اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَٱلَّذِينَ يُؤۡمِنُونَ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيۡكَ وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبۡلِكَ وَبِٱلۡأٓخِرَةِ هُمۡ يُوقِنُونَ} (4)

" والَّذِين " عطف على " الذين " قبلها ، ثم لك اعتباران :

أحدهما : أن يكون من باب عطف بعض الصفات على بعض كقوله : [ المتقارب ]

إِلَى الْمَلِكِ الْقَرْمِ وابْنِ الْهُمَامِ *** وَلَيْثِ الْكَتِيبَةِ فِي الْمُزْدَحَمْ{[550]}

وقوله : [ السريع ]

يَا وَيْحَ زَيَّابَةَ لِلْحَارِثِ الصْ *** صَابِحِ فَالغَانِمِ فَالآيِبِ{[551]}

يعني : أنهم جامعون بين هذه الأوصاف إن قيل : إن المراد بها واحد .

الثاني : أن يكونوا غيرهم .

وعلى كلا القولين ، فيحكم على موضعه بما حكم على موضع " الَّذِين " المتقدمة من الإعراب رفعاً ونصباً وجرًّا قطعاً وإتباعاً كما مر تفصيله .

ويجوز أن يكون عطفاً على " المتّقين " ، وأن يكون مبتدأ خبره " أولئك " ، وما بعدها إن قيل : إنهم غير " الذين " الأولى . و " يؤمنون " صلة وعائد .

و " بما أنزل " متعلّق به و " ما " موصولة اسمية ، و " أنزل " صلتها ، وهو فعل مبني للمفعول ، لعائد هو الضَّمير القائم مقام الفاعل ، ويضعف أن يكون نكرة موصوفة وقد منع أبو البقاء{[552]} ذلك قال : لأن النكرة الموصوفة لا عموم فيها ، ولا يكمل الإيمان إلا بجميع ما أنزل .

و " إليك " متعلّق ب " أنزل " ، ومعنى " إلى " انتهاء الغاية ، ولها معان أخر :

المُصَاحبة : { وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ } [ النساء : 2 ] .

والتبيين : { رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ } [ يوسف : 33 ] .

وموافقة اللام و " في " و " من " : { وَالأَمْرُ إِلَيْكِ } [ النمل : 33 ] أي : لك .

وقال النابغة : [ الطويل ]

فَلاَ تَتْرُكَنِّي بِالوَعِيدِ كَأَنَّنِي *** إِلَى النَّاسِ مَطْلِيٌّ بِهِ الْقَارُ أَجْرَبُ{[553]}

وقال الآخر : [ الطويل ]

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** أَيُسْقَى فَلاَ يُرْوَى إِلَيَّ ابْنُ أَحْمَرَا{[554]}

أي : لا يروى منّي ، وقد تزاد ؛ قرئ : " تَهْوَى إليهم " [ إبراهيم : 37 ] بفتح الواو .

و " الكاف " في محل جر ، وهي ضمير المُخَاطب ، ويتّصل بها ما يدل على التثنية والجمع تذكيراً وتأنيثاً ك " تاء " المُخَاطب .

ويترك أبو جعفر ، وابن كثير ، وقالون{[555]} ، وأبو عمرو ، ويعقوب كل مَدّة تقع بين كلمتين ، والآخرون يمدونها .

و " النزول " الوصول والحلول من غير اشتراط عُلُوّ ، قال تعالى : { فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ } [ الصافات : 177 ] أي حلّ ووصل .

قال ابن الخطيب : والمراد من إنزال الوَحْي{[556]} ، وكون القرآن منزلاً ، ومنزولاً به - أن جبريل سمع في السماء كلام الله - تعالى - فنزل على الرسول به ، كما يقال : نزلت رسالة الأمير من القَصْر ، والرسالة لا تنزل ولكن المستمع يسمع الرسالة من عُلوّ ، فينزل ويؤدي في سفل ، وقول الأمير لا يُفَارق ذاته ، ولكن السامع يسمع فينزل ، ويؤدي بلفظ نفسه ، ويقال : فلان ينقل الكلام إذا سمع وحدث به في موضع آخر .

فإن قيل : كيف سمع جبريل كلام الله تعالى ؛ وكلامه ليس من الحروف والأصوات عندكم ؟

قلنا : يحتمل أن يخلق الله - تعالى - له سمعاً لكلامه ، ثم أقدره على عبارة يعبر بها عن ذلك الكلام القديم ، ويجوز أن يكون الله - تعالى - خلق في اللَّوح المحفوظ كتابةً بهذا النظم المخصوص ، فقرأه جبريل - عليه السلام - فحفظه ، ويجوز أن يخلق الله أصواتاً مقطّعة بهذا النظم المخصوص في جسم مخصوص ، فيتلقّفه جبريل - عليه السلام - ويخلق له علماً ضرورياً بأنه هو العبارة المؤدّية لمعنى ذلك الكلام القديم .

فصل في معنى فلان آمن بكذا

قال ابن الخطيب{[557]} : لا نزاع بين أصحابنا وبين المعتزلة في أن الإيمان إذا عدّي ب " الباء " ، فالمراد منه التصديق .

فإذا قلنا : فلان آمن بكذا ، فالمراد أنه صدق به ، فلا يكون المراد منه أنه صام وصلى ، فالمراد بالإيمان - هاهنا - التصديق ، لكن لا بُدّ معه من المعرفة ؛ لأن الإيمان - ها هنا - خرج مخرج المدح ، والمصدق مع الشّك لا يأمن أن يكون كاذباً ، فهو إلى الذَّم أقرب .

و " ما " الثانية وَصِلَتُهَا عطف " ما " الأولى قبلها ، والكلام عليها وعلى صِلَتِهَا كالكلام على " ما " التي قبلها ، فتأمله .

واعلم أن قوله : " الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالغَيْبِ " عام يتناول كل من آمن بمحمد عليه الصلاة والسلام ، سواء كان قبل ذلك مؤمناً بموسى وعيسى عليهما الصلاة والسلام ، أو لم يكن مؤمناً بهما ، ثم ذكر بعد ذلك هذه الآية وهي قوله : { والَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ } [ البقرة : 4 ] يعني : التوراة والإنجيل ؛ لأن في هذا التخصيص مزيدَ تشريف لهم كما في قوله : { وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ } [ البقرة : 98 ] ، ثم في تخصيص عبد الله بن سلام{[558]} ، وأمثاله بهذا التشريف ترغيبٌ لأمثاله في الدِّين ، فهذا هو السبب في ذكر هذا الخاص بعد ذكر العام .

و " من قبلك " متعلّق ب " أنزل " ، و " من " لابتداء الغاية ، و " قبل " ظرف زمان يقتضي التقدم ، وهو نقيض " بعد " ، وكلاهما متى نُكّر ، أو أضيف أعرب ، ومتى قطع عن الإضافة لفظاً ، وأريدت معنى بني على الضم ، فمن الإعراب قوله : [ الوافر ]

فَسَاغَ لِيَ الشَّرَابُ وَكُنْتُ قَبْلاً *** أَكَادُ أَغَصُّ بِالمَاءِ الْقَرَاحِ{[559]}

وقال الآخر : [ الطويل ]

وَنَحْنُ قَتَلْنَا الأُسْدَ أُسْدَ خَفِيَّةٍ *** فَمَا شَرِبُوا بَعْداً عَلَى لَذَّةٍ خَمْرَا{[560]}

ومن البناء قوله تعالى : { لِلَّهِ الأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ }

[ الروم : 4 ] وزعم بعضهم أن " قبل " في الأصل وصف نَابَ عن موصوفه لزوماً .

فإذا قلت : " قمت قبل زيد " فالتقدير : قمت [ زماناً قبل زمان قيام زيد ، فحذف هذا كله ، وناب عنه قبل زيد ]{[561]} ، وفيه نظر لا يخفى على متأمله .

واعلم أن حكم " فوق وتحت وعل وأول " حكم " قبل وبعد " فيما تقدّم .

وقرئ{[562]} : " بِمَا أَنْزلَ إِلَيْكَ " مبنياً للفاعل ، وهو الله - تعالى - أو جبريل ، وقرئ أيضاً{[563]} : " بِمَا أُنْزِلّ لَيْك " بتشديد اللام ، وتوجيهه أن يكون سكن آخر الفعل كما سكنه الأخر في قوله : [ الرمل ]

إِنَّمَا شِعْرِيَ مِلْحٌ *** قدْ خُلِطْ بِجُلْجُلاَنِ{[564]}

بتسكين " خُلط " ثم حذف همزة " إليك " ، فالتقى مِثْلاَن ، فأدغم لامه .

و " بالآخرة " متعلّق ب " يوقنون " ، و " يوقنون " خبر عن " هم " ، وقدّم المجرور ؛ للاهتمام به كما قدم المنفق في قوله : { وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ } لذلك ، وهذه جملة اسمية عطفت على الجملة الفعلية قبلها فهي صلَةٌ أيضاً ، ولكنه جاء بالجملة هنا من مبتدأ وخبر بخلاف : { وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ } ؛ لأن وصفهم بالإيقان بالآخرة أوقع من وصفهم بالإنفاق من الرزق ، فناسب التأكيد بمجيء الجملة الاسمية ، أو لئلا يتكرّر اللفظ لو قيل : " ومما رزقناكم هم ينفقون " .

والمراد من الآخرة : الدَّار الآخرة ، وسميت الآخرة آخرة ، لتأخرها وكونها بعد فناء الدنيا .

والآخرة تأنيث آخر مقابل ل " أول " ، وهي صفة في الأصل جرت مجرى الأسماء ، والتقدير : الدار الآخرة ، أو النشأة الآخرة ، وقد صرح بهذين الموصوفين ، قال تعالى : { وَلَلدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ } [ الأنعام : 32 ] وقال : { ثُمَّ اللَّهُ يُنشِئ النَّشْأَةَ الآخِرَةَ } [ العنكبوت : 20 ] .

و " يوقنون " من أيقن بمعنى : استيقن ، وقد تقدّم أن " أفعل " [ يأتي ]{[565]} بمعنى : " استفعل " أي : يستيقنون أنها كائنة ، من الإيقان وهو العلم .

وقيل : اليقين هو العلم بالشيء بعد أن كان صاحبه شاكًّا فيه ، فلذلك لا تقول : تيقّنت وجود نفسي ، وتيقنت أن السماء فوقي ، ويقال ذلك في العلم الحادث ، سواء أكان ذلك العلم ضرورياً أو استدلالياً .

وقيل : الإيقان واليقين علم من استدلال ، ولذلك لا يسمى الله موقناً ولا علمه يقيناً ، إذ ليس علمه عن استدلال .

وقرئ{[566]} : " يُؤْقِنُون " بهمز الواو ، وكأنهم جعلوا ضمّة الياء على الواو لأن حركة الحرف بين بين ، والواو المضمومة يطرد قبلها همزة بشروط :

منها ألاّ تكون الحركة عارضة ، وألاّ يمكن تخفيفها ، وألاّ يكون مدغماً فيها ، وألاّ تكون زائدة ؛ على خلاف في هذا الأخير ، وسيأتي أمثلة ذلك في سورة " آل عمران " عند قوله : { وَلاَ تَلْوُونَ عَلَى أحَدٍ } [ آل عمران : 153 ] ، فأجروا الواو السَّاكنة المضموم ما قبلها مُجْرَى المضمومة نفسها ؛ لما ذكرت لك ، ومثل هذه القراءة قراءةُ قُنْبُلٍ " بالسُّؤْقِ " [ ص : 33 ] و " على سُؤْقِهِ " [ الفتح : 29 ] وقال الشاعر : [ الوافر ]

أَحَبُّ المُؤْقِدَيْنِ إِلَيَّ مُؤْسَى *** وَجَعْدَةُ إِذْ أَضَاءَهُمَا الْوَقُودُ{[567]}

بهمز " المؤقدين " .

وجاء بالأفعال الخمسة بصيغة المضارع دلالة على التجدُّد والحدوث ، وأنهم كل وقت يفعلون ذلك .

وجاء ب " أنزل " ماضياً ، وإن كان إيمانهم قبل تمام نزوله تغليباً للحاضر المنزول على ما لم ينزل ؛ لأنه لا بُدّ من وقوعه ، فكأنه نزل من باب قوله : { أَتَى أَمْرُ اللَّهِ }

[ النحل : 1 ] ، بل أقرب منه ؛ لنزول بعضه .

فصل فيما استحق به المؤمنون المدح

قال ابن الخطيب{[568]} : إنه - تعالى- مدحهم على كونهم متيقنين بالآخرة ، ومعلوم أنه لا يمدح المرء بتيقّن وجود الآخرة فقط ، بل لا يستحق المدح إلاّ إذا تيقن وجود الآخرة مع ما فيها من الحساب ، والسؤال ، وإدخال المؤمنين الجَنّة ، والكافرين النار .

روي عنه - عليه الصلاة والسلام - أنه قال : " يا عجباً كل العَجَب من الشَّاك في الله وهو يرى خَلْقَهُ ، وعجباً ممن يعرف النَّشْأَةَ الأولى ثم ينكر النَّشْأة الآخرة ، وعجباً ممن ينكر البَعْثَ والنشور ، وهو [ في{[569]} ] كل يوم وليلة يموت ويَحْيَا - يعني النوم واليقظة - وعجباً ممن يؤمن بالجنّة ، ما فيها من النعيم ، ثم يسعى لدار الغرور ؛ وعجباً من المتكبر الفخور ، وهو يعلم أن أوله نطفةٌ مَذِرَةٌ ، وآخره جيفة قَذرة " {[570]} .


[550]:- ينظر الإنصاف: (276)، الخزانة: (1/451)، الكشاف: (1/41)، القطر: (295)، وقطر الندى: (417)، القرطبي: (1، 272)، البحر: (5/213)، الدر: (1/98). واستشهد به على جواز عطف أحد الخبرين على الآخر بالواو، مع اتصاف مجموع المبتدأ بكل واحد من الخبرين؛ تقول: زيد كريم شجاع، وزيد كريم وشجاع؛ كما يعطف بعض الأوصاف على بعض؛ كما في الشاهد؛ حيث عطف ابن الهمام "وليث الكتيبة" على الصفة الأولى وهي "القرم". وكذا ما هو بمنزلته؛ في رجوع الضمير من كل واحد من الخبرين إلى مجموع المبتدأ، نحو: هذا أبيض وأسود وهذا حلو حامض، وأما إذا لم يرجع ضمير كل واحد إلى مجموع المبتدأ، نحو: هما عالم وجاهل، فلابد من الواو؛ لأن المبتدأ مفكوك تقديرا، أي: أحدهما عالم والآخر جاهل.
[551]:- البيت لامرئ القيس. ينظر الحماسة: (1/92)، الخزانة: (2/331)، وأمالي الشجري: (2/210)، الهمع: (2/119)، الدرر: (2/150)، المغني (1/163)، الخزانة: (5/107)، الكشاف: (1/133)، الدر: (1/99)، سمط اللآلي: 504، معجم الشعراء: 208، الجنى الداني: 65.
[552]:- ينظر الإملاء: 1/13.
[553]:- ينظر ديوانه: (28)، الخزانة: 4/137، أمالي ابن الشجري: 2/268، الهمع: 2/20، الدرر: 2/13، الدر: 1/99، وأدب الكتاب: ص 506، وخزانة الأدب: 9/465، والجنى الداني: ص387، وشرح شواهد المغني: ص 223، جمهرة اللغة: ص 798، ورصف المباني ص: 83، وجواهر الأدب: ص 343 وشرح الأشموني: 2/289، ومغني اللبيب: ص 75.
[554]:- عجز بيت لعمرو بن أحمر الباهلي وصدره: تقول وقد عاليت بالكور فوقها *** .................. ينظر المغني: 79، والأشموني: 2/214، والدرر: 2/13، والهمع: 2/20، والجنى الداني: 388، والدر المصون: 1/100.
[555]:- عيسى بن ميناء بن وردان بن عيسى المدني مولى الأنصاري أبو موسى أحد القراء المشهورين من أهل المدينة مولدا ووفاة، انتهت إليه الرياسة في علوم العربية والقراءة في زمانه بالحجاز، وكان أصم يقرأ عليه القرآن وهو ينظر إلى شفتي القارئ فيرد عليه اللحن والخطأ، و"قالون" لقب دعاه به نافع القارئ لجودة قراءته، ومعناه بلغة الروم جيد. ينظر الأعلام: 5/110 (844)، النجوم الزاهرة: 2/235، غاية النهاية: 1/615.
[556]:- قال في "الأساس": "أوحى إليه: وأومى إليه بمعنى، ووحيت إليه؛ وأوحيت: إذا كلمته بما تخفيه عن غيره، وأوحى الله إلى أنبيائه؛ وأوحى إلى النحل". وفي القاموس المحيط: "الوحي: الإشارة والكتابة؛ والمكتوب والرسالة؛ والإلهام والكلام الخفي؛ وكل ما ألقيته لغيرك". وقال الراغب: "أصل الوحي: الإشارة السريعة؛ ولتضمن السرعة قبل: أمر وحي، يعني: سريع، وذلك يكون بالكلام على سبيل الرمز والتعويض؛ وقد يكون بصوت مجرد عن التركيب؛ وبإشارة بعض الجوارح وبالكتابة، وقد حمل على ذلك قوله - تعالى - عن زكريا - عليه السلام -: "فخرج على قومه من المحراب؛ فأوحى إليهم: أن سبّحوا بكرة وعشيا" أي: أشار إليهم ولم يتكلم. ومنه: الإلهام الغزيري؛ كالوحي إلى النحل، قال تعالى: {وأوحى ربك إلى النحل}، وإلهام الخواطر بما يلقيه الله في روع الإنسان السليم الفطرة، الطاهر الروح؛ كالوحي إلى "أم موسى"؛ ومنه ضده؛ وهو وسوسة الشيطان، قال -تعالى -: "وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم"، وقال: "وكذلك جعلنا لكل نبي عدو شياطين الإنس والجن، يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا". فالخلاصة في معنى الوحي اللغوي: أنه الإعلام الخفي السريع؛ وهم أعم من أن يكون بإشارة أو كتابة أو رسالة؛ أو إلهام غريزي؛ أو غير غريزي، وهو بهذا المعنى لا يختص بالأنبياء؛ ولا بكونه من عند الله سبحانه. وأما في الشرع: فيطلق ويراد به: المعنى المصدري، ويطلق ويراد به: المعنى الحاصل بالمصدر، ويطلق ويراد به: الموحى به. ويعرف من الجهة الأولى: بأنه "إعلام الله أنبياءه بما يريد أن يبلغه إليهم، من شرع أو كتاب، بواسطة أو غير واسطة" فهو أخص من المعنى اللغوي؛ لخصوص مصدره ومورده؛ فقد خص المصدر بالله سبحانه؛ وخص المورد بالأنبياء. ويعرف من الجهة الثانية: بأنه عرفان يجده الشخص من نفسه مع اليقين بأنه من عند الله؛ سواء أكان الوحي بواسطة أم بغير واسطة. ويعرف من الجهة الثالثة: بأنه ما أنزله الله على أنبيائه؛ وعرفهم به من أنباء الغيب، والشرائع، والحكم، ومنهم من أعطاه كتابا، ومنهم من لم يُعطه" ينقسم الوحي باعتبار معناه المصدري إلى ما يأتي: 1 -تكليم الله نبيه بما يريد من وراء حجاب؛ إما في اليقظة: وذلك مثل ما حدث لموسى عليه السلام؛ قال تعالى: "وكلم الله موسى تكليما"؛ ومثل ما حدث لنبينا "محمد" - صلوات الله وسلامه عليه - ليلة الإسراء والمعراج. ولأهل السنة قولان في الكلام المسموع: فقيل: هو الكلام النفسي القديم المجرد عن الحروف والأصوات، وقيل: هو كلام لفظي يخلقه الله، بحيث يعلم سامعه أنه موجه إليه من قبل الله، والقائلون بهذا لا ينكرون صفة "الكلام". أما الثاني فواضح، وأما الأول فلا استحالة فيه؛ لأن الثابت أن النبي قد خص بمزايا وخصائص لم توجد في غيره من أفراد نوعه، وأن نفسه بأصل فطرتها - مستعدة لما لم تستعد له نفوس غيره، فلا مانع إذا أن يسمع الكلام النفسي بطريقة غير مألوفة، ولا معروفة لنا، ويكون ذلك من خوارق النواميس العادية المعروفة لنا. وأما في المنام: كما في حديث "معاذ" مرفوعا: "أتاني ربي، فقال: فيم يختصم الملأ الأعلى؟.." الحديث رواه الإمام أحمد في مسنده، والترمذي في سننه وقال: حسن صحيح. 2 - الإلهام أو القذف في القلب: بأن يلقي الله، أو الملك الموكل بالوحي في قلب نبيه ما يريد، مع تيقنه: أن ما ألقي إليه من قبل الله تعالى؛ وذلك مثل ما ورد في حديث: "إن روح القدس نفث في روعي: لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب" رواه الحاكم وصححه، عن ابن مسعود. 3 - الرؤيا في المنام: ورؤيا الأنبياء وحيٌ؛ وذلك مثل رؤية إبراهيم الخليل - عليه الصلاة والسلام - أن يذبح ابنه، ورؤية نبينا محمد - صلوات الله وسلامه عليه - في منامه: أنهم سيدخلون البلد الحرام وقد كان. وفي الحديث الصحيح، الذي رواه "البخاري": "أول ما بدئ به رسول الله – صلى الله عليه وسلم - من الوحي الرؤيا الصادقة في النوم؛ فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح..". 4 - تعليم الله أنبياءه بوساطة ملك، والمختص بذلك من ملائكة الله هو أمين الوحي "جبريل" عليه السلام، وهذا القسم بعرف بـ "الوحي الجلي". وقد بين الله سبحانه - هذه الأقسام بقوله: "وما كان لبشر أن يكلمه إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي - بإذنه - ما يشاء إنه عليّ حكيم"؛ إذ المراد بالوحي في الآية: الإلهام أو المنام؛ لمقابلته للقسمين الآخرين: التكليم من وراء حجاب أو بواسطة رسول. والوحي الذي بوساطة جبريل.. له حالات ثلاث: أن يأتي جبريل في صورته التي خلقه الله عليها، وهذه الحالة نادرة وقليلة، وقد ورد عن السيدة "عائشة": "أن النبي لم ير "جبريل" على هذه الحالة إلا مرتين: مرة في الأرض، وهو نازل من غار "حراء"، ومرة أخرى في السماء، عند "سدرة المنتهى" ليلة المعراج" رواه أحمد. أن يأتي جبريل في صورة رجل كدحية الكلبي، أو أعرابي مثلا، ويراه الحاضرون ويسمعون من قوله، ولا يعرفون هويته، ولكن النبي يعلم علم اليقين أنه جبريل؛ وذلك كما في حديث جبريل الطويل في الصحيحين، وحديث أم سلمة، ورؤيتها رجلا على صورة دحية الكلبي، فظنته هو، حتى بيّن النبي لها أنه جبريل. ج- أن يأتي على صورة الملكية، وفي هذه الحالة لا يرى، ولكن يصحب مجيئه صوت كصلصلة الجرس، أو دوي كدوي النحل؛ وقد دل على هاتين الحالتين حديث سؤال "الحارث بن هشام" النبي صلى الله عليه وسلم: عن كيفية مجيء الوحي إليه؟ وهو في صحيح البخاري كما تقدم. والوحي بجميع أنواعه يصحبه علم يقيني ضروري من الموحى إليه؛ بأن ما ألقي إليه حاق من عند الله ليس من خطرات النفس ولا نزعات الشيطان، وهذا العلم اليقيني لا يحتاج إلى مقدمات، وإنما هو من قبيل إدراك الأمور الوجدانية، كالجوع، والعطش والحب، والبغض. ينظر المدخل في علوم القرآن: ص 83 - 87
[557]:- ينظر الرازي: 2/30.
[558]:- عبد الله بن سلام مخفف ابن الحارث الإسرائيلي اليوسفي أبو يوسف حليف القواقل الخزرجي. أسلم مقدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وشهد فتح بيت المقدس مع عمر وروى خمسة وعشرين حديثا اتفقا على حديث وانفرد بآخر شهد له النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة ونزل فيه (وشهد شاهد من بني إسرائيل) وقوله تعالى: {ومن عنده علم الكتاب} وعنه ابنه يوسف وأبو هريرة وأنس. اتفقوا على أنه مات سنة ثلاث وأربعين بالمدينة. رضي الله عنه. ينظر الخلاصة: 2/64 (3557)، تهذيب الكمال: 2/64، تهذيب التهذيب: 5/239 (437)، تقريب التهذيب: 1/422 (370).
[559]:- هو لعبد الله بن يعرب بن معاوية ونسبه أبو عبيدة ليزيد بن الصعق. ينظر همع الهوامع: (1/210)، المفصل: (4/88)، الأشموني: (1/269)، الدرر: (1/176)، ابن يعيش: (4/88)، شرح الأشموني: (2/269)، شرح ابن عقيل: (3/73)، شرح الألفية للمرادي: (2/278)، وشرح الألفية لابن الناظم: (401)، وشرح الكافية الشافية: (2/965)، وارتشاف الضرب: (2/514)، ومعاني القرآن: (2/320)، الدر: (1/100).
[560]:- البيت نسب إلى رجل من بني عقيل. ينظر الهمع: (1/209)، الأشموني: (2/169)، الدرر: (1/176)، شرح الكافية الشافية: (2/965)، وشرح الألفية: (401)، والتصريح: (2/502)، والهمع: (1/209، 210)، وخزانة الأدب: (6/501، 506، 509) والدر: (1/100)، وإصلاح المنطق: 146، أوضح المسالك: 3/158، لسان العرب (بعد، خفا)، المقاصد النحوية: 3/436.
[561]:- سقط في أ.
[562]:- انظر البحر المحيط: 1/166، والمحرر الوجيز: 1/86. وقرأ بها النخعي وأبو حيوة ويزيد بن قطيب.
[563]:- انظر البحر المحيط: 1/166.
[564]:- البيت لوضاح اليماني: ينظر اللسان: (جلل)، التهذيب: 1/491، البحر: 1/167، الدر: 1/100.
[565]:- سقط في ب.
[566]:- قرأ بها أبو حية النمري. انظر الشواذ: (10)، البحر المحيط: 1/167.
[567]:- البيت لجرير. ينظر ديوانه: (288)، المحتسب: (1/47)، الخصائص: (2/175)، المغني: (2/684)، الكشاف: (1/43)، شرح الشافية للرضي: (3/206)، والمقرب: (520)، والممتنع: (1/91، 342)، (2/565)، البحر: (1/167)، الدر: (1/101) والأشباه والنظائر: 2/12، 8/74، وشرح شواهد المغني: 2/962، والمحتسب:1/47، وسر صناعة الإعراب: 1/79، وشرح شافية ابن الحاجب: ص 206.
[568]:- ينظر الفخر الرازي: 2/31.
[569]:- سقط في أ.
[570]:- الحديث ذكره الرازي في: "تفسيره": (2/31) ولا أراه يصح.