قوله تعالى : { والذين يؤمنون بما أنزل إليك } يعني القرآن .
قوله تعالى : { وما أنزل من قبلك } . من التوراة والإنجيل وسائر الكتب المنزلة على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، ويترك أبو جعفر و ابن كثير وقالون وأهل البصرة ويعقوب كل مدة تقع بين كل كلمتين . والآخرون يمدونها . وهذه الآية في المؤمنين من أهل الكتب .
قوله تعالى : { وبالآخرة } . أي بالدار الآخرة سميت الدنيا دنيا لدنوها من الآخرة وسميت الآخرة آخرة لتأخرها وكونها بعد الدنيا .
قوله تعالى : { هم يوقنون } . أي يستيقنون أنها كائنة ، من الإيقان : وهو العلم . وقيل : الإيقان واليقين : علم عن استدلال . ولذلك لا يسمى الله موقناً ولا علمه يقيناً إذ ليس علمه عن استدلال .
{ والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك } هم مؤمنو أهل الكتاب كعبد الله بن سلام رضي الله تعالى عنه وأضرابه ، معطوفون على { الذين يؤمنون بالغيب } ، داخلون معهم في جملة المتقين دخول أخصين تحت أعم ، إذ المراد بأولئك الذين آمنوا عن شرك وإنكار ، وبهؤلاء مقابلوهم فكانت الآيتان تفصيلا { للمتقين } ، وهو قول ابن عباس رضي الله عنهما . أو على المتقين وكأنه قال { هدى للمتقين } عن الشرك ، والذين آمنوا من أهل الملل . ويحتمل أن يراد بهم الأولون بأعيانهم ، ووسط العاطف كما وسط في قوله : إلى الملك القرم وابن الهمام *** وليث الكتيبة في المزدحم
يا لهف ذؤابة للحارث الص *** ائح فالغانم فالآيب
على معنى أنهم الجامعون بين الإيمان بما يدركه العقل جملة والإتيان بما يصدقه من العبادات البدنية والمالية وبين الإيمان بما لا طريق إليه عبر السمع . وكرر الموصول تنبيها على تغاير القبيلين وتباين السبيلين . أو طائفة منهم وهم مؤمنو أهل الكتاب ، ذكرهم مخصصين عن الجملة كذكر جبريل وميكائيل بعد الملائكة تعظيما لشأنهم وترغيبا لأمثالهم .
والإنزال نقل الشيء من الأعلى إلى الأسفل وهو إنما يلحق المعاني بتوسط لحوقه الذوات الحاملة لها ، ولعل نزول الكتب الإلهية على الرسل بأن يلتقفه الملك من الله تعالى .
تلقفا روحانيا ، أو يحفظه من اللوح المحفوظ فينزل به فيبلغه إلى الرسول . والمراد { بما أنزل إليك } القرآن بأسره والشريعة عن آخرها ، وإنما عبر عنه بلفظ الماضي وإن كان بعضه مترقبا تغليبا للموجود على ما لم يوجد . أو تنزيلا للمنتظر منزلة الواقع ، ونظيره قوله تعالى : { إنا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى } . فإن الجن لم يسمعوا جميعه ولم يكن الكتاب كله منزلا حينئذ . وبما { أنزل من قبلك } التوراة والإنجيل وسائر الكتب السابقة ، والإيمان بها جملة فرض عين ، وبالأول دون الثاني تفصيلا من حيث إنا متعبدون بتفاصيله فرض ، ولكن على الكفاية . لأن وجوبه على كل أحد يوجب الحرج وفساد المعاش .
{ وبالآخرة هم يوقنون } أي يوقنون إيقانا زال معه ما كانوا عليه من أن الجنة لا يدخلها إلا من كان هودا أو نصارى ، وأن النار لم تمسهم إلا أياما معدودة ، واختلافهم في نعيم الجنة : أهو من جنس نعيم الدنيا أو غيره ؟ وفي دوامه وانقطاعه ، وفي تقديم الصلة وبناء يوقنون على هم تعريض لمن عداهم من أهل الكتاب ، وبأن اعتقادهم في أمر الآخرة غير مطابق ولا صادر عن إيقان . واليقين : إتقان العلم بنفي الشك والشبهة عنه نظرا واستدلالا ، ولذلك لا يوصف به علم البارئ ، ولا العلوم الضرورية . والآخرة تأنيث الآخر ، صفة الدار بدليل قوله تعالى : { تلك الدار الآخرة } فغلبت كالدنيا ، وعن نافع أنه خففها بحذف الهمزة إلقاء حركتها على اللام ، وقرئ يوقنون بقلب الواو همزة لضم ما قبلها إجراء لها مجرى المضمومة في وجوه ووقتت ونظيره :
قوله : { بما أنزل إليك } يعني القرآن { وما أنزل من قبلك } يعني الكتب السالفة . وقرأ أبو حيوة ويزيد بن قطيب . «بما أنزل . . . وما أنزل » بفتح الهمزة فيهما خاصة . والفعل على هذا يحتمل أن يستند إلى الله تعالى ، ويحتمل إلى جبريل ، والأول أظهر وألزم .
{ وبالآخرة }( {[173]} ) قيل معناه بالدار الآخرة ، وقيل بالنشأة الآخرة .
و { يوقنون } معناه يعلمون علماً متمكناً في نفوسهم . واليقين أعلى درجات العلم ، وهو الذي لا يمكن أن يدخله شك بوجه .
وقول مالك رحمه الله : «فيحلف على يقينه ثم يخرج الأمر على خلاف ذلك » تجوّز منه في العبارة على عرف تجوّز العرب ، ولم يقصد( {[174]} ) تحرير الكلام في اليقين .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{والذين يؤمنون}، يعني يصدقون. {بما أنزل إليك} يا محمد من القرآن أنه من الله نزل، {وما أنزل من قبلك} على الأنبياء، يعني التوراة والإنجيل والزبور. {وبالآخرة هم يوقنون} يعني يصدقون بالبعث الذي فيه جزاء الأعمال بأنه كائن.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
{وَالّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ} أي يصدقونك بما جئت به من الله جل وعز، وما جاء به من قبلك من المرسلين، لا يفرقون بينهم ولا يجحدون ما جاءوهم به من عند ربهم...
أما الآخرة، فإنها صفة للدار، كما قال جل ثناؤه: (وَإِنّ الدّارَ الآخِرَةِ لَهِيَ الحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ) وإنما وصفت بذلك لمصيرها آخرة لأولى كانت قبلها كما تقول للرجل: أنعمت عليك مرة بعد أخرى فلم تشكر لي الأولى ولا الاَخرة. وإنما صارت الاَخرة آخرة للأولى، لتقدم الأولى أمامها، فكذلك الدار الاَخرة سميت آخرة لتقدم الدار الأولى أمامها، فصارت التالية لها آخرة.
وقد يجوز أن تكون سميت آخرة لتأخرها عن الخلق، كما سميت الدنيا دنيا لدنوّها من الخلق.
وأما الذي وصف الله جل ثناؤه به المؤمنين بما أنزل إلى نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، وما أنزل إلى من قبله من المرسلين من إيقانهم به من أمر الاَخرة، فهو إيقانهم بما كان المشركون به جاحدين، من البعث والنشر والثواب والعقاب والحساب والميزان، وغير ذلك مما أعدّ الله لخلقه يوم القيامة...
عن ابن عباس:"وبالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ" أي بالبعث والقيامة والجنة والنار والحساب والميزان، أي لا هؤلاء الذين يزعمون أنهم آمنوا بما كان قبلك، ويكفرون بما جاءك من ربك. وهذا التأويل من ابن عباس قد صرّح عن أن السورة من أولها، وإن كانت الآيات التي في أولها من نعت المؤمنين، تعريض من الله عز وجل بذم الكفار أهل الكتاب، الذين زعموا أنهم بما جاءت به رسل الله عز وجل الذين كانوا قبل محمد صلوات الله عليهم وعليه مصدقون وهم بمحمد عليه الصلاة والسلام مكذبون، ولما جاء به من التنزيل جاحدون، ويدعون مع جحودهم ذلك أنهم مهتدون وأنه لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى. فأكذب الله جل ثناؤه ذلك من قيلهم بقوله: {الم ذَلِكَ الكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى للْمُتّقِينَ الّذِينَ يُؤْمِنُونَ بالغَيْبِ وَيُقيمُونَ الصّلاةَ وممّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ وَالّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِهَا أُنْزِلَ إِلَيكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ}. وأخبر جل ثناؤه عباده أن هذا الكتاب هدى لأهل الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم، وبما جاء به المصدقين بما أنزل إليه وإلى من قبله من رسله من البينات والهدى خاصة، دون من كذب بمحمد صلى الله عليه وسلم وبما جاء به، وادعى أنه مصدق بمن قبل محمد عليه الصلاة والسلام من الرسل وبما جاء به من الكتب.
ثم أكد جل ثناؤه أمر المؤمنين من العرب ومن أهل الكتاب المصدقين بمحمد عليه الصلاة والسلام وبما أُنزل إليه وإلى من قبله من الرسل بقوله: {أُولئِكَ على هدَىً مِنْ رَبّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ} فأخبر أنهم هم أهل الهدى والفلاح خاصة دون غيرهم، وأن غيرهم هم أهل الضلال والخسار...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
في تقديم {وبالآخرة} وبناء {يُوقِنُونَ} على {هُمْ} تعريض بأهل الكتاب وبما كانوا عليه من إثبات أمر الآخرة على خلاف حقيقته، وأنّ قولهم ليس بصادر عن إيقان، وأن اليقين ما عليه من آمن بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك. والإيقان: إتقان العلم بانتفاء الشك والشبهة عنه.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
{يوقنون} معناه يعلمون علماً متمكناً في نفوسهم. واليقين أعلى درجات العلم، وهو الذي لا يمكن أن يدخله شك بوجه...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
وبعد أن بين حال هذه الفرقة التي يكون الكتاب هدى لها، يخرجها من ظلمات الشك إلى نور اليقين، وينكب بها عن مهاب رياح الفكر إلى مستقر السكينة. ومستكن الطمأنينة، بما تتعرفه النفس من جانب القدس، عطف عليها بيان حال الفرقة التي اهتدت به فعلا، وصار إماما لها تتبعه في جميع أعمالها، دون أن تغمض عينها عنه. بعد أن أضاء لها ما أضاء منه، فقال عز من قائل. {والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون}.
أقول: روى عن ابن عباس (رضي الله عنه) أن المراد بالمؤمنين هنا من يؤمن بالنبي والقرآن من أهل الكتاب، وبالمؤمنين فيما قبلها من يؤمن من مشركي العرب. واختاره ابن جرير وآخرون. وعن مجاهد وأبي العالية والربيع بن أنس وقتادة أن المؤمنين في الآيتين قسم واحد، وهو كل مؤمن وإنما تعدد ما يؤمنون به. فالعطف فيهما عطف الصفات لا عطف الموصوفين.
هذه هي الطبقة الثانية، وأعيد لفظ {الذين} لتحقيق التمايز بين الطبقتين. وهذه الطبقة أرقى من الطبقة الأولى، لأن أوصافها تقتضي الأوصاف التي أجريت على تلك وزيادة، فالقرآن يكون هدى لها بالأولى، ومعنى كونه هدى لها: أنه يكون إمامها في أعمالها وأحوالها، لا تحيد عن النهج الذي نهجه لها، كما ذكرنا.
ما كل من أظهر الإيمان بما ذكر مهتد بالقرآن. فالمؤمنون بالقرآن على ضروب شتى، ونرى بيننا كثيرين ممن إذا سئل عن القرآن قال: هو كلام الله ولا شك ولكن إذا عرضت أعماله وأحواله على القرآن تراها مباينة له كل المباينة. والقرآن ينهى عن الغيبة والنميمة والكذب، وهو يغتاب ويسعى بالنميمة ولا يتأثم من الكذب. القرآن يأمر بالفكر والتدبر، وهو كما وصف القرآن المكذبين بقوله تعالى فيهم: {51: 11 الذين هم في غمرة ساهون} لا يفكر في أمر آخرته، ولا في مستقبله ولا مستقبل أمته، ولا يتدبر الآيات والنذر، ولا الحوادث والعبر.
إن المؤمن الموقن المذكور في الآية الكريمة هو الذي يزين أعماله وأخلاقه باستكمال ما هدي إليه من القرآن دائما، ويجعله معيارا يعرض عليه تلك الأعمال والأخلاق، ليتبين: هل هو مهتد به أم لا؟ مثال ذلك: الصلاة. يصفها القرآن بأنها تنهى عن الفحشاء والمنكر، وقال في المصلين {70: 19- 22 إن الإنسان خلق هلوعا * إذا مسه الشر جزوعا * وإذا مسه الخير منوعا * إلا المصلين}.
فبين أن الصلاة تقتلع الصفات الذميمة الراسخة التي تكاد تكون فطرية. فمن لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر. ولم تقتلع من نفسه جذور الجبن والهلع وتصطلم جراثيم البخل والطمع، فليعلم أنه ليس مصليا في عرف القرآن، ولا مستحقا لما وعد عباده الرحمان.
أما لفظ "الإنزال "فالمراد به ما ورد من جانب الربوبية الرفيع الأعلى، وأوحى إلى العباد من الإرشاد الإلهي الأسمى، وسمي إنزالا لما في جانب الألوهية من ذلك العلو. علو الرب على المربوب، والخالق على المخلوقين، الذين لا يخرجون بالتكريم والاصطفاء عن كونهم عبيدا خاضعين. وقد سمى القرآن غير الوحي من إسداء النعم الإلهية إنزالا فقال {57: 25 وأزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس} فنكتفي بهذا من معنى الإنزال، وهو ما يفهمه كل عربي، من حاضر وبدوي.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
(والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك). وهي الصفة اللائقة بالأمة المسلمة، وارثة العقائد السماوية، ووارثة النبوات منذ فجر البشرية، والحفيظة على تراث العقيدة وتراث النبوة، وحادية موكب الإيمان في الأرض إلى آخر الزمان. وقيمة هذه الصفة هي الشعور بوحدة البشرية، ووحدة دينها، ووحدة رسلها، ووحدة معبودها.. قيمتها هي تنقية الروح من التعصب الذميم ضد الديانات والمؤمنين بالديانات ما داموا على الطريق الصحيح.. قيمتها هي الاطمئنان إلى رعاية الله للبشرية على تطاول أجيالها وأحقابها. هذه الرعاية البادية في توالي الرسل والرسالات بدين واحد وهدى واحد. قيمتها هي الاعتزاز بالهدى الذي تتقلب الأيام والأزمان، وهو ثابت مطرد، كالنجم الهادي في دياجير الظلام.
(وبالآخرة هم يوقنون).. وهذه خاتمة السمات. الخاتمة التي تربط الدنيا بالآخرة، والمبدأ بالمصير، والعمل بالجزاء؛ والتي تشعر الإنسان أنه ليس لقى مهملا، وأنه لم يخلق عبثا، ولن يترك سدى؛ وأن العدالة المطلقة في انتظاره، ليطمئن قلبه، وتستقر بلابله، ويفيء إلى العمل الصالح، وإلى عدل الله روحمته في نهاية المطاف.
واليقين بالآخرة هو مفرق الطريق بين من يعيش بين جدران الحس المغلقة، ومن يعيش في الوجود المديد الرحيب. بين من يشعر أن حياته على الأرض هي كل ما له في هذا الوجود، ومن يشعر أن حياته على الأرض ابتلاء يمهد للجزاء، وأن الحياة الحقيقية إنما هي هنالك، وراء هذا الحيز الصغير المحدود.
وكل صفة من هذه الصفات -كما رأينا- ذات قيمة في الحياة الإنسانية، ومن ثم كانت هي صفات المتقين. وهناك تساوق وتناسق بين هذه الصفات جميعا، هو الذي يؤلف منها وحدة متناسقة متكاملة. فالتقوى شعور في الضمير، وحالة في الوجدان، تنبثق منها اتجاهات وأعمال؛ وتتوحد بها المشاعر الباطنة والتصرفات الظاهرة؛ وتصل الإنسان بالله في سره وجهره. وتشف معها الروح فتقل الحجب بينها وبين الكلي الذي يشمل عالمي الغيب والشهادة، ويلتقي فيه المعلوم والمجهول. ومتى شفت الروح وانزاحت الحجب بين الظاهر والباطن، فإن الإيمان بالغيب عندئذ يكون هو الثمرة الطبيعية لإزالة الحجب الساترة، واتصال الروح بالغيب والاطمئنان إليه. ومع التقوى والإيمان بالغيب عبادة الله في الصورة التي اختارها، وجعلها صلة بين العبد والرب. ثم السخاء بجزء من الرزق اعترافا بجميل العطاء، وشعورا بالإخاء. ثم سعة الضمير لموكب الإيمان العريق، والشعور بآصرة القربى لكل مؤمن ولكل نبي ولكل رسالة. ثم اليقين بالآخرة بلا تردد ولا تأرجح في هذا اليقين.. وهذه كانت صورة الجماعة المسلمة التي قامت في المدينة يوم ذاك، مؤلفة من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار. وكانت هذه الجماعة بهذه الصفات شيئا عظيما. شيئا عظيما حقا بتمثل هذه الحقيقة الإيمانية فيها. ومن ثم صنع الله بهذه الجماعة أشياء عظيمة في الأرض، وفي حياة البشر جميعا.. ومن ثم كان هذا التقرير: (أولئك على هدى من ربهم، وأولئك هم المفلحون)
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
{والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون} بعد هذه الأوصاف الذاتية التي يؤمنون فيها بالغيب، فتخشع قلوبهم لذكر الله، ويقيمون الصلاة فتتجه قلوبهم إليه، وينفقون مما رزقهم الله تعالى على أنفسهم وعلى عباد الله تعالى إنفاقا في غير تبذير أو إسراف. بعد ذلك بين الله تعالى أن من صفات هؤلاء المتقين أنهم من أجل صفاتهم أنهم يؤمنون برسالات الله إلى خلقه بالكتب المنزلة التي أنزلها قبل القرآن، وبالقرآن المنزل من عند الله العلي الحكيم، ويؤمنون بالشرائع التي جاءت في القرآن الكريم وفي الكتب التي أنزلت، لا يفرقون بين أحد من رسله، ولا بين كتاب من كتبه إلا أن يكون قد نسخ الله تعالى بعض أحكام في كتب أنزلها.
فقوله تعالى: {والذين يؤمنون بما أنزل إليك} هم المتقون الذين يؤمنون ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون، وتكرار (الاسم) الموصول في قوله تعالى: {والذين يؤمنون بما أنزل إليك} لا يدل على المغايرة فيمن نزلت فيهم الآيات، إنما يدل على المغايرة في الصفات، وإن كان الموصوف واحدا...
وقد ادعى بعض المفسرين أن قوله تعالى: {والذين يؤمنون بما أنزل إليك} إلى آخر الآية. إنما نزلت في اليهود الذين آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم: كعبد الله بن سلام وغيره، وينطبق عليهم قول النبي صلى الله عليه وسلم: (ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين: رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه، وآمن بي، ورجل مملوك أدى حق الله تعالى وحق مواليه، ورجل أدب جاريته، فأحسن تأديبها، ثم أعتقها وتزوجها) 108.
والحق أن فصل {والذين يؤمنون بما أنزل إليك} عن سياق ما قبلها من غير دليل – مخالفة لظاهر السياق من غير باعث يبعث على ذلك، والسياق واضح متسق على أن ذلك كله وصف للمتقين، فهم لإيمانهم بالحق، وخشوع قلوبهم يتقبلون الهدايات السماوية مذعنين غير معاندين ولا منحرفين، وإن المتقين يشملون من اتصف بتقوى الله تعالى مصغين إلى تكليفه، مؤمنين بغيبه مقرين بحق عباده، وهم من كل خلق الله، لا فرق بين عربي وكتابي، ولا من كان أصلا وثنيا، أو كان يهوديا أو نصرانيا؛ فمن اتقى الله واستقام على الجادة وآمن بالغيب واتجه إلى ربه، فالآية تشتمل عليه، ولا يخرج عنها، فالعموم أولى وأوفق مع السياق من الخصوص.
والذي أنزل إليك في قوله تعالى: {يؤمنون بما أنزل إليك} هو القرآن الكريم، وما اشتمل عليه من تكليفات وشرائع، وما جاء به من أخبار الماضين، وقصص الغابرين، ولقد قيل إن القرآن لم يكن قد نزل كله، فكيف يكون الإيمان به قبل نزوله كله، وإنه يرد ذلك القيل بأن بعض القرآن قرآن في دلائل إعجازه، وأن الإيمان بالجزء إيمان بالكل، وأنه يصح أن يطلق سماع القرآن على سماع بعضه، كما قال تعالى عن سماع الجن للقرآن، إذ قال: {وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن... (29)} [الأحقاف] وما سمعوا إلا جزءا منه.
وإنه لا وجه للاعتراض بأن القرآن لم يكن قد نزل إلا بعضه، لأن الله تعالى يقول: {يؤمنون بما أنزل إليك} وقد ابتدأ النزول، فابتداء التنزيل المستمر نزول له كله، كما قال تعالى: {شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن... (185)} [البقرة] فما نزل فيه إلا أوله، ولكنه مستمر التنزيل إلى أن كمل الدين.
وإن الآية الكريمة تبين أن الإيمان الكامل بمحمد صلى الله عليه وسلم، وما أنزل عليه من شرائع يتقاضى المؤمن أن يكون مؤمنا بكل النبيين السابقين وشرائعهم كما قال تعالى: {والذين آمنوا بالله ورسله ولم يفرقوا بين أحد منهم... (152)} [النساء] ولقد روى في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تكذبوهم ولا تصدقوهم، ولكن قولوا آمنا بالذي أنزل إلينا، والذي أنزل إليكم) 109.
وإن الإسلام دين الوحدانية، ودين الوحدة الإنسانية، ودين الرسالة الإلهية التي لا تفرق بين نبي ونبي إلا في آيات الله تعالى المثبتة للرسالة التي تخص كل نبي، وكلها يجب الإيمان به وتصديقه، ومن لم يصدق فقد كفر.
ولقد قرر الله سبحانه وتعالى أن شأن أولئك المتقين {الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون} فهذا ما جاءت به الديانات الإلهية كلها، فأساس الإيمان في هذه الأديان، وفي كل دين حق أن يؤمن بأن الحياة الآخرة هي المآل، وأن الحياة الدنيا سبيل إلى الحياة الآخرة، ذلك أن هذه الحياة فيها تنازع الخير والشر، وأنه معتركها، وأن الشر كثيرا ما ينتصر على الخير فيها، فلا بد للخير من أمل يكون فيه الانتصار للخير، وتجزى كل نفس ما كسبت؛ ولذلك كان الإيمان بالآخرة، إيمانا بانتصار الخير على الشر؛ ولذلك قال تعالى: {قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله... (31)} [الأنعام].
وقوله تعالى: {وبالآخرة هم يوقنون}، فيه الإيقان مصدر أيقن، وهو إحكام العلم وإتقانه، بحيث لا يكون شك ولا ريب في أية ناحية من نواحيه، ولا أي حقيقة من حقائقه، وبمقدار قوة الإيمان بالآخرة تكون قوة الإيمان فمن كان مؤمنا بربه حق الإيمان كان مؤمنا بالآخرة كأنها عيان.
وقد أكد سبحانه ضرورة الإيمان بها في تقديم الجار والمجرور على الفعل، فإن التقديم فيه مزيد من الاهتمام بهذا اليقين، واختصاص، أي أنه لا يؤمن إلا بالحياة الآخرة، وما فيها من جنة ونعيم، وبعث وحساب، وجحيم، كأنه رأي العين، وأن الحياة الدنيا ليست موضع إيمان، فالحياة الآخرة وحدها هي الجديرة بالإيمان، وكان التأكيد بكلمة {هم} فهو تصوير لليقين بصورة الجملة الاسمية، والجملة الاسمية تدل على بقاء اليقين واستمراره بحيث لا يضطرب ولا يتزعزع ولا ينسى ذلك اليوم أبدا.
وقد يقال ما موضع {وبالآخرة هم يوقنون} من قوله تعالى: {يؤمنون بالغيب}؟ ونقول في ذلك إن قوله تعالى: {يؤمنون بالغيب} كما فهمنا، وكما ذكرنا فيه أنهم لا يؤمنون بأن الوجود مادة، ليس فيما وراءه وجود، كأولئك الملاحدة الذين يظنون أن المادة هي "الموجود "وحدها، بدون أن يكون وراءها ما يؤمنون به، فذكر الله سبحانه وتعالى أن النفس التقية الخاشعة الخاضعة، لا تقول: خلقنا الله عبثا، بل تدرك بالفطرة أن وراء المادة معنى وحياة.
أما قوله تعالى {وبالآخرة هم يوقنون} فهي تخصيص من العموم والله ولي المؤمنين في الدنيا والآخرة.