فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{وَٱلَّذِينَ يُؤۡمِنُونَ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيۡكَ وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبۡلِكَ وَبِٱلۡأٓخِرَةِ هُمۡ يُوقِنُونَ} (4)

{ والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون }

{ والذين يؤمنون } أي يصدقون { بما أنزل إليك } المراد به ما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم وهو القرآن بأسره والشريعة عن آخرها ، والتعبير بالماضي مع كون بعضه مترقبا لتغليب المحقق على المقدر أو لتنزيل ما في شرف الوقوع منزلة الواقع ، قال القاضي الإنزال نقل الشيء من أعلى إلى أسفل ، وهو إنما يلحق المعاني بتوسط لحوقه الذوات الحاملة لها ، قال الإمام المراد من إنزال القرآن أن جبريل عليه السلام في السماء سمع كلام الله فنزل به على الرسول صلى الله عليه وآله وسلم كما يقال نزلت رسالة الأمير من القصر ، والرسالة لا تنزل ولكن كان المستمع في علو فنزل وأدى في سفل ، وقول الأمير لا يفارق ذاته اه .

قال الخفاجي وذهب بعض السلف إلى أنه من المتشابه أي يجزم بالنزول من غير معرفة بكيفيته وهو الحق إذ مثل هذا من التدقيقات الفلسفية لا ينبغي ذكره في التفسير اه حا²صلة .

قلت ويرد على مذهب بعض السلف ما ورد في الأحاديث الصحيحة من بيان كيفية الوحي وبدئه وبه ترجم البخاري ، وهو أول باب عنون به كتابه الصحيح . وقد نطق به القرآن ، ولا شك أن كلامه سبحانه المنزل على الرسول صلى الله عليه وآله وسلم مسموع بالآذان مقروء بالألسنة محفوظ في الصدور ، مكتوب في المصاحف ، له حرف وصوت كما دلت عليه السنة المطهرة في غير موضع من دواوين الإسلام وزبر الإيمان ، وليس هذا موضع بسطه ، وسيأتي الكلام عليه تحت تفسير قوله تعالى { حتى إذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم قالوا الحق وهو العلي الكبير } .

{ وما أنزل من قلبك } وهو الكتب السالفة المنزلة على الأنبياء من قبل كالتوراة والإنجيل والزبور وصحف إبراهيم وغيرها ، والإيمان بالكل جملة فرض عين ، بالقرآن ، تفصيلا فرض كفاية ، قيل هم مؤمنو أهل الكتاب ، وفيهم نزلت ، وقد رجح هذا ابن جرير ، ونقله السدي عن ابن عباس وابن مسعود وأناس من الصحابة ، واستشهد له ابن جرير بقوله تعالى { إن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم } وبقوله تعالى { والذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون } والآية الأولى نزلت في مؤمني العرب ، وقيل إن الآيتين جميعا في العموم ، وعلى هذا فالجملة عطف على الجملة الأولى صفة للمتقين بعد صفة أو مرفوعة على الاستئناف ، أو عطف على المتقين ، والتقدير هدى لهم وللذين يؤمنون ، الحق أن هذه الآية في المؤمنين كالتي قبلها وليس مجرد ذكر الإيمان بما أنزل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وما أنزل إلى من قبله بمقتضى لجعل ذلك وصفا لمؤمني أهل الكتاب ، ولم يأت ما يوجب المخالفة لهذا ، ولا في نظم القرآن ما يقتضي ذلك ، وقد ثبت الثناء على من جمع بين الأمرين من المؤمنين في غير آية فمن ذلك قوله { يا أيها الذين آمنوا بالله ورسوله والكتاب الذي نزل على رسوله والكتاب الذي أنزل من قبل } وقوله تعالى { وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم } وقوله تعالى { آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله } وقال { والذين آمنوا بالله ورسله ولم يفرقوا بين أحد منهم } .

{ وبالآخرة } أي بالدار الآخرة ، تأنيث الآخر الذي هو نقيض الأول كما أن الدنيا تأنيث الأدنى غلبتا على الدارين فجرتا مجرى الأسماء وهي صفة الدار بدليل قوله تعالى { تلك الدار الآخرة } وسميت آخرة لتأخرها عن الدنيا وكونها بعدها { هم يوقنون } الإيقان العلم بانتقاء الشك والشبهة عنه ، قال في الكشاف فالمراد أنهم يوقنون بالبعث والنشور وسائر أمور الآخرة من دون شك ، وفي تقديم الظرف مع بناء الفعل على الضمير إشعار بالحصر ، وأن ما عدا هذا الأمر الذي هو أساس الإيمان ورأسه ليس بمستأهل عندهم للإيقان به والقطع بوقوعه ، وفيه تعريض ممن عداهم من أهل الكتاب ، فإن اعتقادهم في أمور الآخرة بمعزل من الصحة فضلا عن الوصول إلى مرتبة اليقين .