الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{وَٱلَّذِينَ يُؤۡمِنُونَ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيۡكَ وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبۡلِكَ وَبِٱلۡأٓخِرَةِ هُمۡ يُوقِنُونَ} (4)

قوله تعالى : { والَّذِينَ يُؤْمِنُونَ } : الذين عطفٌ على " الذين " قبلَها ، ثم لك اعتباران : أن يكونَ من باب عَطْفِ بعضِ الصفاتِ على بعض كقوله :

إلى المَلِكِ القَرْمِ وابنِ الهُمامِ *** وليثِ الكتيبة في المُزْدَحَمْ

وقوله :

يا ويحَ زيَّابَة للحارثِ ال *** صابحِ فالغانمِ فالآئِبِ

يعني : أنهم جامعونَ بين هذه الأوصافِ إن قيل إن المرادَ بهما واحدٌ .

والثاني : أن يكونوا غيرهم . وعلى كلا القولينِ فيُحكم على موضعِه بما حُكم على موضعِ " الذين " المتقدمة من الإِعرابِ رفعاً ونصباً وجَرًّا قَطْعاً واتباعاً ، كما مرَّ تفصيله ، ويجوز أن يكونَ عطفاً على " المتقين " ، وأن يكونَ مبتدأ خبرُه " أولئك " وما بعدها إن قيل إنهم غيرُ " الذين " الأولى ، و " يؤمنون " صلةٌ وعائدٌ .

و " بما أُنْزِلَ " متعلِّقٌ به و " ما " موصولةٌ اسميةٌ ، و " أُنْزِلَ " صلتُها وهو فِعْلٌ مبني للمفعول ، والعائدُ هو الضميرُ القائمُ مقامَ الفاعلَ ، ويَضْعُف أن يكونَ نكرةً موصوفةً ، وقد منع أبو البقاء من ذلك ، قال : " لأنَّ النكرةَ الموصوفةَ لا عموم فيها ، ولا يكمُل الإِيمانُ إلا بجميعِ ما أُنزل " .

و " إليك " متعلِّقٌ ب " أُنزل " ، ومعنى " إلى " انتهاءُ الغاية ، ولها معانٍ أُخَرُ : المصاحَبَةُ : { وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ } [ النساء : 2 ] ، والتبيين : { رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ } [ يوسف : 33 ] ، وموافقة اللام وفي ومِنْ : { وَالأَمْرُ إِلَيْكِ } [ النمل : 33 ] أي لك : وقال النابغة :

فلاَ تَتْرُكَنِّي بالوعيدِ كأنني *** إلى الناسِ مَطْلِيٌّ به القار أَجْرَبُ

أي في الناس ، وقال الآخر :

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** أَيُسْقَى فلا يُرْوى إليَّ ابنُ أَحْمَرا

أي : لا يُرْوى مني ، وقد تُزَادُ ، قُرئ : " تَهْوَى إليهم " بفتح الواو .

والكافُ في محلِّ جرٍّ ، وهي ضميرُ المخاطبِ ، ويتصلُ بها ما يَدُلُّ على التثنيةِ والجمعِ تذكيراً وتأنيثاً كتاءِ لمخاطب . والنزولُ : الوصول والحلولِ من غير اشتراطِ علوٍّ ، قال تعالى : { فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ } [ الصافات : 177 ] أي حلَّ ووَصَل ، و " ما " الثانيةُ وصلتُها عطفٌ على " ما " الأولى قَبلَها ، فالكلامُ عليها وعلى صلتِها كالكلامِ على " ما " التي قبلَها ، فَلْيُتأمَّلْ .

و " مِنْ قبلِك " متعلِّقٌ ب " أُنْزِلَ " ، و " مِنْ " لابتداء الغاية ، و " قبل " ظرف زمان يقتضي التقدُّم ، وهو نقيضٌ " بعد " ، وكِلاهما متى نُكِّر أو أُضيف أُعْرِبَ ، ومتى قُطع من الإِضافة لفظاً/ وأُرِيدت معنى بُني على الضم ، فمِن الإِعرابِ قولُه :

فساغَ ليَ الشرابُ وكنت قَبْلاً *** أكاد أَغَصُّ بالماءِ القَراحِ

وقال آخر :

ونحن قَتَلْنَا الأُسْدَ أُسْدَ خَفِيَّةٍ *** فما شَرِبوا بَعْداً على لَذَّةً خَمْرا

ومن البناء قولُه تعالى : { لِلَّهِ الأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ } [ الروم : 4 ] ، وزعم بعضُهم أن " قبل " في الأصل وصفٌ نابَ عن موصوفِه لُزوماً ، فإذا قلت : " قمتُ قبلَ زيد " فالتقدير : قمت زماناً قبلَ زمانِ قيامِ زيدٍ ، فحُذِف هذا كلُّه ، ونَاب عنه " قبل زيد " وفيه نظرٌ لاَ يَخْفى على مُتَأمِّله .

واعلمْ أنَّ حكمَ فوق وتحت وعلى وأوَّل حكمُ قبل وبعد فيما تقدَّم ، وقرئ : " بما أَنْزَلَ إليك " مبنيَّاً للفاعلِ وهو اللهُ تعالى أو جبريلُ ، وقُرئ أيضاً : أُنْزِلْ لَيْكَ بتشديد اللام ، وتوجيهه أن يكونَ سكَّن آخرَ الفعل كما سكَّنه الآخر في قوله :

إنما شِعْريَ مِلْحٌ *** قد خُلْط بجُلْجُلانْ

بتسكين " خُلْط " ثم حَذَف همزةَ " إليك " ، فالتقى مثلان فَأَدْغَمَ .

و " بالآخرةِ " متعلِّقٌ بيوقنون ، و " يُوقنون " خبرٌ عن " هم " وقُدِّم المجرورُ للاهتمام به كما قُدِّمَ المُنْفَقُ في قوله : { وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ }

[ البقرة : 3 ] لذلك ، وهذه جملةٌ اسميةٌ عُطِفَتْ على الجملةِ الفعليةِ قبلَها فهي صلةٌ أيضاً ، ولكنه جاء بالجملة هنا من مبتدأ وخبر بخلاف : { وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ } لأن وصفهم بالإِيقان بالآخرةِ أَوْقَعُ مِنْ وَصْفِهم بالإِنفاق من الرزقِ فناسَبَ التأكيدَ بمجيء الجملةِ الاسميةِ ، أو لئلاَّ يتكرَّرَ اللفظُ لو قيلَ : ومِمَّا رَزَقْناهم هم ينفقون .

والإِيقانُ : تحقيقُ الشيء لوضوحِه وسكونِه يقال : يَقِنَ الماءُ إذا سَكَن فظهر ما تحته ، وَيَقِنْتُ الأمر بكسر القاف ، ويُوقنون مِنْ أَيْقَنَ بمعنى استيقن ، وقد تقدَّم أن أَفْعَل تأتي بمعنى استفعل .

والآخرة : تأنيث آخِر المقابل لأوَّل ، وهي صفةٌ في الأصلِ جَرَتْ مَجْرى الأسماءِ والتقديرُ : الدار الآخرة أو النشأة الآخرة ، وقد صُرِّح بهذين الموصوفين قال تعالى : { وَلَلدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ } [ الأنعام : 32 ] ، وقال : { ثُمَّ اللَّهُ يُنشِىءُ النَّشْأَةَ الآخِرَةَ } [ العنكبوت : 20 ] وقرئ يُؤْقِنُون بهمز الواو ، كأنهم جَعَلوا ضمةَ الياء على الواوِ لأنَّ حركةَ الحرفِ بين يديه ، والواوُ المضمومةُ يَطَّرِدُ قلبُها همزةً بشروط : منها ألاَّ تكونَ الحركةُ عَارضةً ، وألاَّ يمكنَ تخفيفُها ، وألاَّ يكونَ مُدْغماً فيها ، وألاّ تكونَ زائدةً ، على خلافٍ في هذا الأخير ، وسيأتي أمثلةُ ذلك في سورة آل عمران على قوله : { وَلاَ تَلْوُونَ عَلَى أحَدٍ } [ آل عمران : 153 ] ، فأجْرَوا الواوَ الساكنةَ المضمومَ ما قبلها مُجْرى المضمومةِ نفسِها لِما ذكرت ذلك ، ومثلُ هذه القراءةِ قراءةُ قُنْبُل " بالسُّؤْقِ " [ ص : 33 ] ، و " على سُؤْقِه " [ الفتح : 29 ] ، وقال الشاعر :

أَحَبُّ المُؤْقِدينَ إليَّ موسى *** وجَعْدَةُ إذ أضاءَهُما الوَقودُ

بهمز " المُؤْقدين " . وجاء بالأفعالِ ِالخمسة بصيغة المضارع دلالةً على التجدُّد والحُدوثِ وأنهم كلَّ وقتٍ يفعلون ذلك . وجاء بأُنْزِل ماضياً وإن كان إيمانُهم قبلَ تمامِ نزولهِ تغليباً للحاضرِ المُنَزَّلِ على ما لم يُنَزَّلُ ، لأنه لا بد من وقوعه فكأنه نَزَل ، فهو من باب قولهِ : { أَتَى أَمْرُ اللَّهِ } [ النحل : 1 ] ، بل أقربُ منه لنزولِ بعضِهِ .