إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود - أبو السعود  
{وَٱلَّذِينَ يُؤۡمِنُونَ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيۡكَ وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبۡلِكَ وَبِٱلۡأٓخِرَةِ هُمۡ يُوقِنُونَ} (4)

{ والذين يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ } معطوفٌ على الموصول الأول ، على تقدير وصلِه بما قبله ، وفصلُه عنه مندرجٌ معه في زُمرة المتقين من حيث الصورةُ والمعنى معاً ، أو من حيث المعنى فقط ، اندراجَ خاصَّيْنِ تحت عام ، إذ المرادُ بالأولين الذين آمنوا بعد الشركِ والغفلةِ عن جميع الشرائعِ كما يُؤذِن به التعبيرُ عن المؤْمَن به بالغيب ، وبالآخرين الذين آمنوا بالقرآن بعد الإيمان بالكتب المنزلةِ قبله ، كعبد اللَّه بن سلام وأضرابِه ، أو على المتقين على أن يراد بهم الأولون خاصة ، ويكون تخصيصُهم بوصف الاتقاءِ للإيذان بتنزّههم عن حالتهم الأولى بالكلية ، لما فيها من كمال القباحة والمباينةِ للشرائعِ كلِّها ، الموجبةِ للاتقاء عنها ، بخلاف الآخرين ، فإنهم غيرُ تاركين لما كانوا عليه بالمرة ، بل متمسكون بأصول الشرائعِ التي لا تكاد تختلف باختلاف الأعصار ، ويجوز أن يُجعلَ كِلا الموصولين عبارةً عن الكل مندرجاً تحت المتقين ، ولا يكون توسيطُ العاطفِ بينهما لاختلاف الذوات ، بل لاختلاف الصفات كما في قوله : [ المتقارب ]

إلى الملِكِ القَرْم وابنِ الهُمام *** وليثِ الكتيبةِ في المُزدَحَمْ{[15]}

وقولِه : [ السريع ]

يا لَهفَ زيّابةَ للحارثِ *** الصابحِ فالغانِمِ فالآيبِ{[16]}

للإيذان بأن كلَّ واحدٍ من الإيمان بما أشير إليه من الأمور الغائبةِ ، والإيمان بما يشهد بثبوتها من الكتب السماوية نعتٌ جليلٌ على حِياله ، له شأنٌ خطير مستتبِعٌ لأحكام جمّة ، حقيقٌ بأن يُفردَ له موصوفٌ مستقل ، ولا يُجعل أحدُهما تتمةً للآخر ، وقد شُفِع الأولُ بأداء الصلاة والصدقة اللتين هما من جملة الشرائعِ المندرجةِ تحت تلك الأمور المؤمَن بها تكملةً له ، فإن كمالَ العلم بالعمل ، وقُرن الثاني بالإيقان بالآخرة مع كونه منطوياً تحت الأول تنبيهاً على كمال صِحتِه ، وتعريضاً بما في اعتقاد أهلِ الكتابين من الخلل كما سيأتي ، هذا على تقدير تعلّقِ الباءِ بالإيمان ، وقِسْ عليه الحالَ عند تعلّقِها بالمحذوف ، فإن كلاً من الإيمان الغيبيِّ المشفوعِ بما يصدّقه من العبادتين - مع قطع النظر عن المؤمَن به والإيمانِ بالكتب المنزلةِ الشارحة لتفاصيل الأمور التي يجب الإيمانُ بها مقروناً بما قُرن به - فضيلةٌ باهرة ، مستدعية لما ذكر ، والله تعالى أعلم .

وقد حُمل ذلك على معنى أنهم الجامعون بين الإيمانِ بما يدركه العقلُ جملةً والإتيانِ بما يصدّقه من العبادات البدنية والمالية ، وبين الإيمانِ لا طريقَ إليه غيرُ السمع . وتكريرُ الموصول للتنبيه على تغايُر القَبيلَيْن ، وتباينُ السبيلين فلْيُتأمَّلْ ، وأن يراد بالموصول الثاني بعد اندراج الكلِّ في الأول فريقٌ خاصٌّ منهم ، وهم مؤمنو أهلِ الكتاب ، بأن يُخَصّوا بالذكر تخصيصَ جبريلَ ومكائيلَ به إثرَ جَرَيانِ ذكر الملائكة عليهم السلام تعظيماً لشأنهم وترغيباً لأمثالهم وأقرانِهم في تحصيل ما لهم من الكمال .

[ معنى إنزال الكتاب ]

والإنزالُ النقلُ من الأعلى إلى الأسفل ، وتعلُّقه بالمعاني إنما هو بتوسّط تعلّقِه بالأعيان المستتبعة لها ، فنزولُ ما عدا الصحفَ من الكتب الإلهية إلى الرسل عليهم السلام والله تعالى أعلم بأن يتلقاها الملَكُ من جنابه عز وجل تلقياً روحانياً ، أو يحفَظَها من اللوح المحفوظ ، فينزِلَ بها إلى الرسل فيُلقِيهَا عليهم عليهم السلام ، والمراد ( بما أنزل إليك ) هو القرآنُ بأسره ، والشريعةُ عن آخرها .

والتعبيرُ عن إنزاله بالماضي مع كون بعضِه مُترقَّباً حينئذ لتغليب المحقَّقِ على المقدَّر ، أو لتنزيل ما في شرَفِ الوقوعِ - لتحقُّقه - منزلةَ الواقع ، كما في قوله تعالى : { إِنَّا سَمِعْنَا كتابا أُنزِلَ مِن بَعْدِ موسى } [ الأحقاف : الآية 30 ] مع أن الجنَّ ما كانوا سمعوا الكتابَ جميعاً ولا كان الجميعُ إذ ذاك نازلاً ، وبما أنزل من قبلك التوراةُ والإنجيلُ وسائرُ الكتب السالفة ، وعدمُ التعرضِ لذكر من أُنزل إليه من الأنبياء عليهم السلام ، لقصد الإيجازِ مع عدم تعلُّقِ الغرَض بالتفصيل حسَبَ تعلقِه به في قوله تعالى : { قُولُواْ آمَنَّا بالله وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إبراهيم وإسماعيل } [ البقرة ، الآية 136 ] الآية . والإيمانُ بالكل جملةً فرضٌ ، وبالقرآنِ تفصيلاً - من حيث إنا متعبَّدون بتفاصيله - فرضُ كفاية ، فإن في وجوبه على الكل - عَيناً - حَرَجاً بيناً ، وإخلالاً بأمر المعاش ، وبناءُ الفعلين للمفعول للإيذان بتعيُّن الفاعل ، والجَرْيِ على سَنن الكِبرياء ، وقد قُرئا على البناء للفاعل .

{ وبالآخرة هُمْ يُوقِنُونَ } الإيقانُ إتقانُ العلم بالشيء بنفي الشكِّ والشبهةِ عنه ، ولذلك لا يُسمَّى علمُه تعالى يقيناً ، أي يعلمون علماً قطعياً مُزيحاً لما كان أهلُ الكتاب عليه من الشكوك والأوهام التي من جملتها زعمُهم أن الجنة لا يدخُلها إلا من كان هوداً أو نصارى ، وأن النارَ لن تمسَّهم إلا أياماً معدوداتٍ ، واختلافُهم في أن نعيمَ الجنة هل هو من قبيل نعيم الدنيا أو لا ، وهل هو دائم أو لا ، وفي تقديم الصلة وبناءِ ( يوقنون ) على الضمير تعريضٌ بمن عداهم من أهل الكتاب ، فإن اعتقادَهم في أمور الآخرة بمعزل من الصحة فضلاً عن الوصول إلى مرتبة اليقين . والآخرةُ تأنيثُ الآخِر ، كما أن الدنيا تأنيثُ الأدنى ، غَلَبتا على الدارين فجرَتا مجرى الأسماء ، وقرئ بحذف الهمزة وإلقاءِ حركتها على اللام ، وقرئ يؤقنون بقلب الواو همزة ، إجراءً لضم ما قبلها مجرى ضمِّها في وجوه ووقتت ، ونظيره ما في قوله : [ الوافر ]

لحب المؤقدان إلى مؤسى *** وجعدة إذ أضاءهما الوقود{[17]}


[15]:البيت بلا نسبة في الإنصاف 2/469، وشرح قطر الندى ص 295.
[16]:وردت في المعجم "يا ويح" بدل "يا لهف" وهو لابن زيابة في خزانة الأدب 5/107 والدرر 6/16 وفي شرح شواهد المغني ص 465 ومعجم الشعراء ص208 وبلا نسبة في مغني اللبيب ص 163 وخزانة الأدب 11/5 والشاهد فيه تعاطف النعوت بالفاء.
[17]:ورد في المعجم المفصل: أحب المؤقدين إليّ مؤسى...إلى آخر البيت وهو لجرير في ديوانه ص 288 وفي الأشباه والنظائر 2/12، 8/74 وشرح شواهد المغني 2/962 وبلا نسبة في مغني اللبيب 2/684 والشاهد فيه همز الواو في "المؤقدين" و"مؤسى" لأنه قدر ضمة الميم على الواو وهذا غير قياسي.