{ والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون } ، الذين ذكروا في إعرابه الخفض على النعت للمتقين ، أو البدل والنصب على المدح على القطع ، أو بإضمار أعني على التفسير قالوا ، أو على موضع المتقين ، تخيلوا أن له موضعاً وأنه نصب ، واغتروا بالمصدر فتوهموا أنه معمول له عدي باللام ، والمصدر هنا ناب عن اسم الفاعل فلا يعمل ، وإن عمل اسم الفاعل وأنه بقي على مصدريته فلا يعمل ، لأنه هنا لا ينحل بحرف مصدر وفعل ، ولا هو بدل من اللفظ بالفعل بل للمتقين بتعلق بمحذوف صفة لقوله هدى ، أي هدى كائن للمتقين ، والرفع على القطع أي هم الذين ، أو على الابتداء والخبر .
الإنزال : الإيصال والإبلاغ ، ولا يشترط أن يكون من أعلى ، { فإذا نزل بساحتهم } أي وصل وحل ، إلى حرف جر معناه انتهاء الغاية وزيد كونها للمصاحبة وللتبيين ولموافقة اللام وفي ومن ، وأجاز الفراء زيادتها ، مثل ذلك : سرت إلى الكوفة ، { ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم } ، { السجن أحب إلي } ، { والأمر إليك } ، كأنني إلى الناس مطلبي ، أي في الناس .
أيسقي فلا يروي إلى ابن أحمرا ، أي متى تهوي إليهم في قراءة من قرأ بفتح الواو ، أي تهواهم ، وحكمها في ثبوت الفاء ، وقلبها حكم على ، وقد تقدم .
والكاف المتصلة بها ضمير المخاطب المذكر ، وتكسر للمؤنث ، ويلحقها ما يلحق أنت في التثنية والجمع دلالة عليهما ، وربما فتحت للمؤنث ، أو اقتصر عليها مكسورة في جمعها نحو :
ولست بسائل جارات بيتي *** أغياب رجالك أم شهود
قبل وبعد ظرفا زمان وأصلهما الوصف ولهما أحكام تذكر في النحو ، ومدلول قبل متقدم ، كما أن مدلول بعد متأخر .
الآخرة تأنيث الآخر مقابل الأول وأصل الوصف { تلك الدار الآخرة } { ولدار الآخرة } ثم صارت من الصفات الغالبة ، والجمهور على تسكين لام التعريف وإقرار الهمزة التي تكون بعدها للقطع ، وورش يحذف وينقل الحركة إلى اللام .
الإيقان : التحقق للشيء لسكونه ووضوحه ، يقال يقن الماء سكن وظهر ما تحته ، وافعل بمعنى استفعل كابل بمعنى استبل .
وقرأ الجمهور : { بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك } مبنياً للمفعول ، وقرأهما النخعي وأبو حيوة ويزيد بن قطيب مبنياً للفاعل .
وقرئ شاذاً بما أنزل إليك بتشديد اللام ، ووجه ذلك أنه أسكن لام أنزل كما أسكن وضاح آخر الماضي في قوله :
إنما شعري قيد ، قد خلط بخلجان***
ثم حذف همزة إلى ونقل كسرتها إلى لام أنزل فالتقى المثلان من كلمتين ، والإدغام جائز فأدغم .
وقرأ الجمهور : يوقنون بواو ساكنة بعد الياء وهي مبدلة من ياء لأنه من أيقن .
وقرأ أبو حية النمري بهمزة ساكنة بدل الواو ، كما قال الشاعر :
لحب المؤقذان إلى موسى *** وجعدة إذ أضاءهما الوقود
وذكر أصحابنا أن هذا يكون في الضرورة ، ووجهت هذه القراءة بأن هذه الواو لما جاورت المضموم فكان الضمة فيها ، وهم يبدلون من الواو المضمومة همزة ، قالوا وفي وجوه ووقتت أجوه وأقتت ، فأبدلوا من هذه همزة ، إذ قدروا الضمة فيها وإعادة الموصول بحرف العطف يحتمل المغايرة في الذات وهو الأصل ، فيحتمل أن يراد مؤمنو أهل الكتاب لإيمانهم بكل وحي ، فإن جعلت الموصول معطوفاً على الموصول اندرجوا في جملة المتقين ، إن لم يرد بالمتقين بوصفه مؤمنو العرب ، وذلك لانقسام المتقين إلى القسمين .
وإن جعلته معطوفاً على المتقين لم يندرج لأنه إذ ذاك قسيم لمن له الهدى لا قسم من المتقين .
ويحتمل المغايرة في الوصف ، فتكون الواو للجمع بين الصفات ، ولا تغاير في الذواب بالنسبة للعطف وحذف الفاعل في قراءة الجمهور ، وبني الفعلان للمفعول للعلم بالفاعل ، نحو : أنزل المطر ، وبناؤهما للفاعل في قراءة النخعي ، وأبي حيوة ، ويزيد بن قطيب ، فاعله مضمر ، قيل : الله أو جبريل .
قالوا : وقوة الكلام تدل على ذلك وهو عندي من الالتفات لأنه تقدم قوله : { ومما رزقناهم } ، فخرج من ضمير المتكلم إلى ضمير الغيبة ، إذ لو جرى على الأول لجاء { بما أنزل إليك } ، { وما أنزلنا من قبلك } ، وجعل صلة ما الأولى ماضية لأن أكثره كان نزل بمكة والمدينة ، فأقام الأكثر مقام الجميع ، أو غلب الموجود لأن الإيمان بالمتقدم الماضي يتقتصي الإيمان بالمتأخر ، لأن موجب الإيمان واحد .
وأما صلة الثانية فمتحققة المضي ولم يعد حرف الجر فيما الثانية ليدل أنه إيمان واحد ، إذ لو أعاد لأشعر بأنهما إيمانان .
وبالآخرة : تقدم أن المعنى بها الدار الآخرة للتصريح بالموصوف في بعض الآي ، وحمله بعضهم على النشأة الآخرة ، إذ قد جاء أيضاً مصرحاً بهذا الموصوف ، وكلاهما يدل على البعث .
وأكد أمر الآخرة بتعلق الإيقان بها الذي هو أجلى وآكد مراتب العلم والتصديق ، وإن كان في الحقيقة لا تفاوت في العلم والتصديق دفعاً لمجاز إطلاق العلم ، ويراد به الظن ، فذكر أن الإيمان والعلم بالآخرة لا يكون إلا إيقاناً لا يخالطه شيء من الشك والارتياب .
وغاير بين الإيمان بالمنزل والإيمان بالآخرة في اللفظ لزوال كلفة لتكرار ، وكان الإيقان هو الذي خص بالآخرة لكثرة غرائب متعلقات الآخرة ، وما أعد فيها من الثواب والعقاب السرمديين ، وتفصيل أنواع التنعيم والتعذيب ، ونشأة أصحابها على خلاف النشأة الدنيوية ورؤية الله تعالى .
فالآخرة أغرب في الإيمان بالغيب من الكتاب المنزل ، فلذلك خص بلفظ الإيقان ، ولأن المنزل إلى الرسول صلى الله عليه وسلم مشاهد أو كالمشاهد ، والآخرة غيب صرف ، فناسب تعليق اليقين بما كان غيباً صرفاً .
قالوا : والإيقان هو العلم الحادث سواء كان ضرورياً أو استدلالياً ، فلذلك لا يوصف به الباري تعالى ، ليس من صفاته الموقن وقدم المجرور اعتناء به ولتطابق الأواخر .
وإيراد هذه الجملة اسمية وإن كانت الجملة معطوفة على جملة فعلية آكد في الإخبار عن هؤلاء بالإيقان ، لأن قولك : ريد فعل آكد من فعل زيد لتكرار الاسم في الكلام بكونه مضمراً ، وتصديره مبتدأ يشعر بالاهتمام بالمحكوم عليه ، كما أن التقديم للفعل مشعر بالاهتمام بالمحكوم به .
وذكر لفظة هم في قوله : { هم يوقنون } ، ولم يذكر لفظة هم في قوله : { ومما رزقناهم ينفقون } لأن وصف إيقانهم بالآخرة أعلى من وصفهم بالإنفاق ، فاحتاج هذا إلى التوكيد ولم يحتج ذلك إلى تأكيد ، ولأنه لو ذكرهم هناك لكان فيه قلق لفظي ، إذ كان يكون ومما رزقناهم هم ينفقون .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.