أأممة على وزن أفعلة جمع إمام ، أدغموا الميم في الميم فنقلت حركتها إلى الهمزة قبلها .

وقال الزمخشري : ( فإن قلت ) : كيف لفظ أئمة ؟ ( قلت ) : همزة بعدها همزة بين بين ، أي بين مخرج الهمزة والياء .

وتحقيق الهمز هي قراءة مشهورة ، وإن لم تكن مقبولة عند البصريين ، وأما التصريح بالياء فليس بقراءة ، ولا يجوز أن تكون .

ومن صرح بها فهو لاحن محرف انتهى .

وذلك دأبه في تلحين المقرئين .

وكيف يكون ذلك لحناً وقد قرأ به رأس البصريين النحاة أبو عمرو بن العلاء ، وقارىء مكة ابن كثير ، وقارىء مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم نافع ، ونفى إيمانهم لما لم يثبتوا عليها ولا وفوا بها جعلوا لا أيمان لهم ، أو يكون على حذف الوصف أي : لا أيمان لهم يوفون بها .

وقرأ الجمهور : بفتح الهمزة .

وقرأ الحسن ، وعطاء ، وزيد بن علي ، وابن عامر : لا إيمان لهم أي لا إسلام ولا تصديق .

قال أبو علي : وهذا غير قوي ، لأنه تكرار وذلك لأنه وصف أئمة الكفر بأنهم لا إيمان لهم ، فالوجه في كسر الألف أنه مصدر أمنه إيماناً ، ومنه قوله تعالى : { وآمنهم من خوف } فالمعنى أنهم لا يؤمنون أهل الذمة ، إذ المشركون لم يكن لهم إلا الإسلام أو السيف .

قال أبو حاتم : فسر الحسن قراءته لا إسلام لهم انتهى .

وكذا تبعه الزمخشري ، فقال : وقرىء لا إيمان لهم ، أي لا إسلام لهم ، ولا يعطون الأمان بعد الردة والنكث ، ولا سبيل إليه .

وبقراءة الفتح استشهد أبو حنيفة على أن يمين الكافر لا يكون يميناً وعند الشافعي يمينهم يمين ، وقال : معناه أنهم لا يوفون بها بدليل الله تعالى وصفهم بالنكث لعلهم ينتهون متعلق بقوله : فقاتلوا أئمة الكفر ، أي ليكن غرضكم في مقاتلتهم بعدما وجد منهم من العظائم ما وجد انتهاءهم عما هم فيه ، وهذا من كرمه سبحانه وفضله وعوده على المسيء بالرحمة .