الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري - الزمخشري  
{وَٱلَّذِينَ يُؤۡمِنُونَ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيۡكَ وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبۡلِكَ وَبِٱلۡأٓخِرَةِ هُمۡ يُوقِنُونَ} (4)

فإن قلت : { والذين يُؤْمِنُونَ } أهم غير الأوّلين أم هم الأوّلون ؟ وإنما وسط العاطف كما يوسط بين الصفات في قولك هو الشجاع والجواد ، وفي قوله :

إلَى المَلِكِ الْقَرْمِ وَابْنِ الْهممِ *** وَلَيْثِ الْكَتِيبَةِ في المُزْدَحمْ

وقوله :

يالهف زَيَّابَةَ لِلْحَارِثِ الصَّ***ابِحِ فالغَانِم فَالآيِبِ

قلت : يحتمل أن يراد بهؤلاء مؤمنو أهل الكتاب كعبد الله بن سلام وأضرابه من الذين آمنوا ، فاشتمل إيمانهم على كل وحي أنزل من عند الله ، وأيقنوا بالآخرة إيقاناً زال معه ما كانوا عليه من أنه لا يدخل الجنة إلا من كان هوداً أو نصارى وأنّ النار لن تمسهم إلا أياماً معدودات ، واجتماعهم على الإقرار بالنشأة الأخرى وإعادة الأرواح في الأجساد ، ثم افتراقهم فرقتين : منهم من قال : تجري حالهم في التلذذ بالمطاعم والمشارب والمناكح على حسب مجراها في الدنيا ؛ ودفعه آخرون فزعموا أن ذلك إنما احتيج إليه في هذه الدار من أجل نماء الأجسام ولمكان التوالد والتناسل ، وأهل الجنة مستغنون عنه فلا يتلذذون إلا بالنسيم والأرواح العبقة والسماع اللذيد والفرح والسرور ، واختلافهم في الدوام والانقطاع ، فيكون المعطوف غير المعطوف عليه . ويحتمل أن يراد وصف الأوّلين . ووسط العاطف على معنى أنهم الجامعون بين تلك الصفات وهذه .

فإن قلت : فإن أريد بهؤلاء غير أولئك ، فهل يدخلون في جملة المتقين أم لا ؟ . قلت : إن عطفتهم على { الذين يُؤْمِنُونَ بالغيب } دخلوا وكانت صفة التقوى مشتملة على الزمرتين من مؤمني أهل الكتاب وغيرهم . وإن عطفتهم على { المتقين } لم يدخلوا . وكأنه قيل : هدى للمتقين ، وهدى للذين يؤمنون بما أنزل إليك .

فإن قلت : قوله : { بِمَاأُنزِلََ إِلَيْكَ } إن عنى به القرآن بأسره والشريعة عن آخرها ، فلم يكن ذلك منزلاً وقت إيمانهم ، فكيف قيل أنزل بلفظ المضيّ ؟ وإن أريد المقدار الذي سبق إنزاله وقت إيمانهم فهو إيمان ببعض المنزل واشتمال الإيمان على الجميع سالفه ومترقبه واجب . قلت : المراد المنزل كله وإنما عبر عنه بلفظ المضيّ وإن كان بعضه مترقباً ، تغليباً للموجود على ما لم يوجد ، كما يغلب المتكلم على المخاطب ، والمخاطب على الغائب فيقال : أنا وأنت فعلنا ، وأنت وزيد تفعلان . ولأنه إذا كان بعضه نازلاً وبعضه منتظر النزول جعل كأن كله قد نزل وانتهى نزوله ، ويدل عليه قوله تعالى : { إِنَّا سَمِعْنَا كتابا أُنزِلَ مِن بَعْدِ موسى } [ الأحقاف : 30 ] ولم يسمعوا جميع الكتاب ، ولا كان كله منزلاً ، ولكن سبيله سبيل ما ذكرنا . ونظيره قولك : كل ما خطب به فلان فهو فصيح ، وما تكلم بشيء إلا وهو نادر . ولا تريد بهذا الماضي منه فحسب دون الآتي ، لكونه معقوداً بعضه ببعض ، ومربوطاً آتيه بماضيه . وقرأ يزيد بن قطيب { بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ } على لفظ ما سمي فاعله .

وفي تقديم { وبالاخرة } وبناء { يُوقِنُونَ } على { هُمْ } تعريض بأهل الكتاب وبما كانوا عليه من إثبات أمر الآخرة على خلاف حقيقته ، وأنّ قولهم ليس بصادر عن إيقان ، وأن اليقين ما عليه من آمن بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك . والإيقان : إتقان العلم بانتفاء الشك والشبهة عنه . و { وبالاخرة } تأنيث الآخر الذي هو نقيض الأوّل ، وهي صفة الدار بدليل قوله : { تِلْكَ الدار الأخرة } [ القصص : 77 ] وهي من الصفات الغالبة ، وكذلك الدنيا . وعن نافع أنه خففها بأن حذف الهمزة وألقى حركتها على اللام ، كقوله : { دَابَّةُ الأَرْضِ } [ سبأ : 14 ] وقرأ أبو حية النميري «يؤقنون » بالهمز ، جعل الضمة في جار الواو كأنها فيه ، فقلبها قلب واو «وجوه » و«وقتت » . ونحوه :

لَحُبَّ المُؤْقِدَانِ إِلَيَّ مُؤْسَى *** وَجَعدَةُ إذْ أَضَاءَهُمَا الْوَقُودُ