البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{وَٱلَّذِينَ يُؤۡمِنُونَ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيۡكَ وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبۡلِكَ وَبِٱلۡأٓخِرَةِ هُمۡ يُوقِنُونَ} (4)

{ والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون } ، الذين ذكروا في إعرابه الخفض على النعت للمتقين ، أو البدل والنصب على المدح على القطع ، أو بإضمار أعني على التفسير قالوا ، أو على موضع المتقين ، تخيلوا أن له موضعاً وأنه نصب ، واغتروا بالمصدر فتوهموا أنه معمول له عدي باللام ، والمصدر هنا ناب عن اسم الفاعل فلا يعمل ، وإن عمل اسم الفاعل وأنه بقي على مصدريته فلا يعمل ، لأنه هنا لا ينحل بحرف مصدر وفعل ، ولا هو بدل من اللفظ بالفعل بل للمتقين بتعلق بمحذوف صفة لقوله هدى ، أي هدى كائن للمتقين ، والرفع على القطع أي هم الذين ، أو على الابتداء والخبر .

الإنزال : الإيصال والإبلاغ ، ولا يشترط أن يكون من أعلى ، { فإذا نزل بساحتهم } أي وصل وحل ، إلى حرف جر معناه انتهاء الغاية وزيد كونها للمصاحبة وللتبيين ولموافقة اللام وفي ومن ، وأجاز الفراء زيادتها ، مثل ذلك : سرت إلى الكوفة ، { ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم } ، { السجن أحب إلي } ، { والأمر إليك } ، كأنني إلى الناس مطلبي ، أي في الناس .

أيسقي فلا يروي إلى ابن أحمرا ، أي متى تهوي إليهم في قراءة من قرأ بفتح الواو ، أي تهواهم ، وحكمها في ثبوت الفاء ، وقلبها حكم على ، وقد تقدم .

والكاف المتصلة بها ضمير المخاطب المذكر ، وتكسر للمؤنث ، ويلحقها ما يلحق أنت في التثنية والجمع دلالة عليهما ، وربما فتحت للمؤنث ، أو اقتصر عليها مكسورة في جمعها نحو :

ولست بسائل جارات بيتي *** أغياب رجالك أم شهود

قبل وبعد ظرفا زمان وأصلهما الوصف ولهما أحكام تذكر في النحو ، ومدلول قبل متقدم ، كما أن مدلول بعد متأخر .

الآخرة تأنيث الآخر مقابل الأول وأصل الوصف { تلك الدار الآخرة } { ولدار الآخرة } ثم صارت من الصفات الغالبة ، والجمهور على تسكين لام التعريف وإقرار الهمزة التي تكون بعدها للقطع ، وورش يحذف وينقل الحركة إلى اللام .

الإيقان : التحقق للشيء لسكونه ووضوحه ، يقال يقن الماء سكن وظهر ما تحته ، وافعل بمعنى استفعل كابل بمعنى استبل .

وقرأ الجمهور : { بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك } مبنياً للمفعول ، وقرأهما النخعي وأبو حيوة ويزيد بن قطيب مبنياً للفاعل .

وقرئ شاذاً بما أنزل إليك بتشديد اللام ، ووجه ذلك أنه أسكن لام أنزل كما أسكن وضاح آخر الماضي في قوله :

إنما شعري قيد ، قد خلط بخلجان***

ثم حذف همزة إلى ونقل كسرتها إلى لام أنزل فالتقى المثلان من كلمتين ، والإدغام جائز فأدغم .

وقرأ الجمهور : يوقنون بواو ساكنة بعد الياء وهي مبدلة من ياء لأنه من أيقن .

وقرأ أبو حية النمري بهمزة ساكنة بدل الواو ، كما قال الشاعر :

لحب المؤقذان إلى موسى *** وجعدة إذ أضاءهما الوقود

وذكر أصحابنا أن هذا يكون في الضرورة ، ووجهت هذه القراءة بأن هذه الواو لما جاورت المضموم فكان الضمة فيها ، وهم يبدلون من الواو المضمومة همزة ، قالوا وفي وجوه ووقتت أجوه وأقتت ، فأبدلوا من هذه همزة ، إذ قدروا الضمة فيها وإعادة الموصول بحرف العطف يحتمل المغايرة في الذات وهو الأصل ، فيحتمل أن يراد مؤمنو أهل الكتاب لإيمانهم بكل وحي ، فإن جعلت الموصول معطوفاً على الموصول اندرجوا في جملة المتقين ، إن لم يرد بالمتقين بوصفه مؤمنو العرب ، وذلك لانقسام المتقين إلى القسمين .

وإن جعلته معطوفاً على المتقين لم يندرج لأنه إذ ذاك قسيم لمن له الهدى لا قسم من المتقين .

ويحتمل المغايرة في الوصف ، فتكون الواو للجمع بين الصفات ، ولا تغاير في الذواب بالنسبة للعطف وحذف الفاعل في قراءة الجمهور ، وبني الفعلان للمفعول للعلم بالفاعل ، نحو : أنزل المطر ، وبناؤهما للفاعل في قراءة النخعي ، وأبي حيوة ، ويزيد بن قطيب ، فاعله مضمر ، قيل : الله أو جبريل .

قالوا : وقوة الكلام تدل على ذلك وهو عندي من الالتفات لأنه تقدم قوله : { ومما رزقناهم } ، فخرج من ضمير المتكلم إلى ضمير الغيبة ، إذ لو جرى على الأول لجاء { بما أنزل إليك } ، { وما أنزلنا من قبلك } ، وجعل صلة ما الأولى ماضية لأن أكثره كان نزل بمكة والمدينة ، فأقام الأكثر مقام الجميع ، أو غلب الموجود لأن الإيمان بالمتقدم الماضي يتقتصي الإيمان بالمتأخر ، لأن موجب الإيمان واحد .

وأما صلة الثانية فمتحققة المضي ولم يعد حرف الجر فيما الثانية ليدل أنه إيمان واحد ، إذ لو أعاد لأشعر بأنهما إيمانان .

وبالآخرة : تقدم أن المعنى بها الدار الآخرة للتصريح بالموصوف في بعض الآي ، وحمله بعضهم على النشأة الآخرة ، إذ قد جاء أيضاً مصرحاً بهذا الموصوف ، وكلاهما يدل على البعث .

وأكد أمر الآخرة بتعلق الإيقان بها الذي هو أجلى وآكد مراتب العلم والتصديق ، وإن كان في الحقيقة لا تفاوت في العلم والتصديق دفعاً لمجاز إطلاق العلم ، ويراد به الظن ، فذكر أن الإيمان والعلم بالآخرة لا يكون إلا إيقاناً لا يخالطه شيء من الشك والارتياب .

وغاير بين الإيمان بالمنزل والإيمان بالآخرة في اللفظ لزوال كلفة لتكرار ، وكان الإيقان هو الذي خص بالآخرة لكثرة غرائب متعلقات الآخرة ، وما أعد فيها من الثواب والعقاب السرمديين ، وتفصيل أنواع التنعيم والتعذيب ، ونشأة أصحابها على خلاف النشأة الدنيوية ورؤية الله تعالى .

فالآخرة أغرب في الإيمان بالغيب من الكتاب المنزل ، فلذلك خص بلفظ الإيقان ، ولأن المنزل إلى الرسول صلى الله عليه وسلم مشاهد أو كالمشاهد ، والآخرة غيب صرف ، فناسب تعليق اليقين بما كان غيباً صرفاً .

قالوا : والإيقان هو العلم الحادث سواء كان ضرورياً أو استدلالياً ، فلذلك لا يوصف به الباري تعالى ، ليس من صفاته الموقن وقدم المجرور اعتناء به ولتطابق الأواخر .

وإيراد هذه الجملة اسمية وإن كانت الجملة معطوفة على جملة فعلية آكد في الإخبار عن هؤلاء بالإيقان ، لأن قولك : ريد فعل آكد من فعل زيد لتكرار الاسم في الكلام بكونه مضمراً ، وتصديره مبتدأ يشعر بالاهتمام بالمحكوم عليه ، كما أن التقديم للفعل مشعر بالاهتمام بالمحكوم به .

وذكر لفظة هم في قوله : { هم يوقنون } ، ولم يذكر لفظة هم في قوله : { ومما رزقناهم ينفقون } لأن وصف إيقانهم بالآخرة أعلى من وصفهم بالإنفاق ، فاحتاج هذا إلى التوكيد ولم يحتج ذلك إلى تأكيد ، ولأنه لو ذكرهم هناك لكان فيه قلق لفظي ، إذ كان يكون ومما رزقناهم هم ينفقون .

5

/خ20