قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم } الآية : قال ابن عباس رضي الله عنهما وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم غلاماً من الأنصار يقال له : مدلج بن عمرو إلى عمر ابن الخطاب رضي الله عنه وقت الظهيرة ليدعوه ، فدخل فرأى عمر بحالة كره عمر رؤيته ذلك ، فأنزل الله هذه الآية . وقال مقاتل : نزلت في أسماء بنت مرثد ، كان لها غلام كبير ، فدخل عليها في وقت كرهته ، فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت : إن خدمنا وغلماننا يدخلون علينا في حال نكرهها ، فأنزل الله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا ليستأذنكم } " اللام " لام الأمر الذين ملكت أيمانكم يعني : العبيد والإماء ، { والذين لم يبلغوا الحلم منكم } من الأحرار ، ليس المراد منهم الأطفال الذين لم يظهروا على عورات النساء ، بل الذين عرفوا أمر النساء ولكن لم يبلغوا . { ثلاث مرات } أي : ليستأذنوا في ثلاث أوقات ، { من قبل صلاة الفجر وحين تضعون ثيابكم من الظهيرة } يريد المقيل ، { ومن بعد صلاة العشاء } وإنما خص هذه الأوقات لأنها ساعات الخلوة ووضع الثياب ، فربما يبدو من الإنسان مالا يحب أن يراه أحد ، أمر العبيد والصبيان بالاستئذان في هذه الأوقات ، وأما غيرهم فليستأذنوا في جميع الأوقات { ثلاث عورات لكم } قرأ حمزة والكسائي : ( ثلاث ) بنصب الثاء بدلاً عن قوله : ثلاث مرات ، وقرأ الآخرون بالرفع ، أي : هذه الأوقات ثلاث عورات لكم ، سميت هذه الأوقات عورات لأن الإنسان يضع فيها ثيابه فتبدو عورته ، { ليس عليكم } جناح ، { ولا عليهم } يعني : على العبيد والخدم والصبيان ، { جناح } في الدخول عليكم من غير استئذان ، { بعدهن } أي بعد هذه الأوقات الثلاثة ، { طوافون عليكم } أي : العبيد والخدم يطوفون عليكم فيترددون ويدخلون ويخرجون في أشغالهم بغير إذن ، بعضكم على بعض أي : يطوف { بعضكم على بعض كذلك يبين الله لكم الآيات والله عليم حكيم } واختلف العلماء في حكم هذه الآية : فقال قوم : منسوخ . قال ابن عباس رضي الله عنه : لم يكن للقوم ستور ولا حجاب ، فكان الخدم والولائد يدخلون فربما يرون منهم مالا يحبون ، فأمروا بالاستئذان ، وقد بسط الله الرزق واتخذ الناس الستور فرأى أن ذلك أغنى عن الاستئذان . وذهب قوم إلى أنها غير منسوخة ، روى سفيان عن موسى بن أبي عائشة قالت : سألت الشعبي عن هذه الآية ( ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم ) : أمنسوخة هي ؟ قال : لا والله ، قلت : إن الناس لا يعملون بها ، قال : الله المستعان . وقال سعيد بن جبير في هذه الآية : إن ناساً يقولون نسخت ، والله ما نسخت ، ولكنها مما تهاون به الناس .
هذه الآيات الكريمة اشتملت على استئذان الأقارب بعضهم على بعض . وما تقدَّم في أول السورة فهو استئذان الأجانب بعضهم على بعض .
فأمر الله تعالى المؤمنين أن يستأذنَهم خَدَمُهم مما ملكَت أيمانهم وأطفالهم الذين لم يبلغوا الحلم منهم في ثلاثة أحوال : الأول من قبل صلاة الغداة ؛ لأن الناس إذ ذاك يكونون نيامًا في فرشهم { وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ } أي : في وقت القيلولة ؛ لأن الإنسان قد يضع ثيابه في تلك الحال مع أهله ، { وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشَاءِ } لأنه وقت النوم ، فيُؤمَرُ الخدمُ والأطفال ألا يهجمُوا على أهل البيت في هذه الأحوال ، لما يخشى من أن يكون الرجل على أهله ، ونحو ذلك من الأعمال ؛ ولهذا قال : { ثَلاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ } أي : إذا دخلوا في حال غير هذه الأحوال فلا جناح عليكم في تمكينكم إياهم من ذلك ، ولا عليهم إن رأوا شيئا في غير تلك الأحوال ؛ لأنه قد أذن لهم في الهجوم ، ولأنهم { طَوَّافُونَ } عليكم ، أي : في الخدمة وغير ذلك ، ويغتفر في الطوافين ما لا يغتفر في غيرهم ؛ ولهذا رَوَى الإمام مالك وأحمد بن حنبل وأهل السنن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في الهِرَّة : " إنها ليست بنجَس ؛ إنها من الطوافين عليكم - أو - والطوافات " {[21344]} .
ولما كانت هذه الآية محكمة ولم تنسخ بشيء ، وكان عمل الناس بها قليلا جدًا ، أنكر عبد الله بن عباس ذلك على الناس ، كما قال ابن أبي حاتم :
حدثنا أبو زُرْعَة ، حدثنا يحيى بن عبد الله بن بُكَيْر ، حدثني عبد الله بن لَهِيعة ، حدثني عطاء بن دينار ، عن سعيد بن جُبَيْر قال : قال ابن عباس : ترك الناس ثلاث آيات فلم يعملوا بهن : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ [ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ ] } {[21345]} إلى آخر الآية ، والآية التي في سورة النساء : { وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ } [ النساء : 8 ] ، والآية التي في الحجرات : { إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ } [ الحجرات : 13 ]
وروي أيضًا من حديث إسماعيل بن مسلم - وهو ضعيف - عن عمرو بن دينار ، عن عطاء بن أبي رَبَاح ، عن ابن عباس قال : غلب الشيطان الناس على ثلاث آيات ، فلم يعملوا بهن : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ } إلى آخر الآية .
وقال أبو داود : حدثنا ابن الصباح بن سفيان وابن عبدة - وهذا حديثه - أخبرنا سفيان ، عن عبيد الله بن أبي يزيد ، سمع ابن عباس يقول : لم يؤمن بها أكثر{[21346]} الناس - آية الإذن - وإني لآمر جاريتي هذه تستأذن علي .
قال أبو داود : وكذلك رواه عطاء ، عن ابن عباس يأمر به{[21347]} .
وقال الثوري ، عن موسى بن أبي عائشة سألت الشعبي : { لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ } ، قال : لم تنسخ . قلت : فإن الناس لا يعملون بها . فقال : الله المستعان .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا الربيع بن سليمان ، حدثنا ابن وهب ، أخبرنا سليمان بن بلال ، عن عمرو بن أبي عَمرو ، عن عكرمة عن ابن عباس ؛ أن رجلين سألاه عن الاستئذان في الثلاث عورات التي أمر الله بها في القرآن ، فقال ابن عباس : إن الله ستِّير يحب الستر ، كان الناس ليس لهم ستور على أبوابهم ولا حِجال في بيوتهم ، فربما فاجأ الرجلَ خادمُه أو ولده أو يتيمه في حجره ،
وهو على أهله ، فأمرهم الله أن يستأذنوا في تلك العورات التي سمَّى الله . ثم جاء الله بعد بالستور{[21348]} ، فبسط [ الله ]{[21349]} عليهم الرزق ، فاتخذوا الستور واتخذوا الحِجَال ، فرأى الناس أن ذلك قد كفاهم من الاستئذان الذي أمروا به .
وهذا إسناد صحيح إلى ابن عباس ، ورواه أبو داود ، عن القَعْنَبِيّ ، عن الدَّرَاوَرْدِيّ ، عن عمرو بن أبي عَمْرو به{[21350]} .
وقال السُّدِّي : كان أناس من الصحابة ، رضي الله عنهم ، يحبون أن يُوَاقعوا نساءهم في هذه الساعات ليغتسلوا ثم يخرجوا إلى الصلاة ، فأمرهم الله أن يأمروا المملوكين والغلمان ألا يدخلوا عليهم في تلك الساعات إلا بإذن .
وقال مقاتل بن حَيَّان : بلغنا - والله أعلم - أن رجلا من الأنصار وامرأته أسماء بنت مُرْشدة صنعا للنبي صلى الله عليه وسلم طعاما ، فجعل الناس يدخلون بغير إذن ، فقالت أسماء : يا رسول الله ، ما أقبح هذا ! إنه ليدخل على المرأة وزوجها وهما في ثوب واحد ، غلامهما بغير إذن ! فأنزل الله في ذلك : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ [ ثَلاثَ مَرَّاتٍ ] } {[21351]} الآية .
ومما يدل على أنها محكمة لم تنسخ ، قوله : { كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } .
قال ابن عمر { الذين ملكت } يراد به الرجال خاصة ، وقال أبو عبد الرحمن السلمي يراد به النساء خاصة وسبيل الرجال يستأذنوا في كل وقت{[8755]} ، وحكى الزهراوي عن أبي عمر ونحوه ، وقيل الرجال والنساء كلهم مراد ورجحه الطبري ، وقرأ الجمهور الناس «الحلُم » بضم اللام وكان أبو عمرو يستحسنها ، وهذه الآية محكمة قال ابن عباس تركها الناس وكذلك ترك الناس قوله : { إن أكرمكم عند الله أتقاكم }{[8756]} [ الحجرات : 113 ] فأبى الناس إلا أن الأكرم هو الأنسب .
قال الفقيه الإمام القاضي : وهذه العبارة بترك [ الناس ]{[8757]} إغلاظ وزجر إذ لم تلتزم حق الالتزام ، وإلا فما قال الله هو المعتقد في ذلك العلماء المكتوب في تواليفهم ، أعني في أن الكرم التقوى وأما أمر الاستئذان فإن تغيير المباني والحجب أغنت عن كثير من الاستئذان ، وصيرته على حد آخر ، وأين أبواب المنازل اليوم من مواضع النوم وقد ذكر المهدوي عن ابن عباس أنه قال كان العمل بهذه الآية واجباً إذ كانوا لا غلق ولا أبواب ولو عادت الحال لعاد الوجوب .
قال الفقيه الإمام القاضي : فهي الآن واجبة في كثير من مساكن المسلمين في البوادي والصحارى ونحوها ، ومعنى الآية عند جماعة من العلماء أن الله تعالى أدب عباده بأن يكون العبيد إذ لا بال لهم والأطفال الذين لم يبلغوا إلا أنهم عقلوا معاني الكشفة ونحوها يستأذنون على أهليهم في هذه الأوقات الثلاثة وهي الأوقات التي تقتضي عادة الناس الانكشاف فيها وملازمة التعري في المضاجع ، وهي عند الصباح لأن الناس في ذلك الوقت عراة في مضاجعهم وقد ينشكف النائم ، فمن مشى ودخل وخرج فحكمه أن يستأذن لئلا يطلع على ما يجب ستره ، وكذلك في وقت القائلة وهي الظهيرة لأن النهار يظهر فيها إذا علا واشتد حره ، وبعد العشاء لأنه وقت التعري للنوم والتبدل للفراش{[8758]} ، وأما غير هذه الأوقات التي هي عروة أي ذات انكشاف ، فالعرف من الناس التحرز والتحفظ فلا حرج في دخول هذه الصنيفة{[8759]} بغير إذن إذ هم { طوافون } يمضون ويجيئون لا يجد الناس بدأ من ذلك . وقرأ ابن أبي عبلة «طوافين » وقال الحسن إذا أبات الرجل خادمه معه فلا استئذان عليه ولا في هذه الأوقات الثلاثة ، وقوله { بعضكم على بعض } بدل من قوله { طوافون } و { ثلاثَ عورات } نصب على الظرف لأنهم لم يؤمروا بالاستئذان ثلاثاً إنما أمروا بالاستئذان ثلاث مواطن ، فالظرفية في { ثلاث } بينة ، قرأ جمهور السبعة «ثلاثُ عورات » برفع «ثلاثُ » وهذا على الابتداء ، وقرأ حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم «ثلاثَ عورات » بنصب «ثلاث » ، وهذه على البدل من الظرف في قوله { ثلاث مرات } ، وهذا البدل إنما يصح معناه بتقدير أوقات «ثلاث عورات » فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه ، و { عورات } جمع عورة وبابه في الصحيح أن يجيء على فعلات بفتح العين كجفنة وجفنات ونحو ذلك وسكنوا العين في المعتل كبيضة وبيضات وجوبة وجوبات ونحوه لأن فتحه داع إلى اعتلاله فلم يفتح لذلك .
استئناف انتقالي إلى غرض من أحكام المخالطة والمعاشرة . وهو عود إلى الغرض الذي ابتدئت به السورة وقُطع عند قوله { وموعظة للمتقين } [ النور : 34 ] كما تقدم .
وقد ذكر في هذه الآية شرع الاستئذان لأتباع العائلة ومن هو شديد الاختلاط إذا أراد دخول بيت ، فهو من متممات ما ذكر في قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتاً غير بيوتكم حتى تستأنسوا } [ النور : 27 ] وهو بمفهوم الزمان يقتضي تخصيص عموم قوله : { لا تدخلوا بيوتاً غير بيوتكم } الآيات لأن ذلك عام في الأعيان والأوقات فكان قوله : { الذين ملكت أيمانكم والذين لم يبلغوا الحلم } إلى قوله : { ومن بعد صلاة العشاء } تشريعاً لاستئذانهم في هذه الأوقات وهو يقتضي عدم استئذانهم في غير تلك الأوقات الثلاثة ، فصار المفهوم مخصصاً لعموم النهي في قوله : { لا تدخلوا بيوتاً غير بيوتكم حتى تستأنسوا } . وأيضاً هذا الأمر مخصص بعموم { ما ملكت أيمانهن } [ النور : 31 ] وعموم { الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء } من قوله تعالى : { ولا يبدين زينتهن } [ النور : 31 ] الخ المتقدم آنفاً .
وقد روي أن أسماء بنت مرثد دخل عليها عبد لها كبير في وقت كرهت دخوله فيه فأتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت : إنما خدمنا وغلماننا يدخلون علينا في حالة نكرهها . فنزلت الآية ، ( يعني أنها اشتكت إباحة ذلك لهم ) . ولو صحت هذه الرواية لكانت هذه الآية نسخاً لعموم { أو ما ملكت أيمانهن } وعموم { أو الطفل } لأنها تقتضي أنه وقع العمل بذلك العموم ثم خصص بهذه الآية . والتخصيص إذا ورد بعد العمل بعموم العام صار نسخاً .
والأمر في قوله : { ليستئذنكم } للوجوب عند الجمهور . وقال أبو قلابة : هو ندب .
فأما المماليك فلأن في عرف الناس أن لا يتحرجوا من اطلاع المماليك عليهم إذ هم خَول وتَبَع . وقد تقدم ذلك آنفاً عند قوله تعالى : { أو ما ملكت أيمانهن } [ النور : 31 ] . وأما الأطفال فلأنهم لا عناية لهم بتطلع أحوال الناس . وتقدم آنفاً عند قوله : { أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء } [ النور : 31 ] .
كانت هذه الأوقات أوقاتاً يتجرد فيها أهل البيت من ثيابهم كما آذن به قوله تعالى : { وحين تضعون ثيابكم من الظهيرة } فكان من القبيح أن يرى مماليكهم وأطفالهم عوراتهم لأن ذلك منظر يخجل منه المملوك وينطبع في نفس الطفل لأنه لم يعتد رؤيته ، ولأنه يجب أن ينشأ الأطفال على ستر العورة حتى يكون ذلك كالسجية فيهم إذا كبروا .
ووُجّه الخطاب إلى المؤمنين وجعلت صيغة الأمر موجهة إلى المماليك والصبيان على معنى : لتأمروا الذين ملكت أيمانكم والذين لم يبلغوا الحلم أن يستأذنوا عليكم ، لأن على أرباب البيوت تأديب أتباعهم ، فلا يشكل توجيه الأمر إلى الذين لم يبلغوا الحلم .
وقوله : { الذين ملكت أيمانكم } يشمل الذكور والإناث لمالكيهم الذكور والإناث .
وأما مسألة النظر وتفصيلها في الكبير والصغير والذكر والأنثى فهي من علائق ستر العورة المفصلة في كتب الفقه . وقد تقدم شيء من ذلك عند قوله تعالى : { ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها } إلى قوله : { على عورات النساء } [ النور : 31 ] فلا ينبغي التصدي بإيراد صورها في هذه الآية .
وتعيين الاستئذان في هذه الأوقات الثلاثة لأنها أوقات خلوة الرجال والنساء وأوقات التعري من الثياب ، وهي أوقات نوم وكانوا غالباً ينامون مجردين من الثياب اجتزاء بالغطاء ، وقد سماها الله تعالى : { عورات } .
وما بعد صلاة العشاء هو الليل كله إلى حين الهبوب من النوم قبل الفجر . وانتصب { ثلاث مرات } على أنه مفعول مطلق ل { يستأذنكم } لأن مرات في قوة استئذانات .
وقوله : { من قبل صلاة الفجر } ظرف مستقر في محل نصب على البدل من { ثلاث مرات } بدل مفصل من مجمل . وحرف ( من ) مزيد للتأكيد .
وعطف عليه { وحين تضعون ثيابكم من الظهيرة ومن بعد صلاة العشاء } . والظهيرة : وقت الظهر وهو انتصاف النهار .
وقوله : { ثلاث عورات } قرأه الجمهور مرفوعاً على أنه خبر مبتدإ محذوف أي هي ثلاث عورات ، أي أوقات ثلاث عورات . وحذف المسند إليه هنا مما اتبع فيه الاستعمال في كل إخبار عن شيء تقدم الحديث عنه .
و { لكم } متعلق ب { عورات } . وقرأ حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم بالنصب على البدل من { ثلاث مرات } .
والعورة في الأصل : الخلل والنقص . وفيه قيل لمن فقدت عينه أعور وعورت عينه ، ومنه عورة الحي وهي الجهة غير الحصينة منه بحيث يمكن الدخول منها كالثغر ، قال لبيد :
وقال تعالى : { يقولون إنّ بيوتنا عورة } [ الأحزاب : 13 ] ثم أطلقت على ما يكره انكشافه كما هنا وكما سمي ما لا يحب الإنسان كشفه من جسده عورة . وفي قوله : { ثلاث عورات لكم } نص على علة إيجاب الاستئذان فيها .
وقوله : { ليس عليكم ولا عليهم جناح بعدهن } تصريح بمفهوم الظروف في قوله : { من قبل صلاة الفجر } وما عطف عليه ، أي بعد تلك الأوقات المحددة . فصلاة الفجر حد معلوم ، وحالة وضع الثياب من الظهيرة تحديد بالعرف ، وما بعد صلاة العشاء من الحصة التي تسع في العرف تصرفَ الناس في التهيؤ إلى النوم .
ولك أن تجعل ( بعدَ ) بمعنى ( دون ) ، أي في غير تلك الأوقات الثلاثة كقوله تعالى : { فمن يهديه من بعد الله } [ الجاثية : 23 ] ، وضمير { بعدهن } عائد إلى ثلاث عورات ، أي بعد تلك الأوقات .
ونفي الجناح عن المخاطبين في قوله : { ليس عليكم } بعد أن كان الكلام على استئذان المماليك والذين لم يبلغوا الحلم إيماء إلى لحن خطاب حاصل من قوله : { ليستئذنكم الذين ملكت أيمانكم والذين لم يبلغوا الحلم منكم } فإن الأمر باستئذان هؤلاء عليهم يقتضي أمر أهل البيت بالاستئذان على الذين ملكت أيمانهم إذا دعاهم داع إلى الدخول عليهم في تلك الأوقات كما يرشد السامعَ إليه قوله : { ثلاث عورات لكم } .
وإنما لم يصرح بأمر المخاطبين بأن يستأذنوا على الذين ملكت أيمانهم لندور دخول السادة على عبيدهم أو على غلمانهم إذ الشأن أنهم إذا دعتهم حاجة إليهم أن ينادوهم فأما إذا دعت الحاجة إلى الدخول عليهم فالحكم فيهم سواء . وقد أشار إلى العلة قوله تعالى : { طوافون عليكم بعضكم على بعض } .
وقوله : { طوافون عليكم } خبر مبتدأ محذوف تقديره : هم طوافون ، يعود على { الذين ملكت أيمانكم والذين لم يبلغوا الحلم } .
والكلام استئناف بياني ، أي إنما رفع الجناح عليهم وعليكم في الدخول بدون استئذان بعد تلك الأوقات الثلاثة لأنهم طوافون عليكم فلو وجب أن يستأذنوا كان ذلك حرجاً عليهم وعليكم .
وفي الكلام اكتفاء . تقديره : وأنتم طوافون عليهم دل عليه قوله : { ليس عليكم ولا عليهم جناح بعدهن } وقوله عقبه : { بعضكم على بعض } .
و { بعضكم على بعض } جملة مستأنفة أيضاً . ويجعل { بعضكم } مبتدأ ، ويتعلق قوله : { على بعض } بحبر محذوف تقديره : طواف على بعض . وحذف الخبر وبقي المتعلق به وهو كون خاص حذف لدلالة { طوافون } عليه . والتقدير : بعضكم طواف على بعض . ولا يحسن من جعل { بعضكم على بعض } بدلاً من الواو في { طوافون عليكم } لأنه عائد إلى { الذين ملكت أيمانكم والذين لم يبلغوا الحلم } فلا يحسن أن يبدل منه بعض المخاطبين وهم ليسوا من الفريقين إلا بتقدير .
وقوله : { كذلك يبين الله لكم الآيات } أي مثل ذلك البيان الذي طرق أسماعكم يبين الله لكم الآيات ، فبيانه بالغ الغاية في الكمال حتى لو أريد تشبيهه لما شبّه إلا بنفسه . وقد تقدم عند قوله تعالى : { وكذلك جعلناكم أمة وسطاً } في سورة البقرة ( 143 ) .
والتعريف في { الآيات } تعريف الجنس . والمراد بالآيات القرآن فإن ما يقع فيه إجمال منها يبين بآيات أخرى ، فالآيات التي أولها { يا أيها الذين آمنوا ليستئذنكم الذين ملكت أيمانكم } جاءت بياناً لآيات { يأيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتاً غير بيوتكم } [ النور : 27 ] .
وجملة : { والله عليم حكيم } معترضة . والمعنى : يبين الله لكم الآيات بياناً كاملاً وهو عليم حكيم ، فبيانه بالغ غاية الكمال لا محالة .