فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني - الشوكاني  
{وَٱلَّذِينَ يُؤۡمِنُونَ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيۡكَ وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبۡلِكَ وَبِٱلۡأٓخِرَةِ هُمۡ يُوقِنُونَ} (4)

قيل : هم مؤمنو أهل الكتاب ، فإنهم جمعوا بين الإيمان بما أنزل الله على محمد صلى الله عليه وسلم ، وما أنزله على من قبله وفيهم نزلت . وقد رجح هذا ابن جرير ، ونقله السدي في تفسيره عن ابن عباس وابن مسعود وأناس من الصحابة ، واستشهد له ابن جرير بقوله تعالى { وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الكتاب لَمَن يُؤْمِنُ بالله وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِمْ } [ آل عمران : 119 ] وبقوله تعالى : { الذين ءاتيناهم الكتاب مِن قَبْلِهِ هُم بِهِ يُؤْمِنُونَ وَإِذَا يتلى عَلَيْهِمْ قَالُوا ءامَنَّا بِهِ إِنَّهُ الحق مِن رَّبّنَا إنَّا كُنَّا مِن قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ * أُوْلَئِكَ يُؤْتُونَ أَجْرَهُم مرَّتَيْنِ } الآية [ القصص : 52 54 ] . والآية الأولى نزلت في مؤمني العرب . وقيل الآيتان جميعاً في المؤمنين على العموم . وعلى هذا فهذه الجملة معطوفة على الجملة الأولى صفة للمتقين بعد صفة ، ويجوز أن تكون مرفوعة على الاستئناف ، ويجوز أن تكون معطوفة على المتقين فيكون التقدير : هدى للمتقين وللذين يؤمنون بما أنزل إليك .

والمراد بما أنزل إلى النبي صلى الله عليه وسلم : هو القرآن . وما أنزل من قبله : هو الكتب السالفة . والإيقان : إيقان العلم بانتفاء الشك والشبهة عنه ، قاله في الكشاف . والمراد أنهم يوقنون بالبعث والنشور وسائر أمور الآخرة من دون شك . والآخرة تأنيث الآخر الذي هو نقيض الأول ، وهي صفة الدار كما في قوله تعالى { تِلْكَ الدار الاخرة نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِى الارض وَلاَ فَسَاداً } [ القصص : 83 ] وفي تقديم الظرف مع بناء الفعل على الضمير المذكور إشعار بالحصر ، وأن ما عدا هذا الأمر الذي هو أساس الإيمان ورأسه ليس بمستأهل للإيقان به ، والقطع بوقوعه . وإنما عبر بالماضي مع أنه لم ينزل إذ ذاك إلا البعض لا الكل ؛ تغليباً للموجود على ما لم يوجد ، أو تنبيهاً على تحقق الوقوع كأنه بمنزلة النازل قبل نزوله . وقد أخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله تعالى : { والذين يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ } أي يصدقونك بما جئت به من الله ، وما جاء به من قبلك من المرسلين ، لا يفرقون بينهم ، ولا يجحدون ما جاءوهم به من ربهم { وبالأخرة هُمْ يُوقِنُونَ } إيماناً بالبعث ، والقيامة ، والجنة ، والنار ، والحساب ، والميزان ، أي لا هؤلاء الذين يزعمون أنهم آمنوا بما كان قبلك ويكفرون بما جاء من ربك . وأخرج عبد بن حميد عن قتادة نحوه .

والحق أن هذه الآية في المؤمنين كالتي قبلها ، وليس مجرد ذكر الإيمان بما أنزل إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، وما أنزل إلى من قبله بمقتض لجعل ذلك وصفاً لمؤمني أهل الكتاب ، ولم يأت ما يوجب المخالفة لهذا ولا في النظم القرآني ما يقتضي ذلك . وقد ثبت الثناء على من جمع بين الأمرين من المؤمنين في غير آية . فمن ذلك قوله تعالى : { يَأَيُّهَا الذين ءامَنُوا ءامِنُوا بالله وَرَسُولِهِ والكتاب الذى نَزَّلَ على رَسُولِهِ والكتاب الذى أَنَزلَ مِن قَبْلُ } [ النساء : 136 ] وكقوله : { وَقُولُوا ءامَنَّا بالذى أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ } [ العنكبوت : 46 ] ، وقوله : { آمن الرسول بما انزل إليه مِن ربّهِ والمؤمنون كُلٌّ ءامَنَ بالله وَمَلَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مّن رسُلِهِ } [ البقرة : 285 ] ، وقال : { والذين ءامَنُوا بالله وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ منْهُمْ } [ النساء : 152 ] .