فتح الرحمن في تفسير القرآن لتعيلب - تعيلب  
{وَٱلَّذِينَ يُؤۡمِنُونَ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيۡكَ وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبۡلِكَ وَبِٱلۡأٓخِرَةِ هُمۡ يُوقِنُونَ} (4)

{ وما أنزل من قبلك } الكتب السماوية السابقة .

{ وبالآخرة } وبالبعث والحشر والحساب والجزاء .

{ يوقنون } يعلمون دون شك .

{ والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك } يدرك الهدى والتقوى من آمن بالغيب ، وأقام الصلاة ، وأنفق مما رزقه الله ، ويفوز بهما كذلك المصدقون بما أوحيت إليك ، وبما أوحيت إلى الرسل من قبلك ، ولقد عهد ربنا العظيم إلينا أن نستيقن بكلامه الذي آتاه مصطفاه وخاتم أنبيائه ، وبما آتى الرسل السابقين من كلامه ؛ { يأيها الذين آمنوا آمنوا بالله ورسوله والكتاب الذي نزل على رسوله والكتاب الذي أنزل من قبل . . . }{[112]} ، ووصانا أن نذكر أهل الكتاب-أصحاب الكتابين التوراة والإنجيل ، وهم اليهود والنصارى- ووصانا أن نذكرهم في رفق بأننا لا نجحد ما جاءهم من الحق{ ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون }{[113]} والإسلام جاء مصدقا لشرائع الله التي شرعت للأمم التي خلت ومهيمنا عليها ، واستحفظ خاتم النبيين على هذا الهدى الرباني الحكيم ، فقال مولانا العلي العظيم : { قل آمنا بالله وما أنزل على إبراهيم وإسماعيل وإسحق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى والنبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون }{[114]} ، كما عهد إلينا بما عهد به إلى نبينا صلى الله عليه وسلم : { قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتى النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون }{[115]} .

{ وبالآخرة هم يوقنون } أي : وبالدار الآخرة هم عالمون علما راسخا في الرأس والنفس ؛ و( الآخرة ) في الأصل صفة ، لكنها كالعلم بالغلبة على الحياة التي بعد حياتنا الأولى هذه- وقد تضاف الدار لها كقوله تعالى . . ( . . ولدار الآخرة خير . . ){[116]} أي دار الحياة الآخرة ، وقد تقابل الأولى كقوله سبحانه وتعالى : { . . له الحمد في الأولى والآخرة . . }{[117]} والمعنى هنا الدار الآخرة أو النشأة الآخرة . . . ( والإيقان ) التحقق للشيء كسكونه ووضوحه . . . قال الجوهري : اليقين العلم وزوال الشك . . ؛ وذهب الواحد وجماعة إلى أنه ما يكون عن نظر واستدلال ، فلا يوصف به البديهي ، ولا علم الله تعالى ، وذهب الإمام النسفي وبعض الأئمة إلى أنه العلم الذي لا يحتمل النقيض . . . ؛ وذهب آخرون إلى أنه العلم بالشيء بعد أن كان صاحبه شاكا فيه سواء كان ضروريا أو استدلاليا ؛ وذكر الراغب أن اليقين من صفة العلم فوق المعرفة والدراية وأخواتها ؛ يقال : على يقين ، ويقال معرفة يقين ، وهو سكون النفس مع ثبات الحكم . . {[118]}-أما من جحد لقاء الله أو شك في مجيئه فقد عمى قلبه : { بل ادارك علمهم في الآخرة بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِّنْهَا بل هم منها عمون . . }{[119]} وأولئك لا يستنيرون بنور القرآن وإن كان الذي يتلوه عليهم هو خير الأنام عليه الصلاة والسلام ، يقول الله جل علاه : { وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجابا مستورا . وجعلنا على قلوبهم أكنة لا يفقهوه وفي آذانهم وقرا وإذا ذكرت ربك في القرآن وحده ولوا على أدبارهم نفورا }{[120]} ، فيا عجبا كل العجب من الشاك في الله وهو يرى خلقه ، وعجبا ممن يعرف النشأة الآخرة وعجبا ممن ينكر البعث والنشور وهو كل يوم يموت ويحيا ، وعجبا ممن يؤمن بالجنة وما فيها من النعيم ثم يسعى لدار الغرور{[121]} . ولكن أهل الإيمان والتقى يصدقون بيوم الدين ، يوم الفصل بين العباد بعد بعث الأجساد والحشر والتناد لا يشكون في إحياء الموتى من قبورهم ولا في عرضهم على ربهم ، ولا في جزائهم وثوابهم وعقابهم ، ولا ينكرون شيئا من أحوال دار القرار التي أنبأنا بها الواحد القهار ، العزيز الغفار .


[112]:سورة النساء من الآية 136.
[113]:سورة العنكبوت الآية 46.
[114]:سورة آل عمران الآية 84.
[115]:سورة البقرة الآية 136.
[116]:سورة يوسف من الآية 109
[117]:سورة القصص من الآية 70.
[118]:ما بين العارضتين من روح المعاني، في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني.
[119]:سورة النمل الآية 66.
[120]:سورة الإسراء الآيتان 45-46.
[121]:في المأثور "والله لتموتن كما تنامون ولتبعثن كما تستيقظون ولتحاسبن بما تعملون ولتجزون بالإحسان إحسانا وبالسوء سوءا وإنها لجنة أبدا أو لنار أبدا".