قوله تعالى : { وربطنا } شددنا { على قلوبهم } بالصبر والتثبيت وقويناهم بنور الإيمان حتى صبروا على هجران دار قومهم ، ومفارقة ما كانوا فيه من العز وخصب العيش وفروا بدينهم إلى الكهف ، { إذ قاموا } بين يدي دقيانوس حين عاتبهم على ترك عبادة الأصنام { فقالوا ربنا رب السماوات والأرض لن ندعوا من دونه إلها } ، قالوا ذلك لأن قومهم كانوا يعبدون الأوثان ، { لقد قلنا إذاً شططاً } يعني : إن دعونا غير الله لقد قلنا إذاً شططاً ، قال ابن عباس : جوراً . وقال قتادة : كذباً . وأصل الشطط والأشطاط مجازة القول والإفراط .
وقوله : { وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ } يقول تعالى : وصَبَّرناهم على مخالفة قومهم ومدينتهم ، ومفارقة ما كانوا فيه من العيش الرغيد والسعادة والنعمة ، فإنه قد ذكر غير واحد من المفسرين من السلف والخلف أنهم كانوا من أبناء ملوك الروم وسادتهم ، وأنهم خرجوا يومًا في بعض أعياد قومهم ، وكان لهم مجتمع في السنة يجتمعون فيه في ظاهر البلد ، وكانوا يعبدون الأصنام والطواغيت ، ويذبحون لها ، وكان لهم ملك جبار عنيد يقال له : " دقيانوس " ، وكان يأمر الناس بذلك ويحثهم عليه ويدعوهم إليه . فلما خرج الناس لمجتمعهم ذلك ، وخرج هؤلاء الفتية مع آبائهم وقومهم ، ونظروا إلى ما يصنع قومهم بعين بصيرتهم ، عرفوا{[18005]} أن هذا الذي يصنعه قومهم من السجود لأصنامهم والذبح لها ، لا ينبغي إلا لله الذي خلق السموات والأرض . فجعل كل واحد منهم يتخلص من قومه ، وينحاز منهم{[18006]} ويتبرز عنهم ناحية . فكان{[18007]} أول من جلس منهم [ وحده ]{[18008]} أحدهم ، جلس تحت ظل شجرة ، فجاء الآخر فجلس عنده ، وجاء الآخر فجلس إليهما ، وجاء الآخر فجلس إليهم ، وجاء الآخر ، وجاء الآخر ، وجاء الآخر ، ولا يعرف واحد منهم الآخر ، وإنما جمعهم هناك الذي جمع قلوبهم على الإيمان ، كما جاء في الحديث الذي رواه البخاري تعليقًا ، من حديث يحيى بن سعيد ، عن عمرة ، عن عائشة ، رضي الله عنها ، قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الأرواح جنود مُجَنَّدة ، فما تعارف منها ائتلف ، وما تناكر منها اختلف " {[18009]} . وأخرجه مسلم في صحيحه من حديث سهيل{[18010]} عن أبيه ، عن أبي هريرة عن النبي{[18011]} صلى الله عليه وسلم{[18012]} .
والناس يقولون : الجنسية علة الضم .
والغرض أنه جعل كل{[18013]} أحد منهم يكتم ما هو فيه عن أصحابه ، خوفًا منهم ، ولا يدري أنهم مثله ، حتى قال أحدهم : تعلمون - والله يا قوم - إنه ما{[18014]} أخرجكم من قومكم وأفردكم عنهم ، إلا{[18015]} شيء فليظهر كل واحد منكم بأمره . فقال آخر : أما أنا فإني [ والله ]{[18016]} رأيت ما قومي عليه ، فعرفت أنه باطل ، وإنما الذي يستحق أن يعبد [ وحده ]{[18017]} ولا يشرك به شيء هو الله الذي خلق كل شيء : السموات والأرض وما بينهما . وقال الآخر : وأنا والله وقع لي كذلك . وقال الآخر كذلك ، حتى توافقوا كلهم على كلمة واحدة ، فصاروا يدًا واحدة وإخوان صدق ، فاتخذوا لهم معبدًا يعبدون الله فيه ، فعرف بهم قومهم ، فوشوا بأمرهم إلى ملكهم ، فاستحضرهم بين يديه فسألهم عن أمرهم وما هم عليه{[18018]} فأجابوه بالحق ، ودعوه إلى الله عز وجل ؛ ولهذا أخبر تعالى عنهم بقوله : { وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا } ولن : لنفي التأبيد ، أي : لا يقع منا هذا أبدًا ؛ لأنا لو فعلنا ذلك لكان باطلا ؛ ولهذا قال عنهم : { لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا } أي : باطِلا وكذبًا وبهتانًا .
الربط على القلب مستعار إلى تثبيت الإيمان وعدم التردد فيه ، فلما شاع إطلاق القلب على الاعتقاد استعير الربط عليه للتثبيت على عقده . كما قال تعالى : { لولا أن ربطنا على قلبها لتكون من المؤمنين } [ القصص : 10 ] . ومنه قولهم : هو رابط الجأش . وفي ضده يقال : اضطرب قلبه ، وقال تعالى : { وبلغت القلوب الحناجر } [ الأحزاب : 10 ] . استعير الاضطراب ونحوه للتردد والشك في حصول شيء .
وتعدية فعل { ربطنا } بحرف الاستعلاء للمبالغة في الشد لأن حرف الاستعلاء مستعار لمعنى التمكن من الفعل .
و { إذ قاموا } ظرف للربط ، أي كان الربط في وقت في قيامهم ، أي كان ذلك الخاطر الذي قاموا به مقارناً لربط الله على قلوبهم ، أي لولا ذلك لما أقدموا على مثل ذلك العمل وذلك القول .
والقيام يحتمل أن يكون حقيقياً ، بأن وقفوا بين يدي ملك الروم المشرك ، أو وقفوا في مجامع قومهم خطباء معلنين فساد عقيدة الشرك . ويحتمل أن يكون القيام مستعاراً للإقدام والجَسْر على عمل عظيم ، وللاهتمام بالعمل أو القول ، تشبيهاً للاهتمام بقيام الشخص من قعود للإقبال على عمل ما ، كقول النابغة :
بأن حِصْناً وحياً من بني أسد *** قَاموا فقالوا حِمانا غيرُ مقروب
فليس في ذلك قيام بعد قعود بل قد يكونون قالوه وهم قعود .
وعرفوا الله بطريق الإضافة إلى ضميرهم : إما لأنهم عُرفوا من قبل بأنهم عبدوا الله المنزه عن الجسم وخصائص المحدثات ، وإما لأن الله لم يكن معروفاً باسم عَلَم عند أولئك المشركين الذين يزعمون أن رب الأرباب هو ( جوبتير ) الممثل في كوكب المشتري ، فلم يكن طريق لتعريفهم الإله الحق إلا طريق الإضافة . وقريب منه ما حكاه الله عن قول موسى لفرعون بقوله تعالى : { قال فرعون وما رب العالمين قال رب السماوات والأرض وما بينهما إن كنتم موقنين } [ الشعراء : 23 24 ] .
هذا إن كان القول مَسوقاً إلى قومهم المشركين قصدوا به إعلان إيمانهم بين قومهم وإظهارَ عدم الاكتراث بتهديد الملك وقومه ، فيكون موقفهم هذا كموقف بني إسرائيل حين قالوا لفرعون { لا ضيْر إنا إلى ربنا منقلبون } [ الشعراء : 50 ] ، أو قصدوا به موعظة قومهم بدون مواجهةِ خطابهم استنزالاً لطائرهم على طريقة التعريض من باب ( إيّاككِ أعني فاسمعي يا جارة ) ، واستقصاءً لتبليغ الحق إليهم . وهذا هو الأظهر لحمل القيام على حقيقته ، ولأن القول نُسب إلى ضمير جمعهم دون بعضهم ، بخلاف الإسناد في قوله : { قال قائل منهم كم لبثتم } [ الكهف : 19 ] تقتضي أن يكون المقول له ذلك فريقاً آخر ، ولظهور قصد الاحتجاج من مقالهم ، ويكون قوله : رب السماوات والأرض } خبر المبتدأ إعلاماً لقومهم بهذه الحقيقة وتكون جملة { لن ندعوا } استئنافاً . وإن كان هذا القول قد جرى بينهم في خاصتهم تمهيداً لقوله : { وإذ اعتزلتموهم } [ الكهف : 16 ] الخ . فالتعريف بالإضافة لأنها أخطر طريق بينهم ، ولأنها تتضمن تشريفاً لأنفسهم ، ويكون قوله : رب السماوات والأرض } صفةً كاشفة ، وجملة { لن ندعوا من دونه إلهاً } خبرَ المبتدأ .
وذكرو الدعاء دون العبادة لأن الدعاء يشمل الأقوال كلها من إجراء وصف الإلهية على غير الله ومن نداء غير الله عند السؤال .
وجملة { لقد قلنا إذاً شططاً } استئناف بياني لما أفاده توكيد النفي بِ ( لن ) . وإن وجود حرف الجواب في خِلال الجملة ينادي على كونها متفرعة على التي قبلها . واللام للقسم .
والشطط : الإفراط في مخالفة الحق والصواب . وهو مشتق من الشط ، وهو البعد عن الموطن لما في البعد عنه من كراهية النفوس ، فاستعير للإفراط في شيء مكروه ، أي لقد قلنا قولاً شططاً ، وهو نسبة الإلهية إلى من دون الله .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.