مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{وَٱلَّذِينَ يُؤۡمِنُونَ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيۡكَ وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبۡلِكَ وَبِٱلۡأٓخِرَةِ هُمۡ يُوقِنُونَ} (4)

قوله تعالى ( والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون } .

اعلم أن قوله { الذين يؤمنون بالغيب } عام يتناول كل من آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم ، سواء كان قبل ذلك مؤمنا بموسى وعيسى عليهما السلام ؛ أو ما كان مؤمنا بهما ، ودلالة اللفظ العام على بعض ما دخل فيه التخصيص أضعف من دلالة اللفظ الخاص على ذلك البعض ، لأن العام يحتمل التخصيص والخاص لا يحتمله فلما كانت هذه السورة مدنية ، وقد شرف الله تعالى المسلمين بقوله { هدى للمتقين الذين يؤمنون بالغيب } فذكر بعد ذلك أهل الكتاب الذين آمنوا بالرسول : كعبد الله بن سلام وأمثاله بقوله { والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك } لأن في هذا التخصيص بالذكر مزيد تشريف لهم كما في قوله تعالى { من كان عدوا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال } ثم تخصيص عبد الله بن سلام وأمثاله بهذا التشريف ترغيب لأمثاله في الدين ، فهذا هو السبب في ذكر هذا الخاص بعد ذلك العام ، ثم نقول . أما قوله { والذين يؤمنون بما أنزل إليك } ففيه مسائل :

المسألة الأولى : لا نزاع بين أصحابنا وبين المعتزلة في أن الإيمان إذا عدي بالباء فالمراد منه التصديق ، فإذا قلنا فلان آمن بكذا ، فالمراد أنه صدق به ولا يكون المراد أنه صام وصلى ، فالمراد بالإيمان هاهنا التصديق بالاتفاق لكن لابد معه من المعرفة لأن الإيمان هاهنا خرج مخرج المدح والمصدق مع الشك لا يأمن أن يكن كاذبا فهو إلى الذم أقرب .

المسألة الثانية : المراد من إنزال الوحي وكون القرآن منزلا ، ومنزلا ، ومنزولا به ، أن جبريل عليه السلام سمع في السماء كلام الله تعالى فنزل على الرسول به ، وهذا كما يقال : نزلت رسالة الأمير من القصر ، والرسالة لا تنزل لكن المستمع يسمع الرسالة من علو فينزل ويؤدي في سفل ، وقوله الأمير لا يفارق ذاته ، ولكن السامع يسمع فينزل ويؤدي بلفظ نفسه ، ويقال فلان ينقل الكلام إذا سمع في موضع وأداه في موضع آخر . فإن قيل كيف سمع جبريل كلام الله تعالى ، وكلامه ليس من الحروف والأصوات عندكم ؟ قلنا : يحتمل أن يخلق الله تعالى له سمعا لكلامه ثم أقدره على عبارة يعبر بها عن ذلك الكلام القديم ، ويجوز أن يكون الله خلق في اللوح المحفوظ كتابة بهذا النظم المخصوص فقرأه جبريل عليه السلام فحفظه ، ويجوز أن يخلق الله أصواتا مقطعة بهذا النظم المخصوص في جسم مخصوص فيتلفقه جبريل عليه السلام ويخلق له علما ضروريا بأنه هو العبارة المؤدية لمعنى ذلك الكلام القديم .

المسألة الثالثة : قوله { والذين يؤمنون بما أنزل إليك } هذا الإيمان واجب ، لأنه قال في آخره { وأولئك هم المفلحون } فثبت أن من لم يكن له هذا الإيمان وجب أن لا يكون مفلحا ، وإذا ثبت أنه واجب وجب تحصيل العلم بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم على سبيل التفصيل ، لأن المرء لا يمكنه أن يقوم بما أوجبه الله عليه علما وعملا إلا إذا علمه على سبيل التفصيل ، لأنه إن لم يعلمه كذلك امتنع عليه القيام به ، إلا أن تحصيل هذا العلم واجب على سبيل الكفاية ، فإن تحصيل العلم بالشرائع النازلة على محمد صلى الله عليه وسلم على سبيل التفصيل غير واجب على العامة ، وأما قوله { وما أنزل من قبلك } فالمراد به ما أنزل على الأنبياء الذين كانوا قبل محمد ، والإيمان به واجب على الجملة ، لأن الله تعالى ما تعبدنا الآن به حتى يلزمنا معرفته على التفصيل ، بل إن عرفنا شيئا من تفاصيله فهناك يجب علينا الإيمان بتلك التفاصيل ، وأما قوله { وبالآخرة هم يوقنون } ففيه مسائل :

المسألة الأولى : الآخرة صفة الدار الآخرة ، وسميت بذلك لأنها متأخرة عن الدنيا وقيل للدنيا دنيا لأنها أدنى من الآخرة .

المسألة الثانية : اليقين هو العلم بالشيء بعد أن كان صاحبه شاكا فيه ، فلذلك لا يقول القائل : تيقنت وجود نفسي ، وتيقنت أن السماء فوقي لما أن العلم به غير مستدرك ، ويقال ذلك في العلم الحادث بالأمور سواء كان ذلك العلم ضروريا أو استدلاليا ، فيقول القائل : تيقنت ما أردته بهذا الكلام وإن كان قد علم مراده بالاضطرار ، ويقول تيقنت أن الإله واحد وإن كان قد علمه بالاكتساب ؛ ولذلك لا يوصف الله تعالى بأنه يتيقن الأشياء .

المسألة الثالثة : أن الله تعالى مدحهم على كونهم متيقنين بالآخرة ، ومعلوم أنه لا يمدح المرء بأن يتيقن وجود الآخرة فقط ، بل لا يستحق المدح إلا إذا تيقن وجود الآخرة مع ما فيها من الحساب والسؤال وإدخال المؤمنين الجنة ، والكافرين النار . روى عنه عليه السلام أنه قال : «يا عجبا كل العجب من الشاك في الله وهو يرى خلقه ، وعجبا ممن يعرف النشأة الأولى ثم ينكر النشأة الآخرة ، وعجبا ممن ينكر البعث والنشور وهو في كل يوم وليلة يموت ويحيا -يعني النوم واليقظة- وعجبا ممن يؤمن بالجنة وما فيها من النعيم ثم يسعى لدار الغرور ، وعجبا من المتكبر الفخور وهو يعلم أن أوله نطفة مذرة وآخره جيفة قذرة » .